التفقّه في ثقافة حقوق الإنسان

اختتم الدكتور هيثم منّاع الناطق الرسمي باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان ندوته القيّمة التي أقيمت في جمعية التجديد الثقافية على هامش مؤتمرها “شرائع السماء وحقوق الإنسان .. عودة إلى الجذور” اختتم ندوته “الأبعاد القانونية للاغتيالات السياسية .. المبحوح أنموذجاً” متأسفاً على أن ثقافة حقوق الإنسان في الوطن العربي لا تزال تشكو من نظرة غير راشدة حيث أن الناس يتحمّسون لدفع أموال الزكاة لكفالة الأيتام أو لتمويل المشاريع الخيرية والمؤسسات التي تعنى بشئونهم، ولكنهم يتردّدون بل ويمتنعون عن تقديم جزء من هذه الأموال لتُنفق من أجل قضايا حقوق الإنسان ظنّا منهم بأن في ذلك إشكالا شرعيا، ومؤكّداً على أن هناك نواة لحركة حقوق إنسان قوية ومستقلة تنطلق من حاجات الناس الحقيقية لا من أجندات خارجية، تستحق التأييد والدعم.

تنصّ المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: “لكل إنسان حق الحياة والحرية والأمن” وهي ما توافق على أنها (الحقوق الطبيعية) بمعنى أنها (هبات) من الله سبحانه وتعالى وليست مكتسبة، ولا هي منحة من الدولة أو من أي شكل من أشكال السلطة، وبدونها لا يستطيع المرء أن يعيش بكرامته الممنوحة له من الله “ولقد كرّمنا بني آدم” فلا يحق له التنازل عنها، بل هو محاسب إن فرّط في تحصيلها، وبالتالي فمن (واجبه) أن يدافع عنها بكل الطرق المشروعة كما جاء في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وما قبلها من أعراف قديمة تستند إلى الفطرة السليمة، أو التشريعات الوضعية، أو الوصايا الشرعية.

رغم أن هذه الحقوق مكفولة عرفاً، وشرعاً، وقانوناً، إلاّ أن معظمها مهدور في الدول الإسلامية والعربية – على وجه الخصوص – إما بسبب الجهل بها وبشرعيّتها من قبل القائمين على المؤسسة الدينية وتابعيهم، أو لغياب هيبة القانون وانتهاكه من قبل السلطات المستبدّة، ما أوقع أبناء الأمة في مأزق حقوقي/قانوني لا فكاك لهم منه إلاّ بالعلم والعمل، فإذا علموا أن تلك القوانين الوضعية تتناغم مع الأعراف الإنسانية، وتتّفق مع التشريعات الدينية الأصيلة، سيقطعون الطريق على (الاستبداد الديني) من الاستمرار في غوايتهم وإيهامهم بأن المنافحة عن هذه الحقوق المشروعة مخالف للشريعة .. وبالعمل الدؤوب، الممنهج، والمهني لإحقاق جميع الحقوق الطبيعية والمكتسبة، الشرعية منها والوضعية سيقطعون أيدي العابثين بالقوانين وتجييرها لصالح الأقوياء على حساب الضعفاء، وبذلك يتأهّلون معرفياً ومهنياً للاستفادة من أحد أدوات نشر العدل ونصرة المظلومين.

الأمّة ضاعت حقوقها بين حكومات متسلّطة عرفت كيف تستفيد من اللعب بورقة حقوق الإنسان لتبيّض وجهها في المحافل الدولية، وتستمرئ أكل حقوق الناس بغطاء قانوني، وبين قيادات دينية أكثرها غائب وغافل عن حسن استخدام تلك الأدوات الشرعية للمطالبة بحقوق الناس المضيّعة، فلا هي تأخذ خطوة إيجابية نحو ذلك ولا تسمح لمؤيديها أن يستفيدوا منها بحجة إنها قوانين وضعية وتتضارب مع القوانين الشرعية مع أن الدين كلّه جاء لنشر العدالة بين الناس “لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”، فلا أُخذت الآيات بمنطوقها، ولا فُهم الدين بمقاصده، فبتنا أكثر الناس جهلاً بحقوقنا، وما فتئ منهم من يكرّر بأن الإسلام هو أوّل من أرسى قواعد الحقوق، ويستشهد بقصص من حياة رسول الله (ص) حفظها عن ظهر قلب ويلوكها ليعظ بها الآخرين، وما ذاق يوماً حلاوة العمل بها.

ربما كلّنا يعرف قصة الفقير الذي راح يتكفّف عند رسول الله (ص) فأعطاه فأساً وطلب منه أن يأكل من عمل يده لأن الصدقة قد تكفيه وحده يوماً بينما العمل يعيله وأهله وعياله مادام يعمل، ولو فُهمت ثقافة حقوق الإنسان بأنها بمثابة هذا (الفأس) والأداة التي إن أُحسن استخدامها لتحقّق العيش بكرامة وحرية وأمان لأهل الأرض وليس للناشطين الحقوقيين فقط، وإن المال الذي يُدفع لكفالة يتيم هنا أو إغاثة ملهوف هناك لو صُرف لإقامة مشاريع تعيد الحقوق المضيّعة لأهلها لانتشر الخير على وجه البسيطة.

“اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره” .. ركيزة من ركائز ثقافتنا الإسلامية، نردّدها بألسنتنا ولا نفعّلها في حياتنا إلاّ قليلاً، وكأن الله بحاجة لئن نقدّم له اعتذارنا بينما هو شاهد على تقاعسنا عن كل أنواع النصرة لشتّى أشكال الظلم، فكم من مظلوم – من بشر، وحيوان، وطير، وماء، ونبات، في أرض وسماء – يُظلم بحضرتنا في أوطاننا وخارجها، وكم من سبيل لنصرتهم متاح لنا، بعضها لا يكلّف إلاّ ضغطة إصبع لنصوّت ضد إدانة مظلوم أو تبرئة ظالم، وأخرى تستدعي تضحيات أكبر من جهد ومال، وبعضها قد ترخص النفس والمهج دونها، فرقعة نصرة المظلوم وإحقاق الحقوق عرضها كعرض السماء والأرض لكثرة انتشار الظلم وتنوّعه، وحافزنا الأخلاقي هنا أن “لا تستحِ من إعطاء القليل – لإحقاق حق – فإن الحرمان أقلّ منه”.

قد يتعلّل بعض الرازحين تحت نير الظلم بأنهم ليسوا أفضل من يدافع عن المظلومين، بحجة أن فاقد الشيء لا يعطيه، إلاّ أن ينفكوا من أسر الظلم الواقع عليهم، وهذا اعتقاد خاطئ بالتأكيد، لأن المكتوي بنار الظلم وسياطه هو الأقدر على حمل قضايا حقوق الإنسان والتفاعل معها فصاحب الشيء أحقّ بحمله، وخير منه من يستشعر الظلم الواقع على غيره وإن لم يقع عليه شخصياً فيتحرّك – لا انتقاماً وتشفّياً من ظالميه – بل بدافع ذاتي مبدئي، إيماناً منه بأنه إن تلكّأً فستدفع الأجيال القادمة الثمن مضاعفاً، وأنّ له وقفة قد تطول أمام محكمة العدل الإلهي والقانون الكوني حيث لا يُقبل اعتذار ولا ينفع ندم.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة