فُرضت العبادات على المؤمنين بالله تعالى لغايات تتجاوز حدود الشكل، والزمان والمكان، غايات تتصل بمفعولها التربوي التراكمي والمستمر في صياغة الإنسان إنْ أحسن الأداء، أما حين تفقد هذه العبادات مضامينها فإنها تصبح طقوساً خاوية بلا جوهر، وربما تكون صورة إيمان المرء أحياناً أفضل بكثير من إيمانه! إذْ قد يبدو على الرجل سيماء الإيمان والالتزام والاتزان في المواقف زمن الرخاء، ولكنه في حالة الشدة يختلف تماماً عمّا وصف به المتقين أميرُهم(ع) حين قال: (نُزِّلتْ أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزِّلتْ في الرخاء).
فحقيقة إيمان المؤمن تتجسد في الالتزام الصادق بالمبادئ والقيم وفي جميع الظروف الحياتية، وليس بالالتزام بظاهر الإيمان في حال الرخاء فقط، وحين الشدائد ينسلخ من إيمانه انسلاخ الحية من جلدها، ولا بالالتزام به حميةً وقت الشدة ومواجهة الأعداء وحين الرخاء تتراخى الهمة، كما حصل لبعض المسلمين في أمر القتال، طلبوه في مكة فمُنعوا منه ولمّا كُتب عليهم في المدينة تلكّأوا: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(النساء:77).
وسيظل إيمان الفرد عرضةً للامتحان في الظروف المختلفة حتى ينال المؤمن الدرجة التي يستحق (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(العنكبوت:2)، هنا يكون دور العبادة اليومية أو السنوية المحافظة على مستوى إيمان الفرد على أقل تقدير، إنْ لم يستطع –وهو المطلوب- أن يرتقي بها درجات في سلم الإيمان لتحقيق إنسانيته، ولن يستطيع فعل ذلك طالما مارسها بحكم الروتين والعادة في ظل غياب الوعي بحقيقة غاياتها.
يُفترض بالمسلمين، وهم أتباع خير الرسل وخاتمهم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، أن يكونوا خيرَ مثالٍ للمؤمنين بالله سبحانه على وجه الأرض، لكثرة ما شرّع الله عزّ وجلّ لهم من الطرق الموصلة إليه سبحانه، من صلاة تُؤدّى له خمس مرات في اليوم الواحد، وإنفاق في سبيله على الفقراء والمساكين، وصيام هو بمثابة الضيافة الروحية لمدة شهر كامل في السنة، ودعوة لزيارة بيته الحرام، لمن استطاع ولو لمرة واحدة في العمر، حيث نقطة البداية والأنسنة، كل ذلك يؤهلهم لأن يعودوا إلى إنسانيتهم الضائعة اليومَ بسبب اتباع السبل المفرّقة عن سبيله القويم حتى بات البعض يكفّر البعض الآخر ويضرب البعض رقاب بعض! خلافاً لما أوصى به الرسول الأعظم(ص) في حجة الوداع.
فالحجُ –وهذه أيامه- دورةٌ تدريبية عمليّة لإجراء التغيير أو التطوير المنشود، ولن يكون كذلك إذا لم تلامسْ تلك المشاعر المقدسة والمناسك قلب الحاجّ وروحه بمعانيها السامية، ويرى أثرها تغييراً وتطويراً في حياته، وبقيت في حدود الممارسة الشكلية فقط، فلباس “الإحرام” الأبيض ينبغي أن يعكس صفاء النية وخلوصها والصدق في العزم، و”الوقوف بعرفة” للتعرّف على الله وعلى مساواة العباد الآخرين له بلا علوّ عليهم بل بإخاء محض تجاههم، وأيضاً للاعتراف بقصور النفس وضلالها وضعفها بمحضر خالقها وطلب العون منه للتغيير، ثم “الإفاضة” إلى حيث البحث عن الأدوات المناسبة (الجمرات) والاستعداد لاقتحام “العقبة الكبرى”، وهي الخطوة الأولى للإقدام على أي مشروع تغييري وما يواجهه من تردّد نفسي داخلي أو مثبِّط خارجي، والتي لن تتم إلا بشيء من التضحية (الهدي)، وأن تكون خالصة لله سبحانه بأن يضع دائماً نصب وعيه الهدف الذي من أجله انطلق (الطواف)، ثم مواصلة “السعي” لتحقيق ذلك الهدف مهما اختلفت الظروف ليكون جزءاً من المشيئة الربانية فيعيش واقعها ضمن إرادته سبحانه، وهكذا يستمر الحاج في أداء مناسكه ليخلص في النهاية مشروعاً إنسانياً واعداً، أي يصبح تجاه الخطايا وتجاه استقامة فطرته (كمن ولدته أمه). هكذا حال الفرد فكيف لو كانت الولادة للأمة المجتمعة من جميع الأقطار في هذا الموسم العظيم، حقاً سيكون الحج كما جعله الله سبحانه تشييداً للدين الصحيح.
فليس الهدف من تلكم الشعائر الأداء فقط، وإنما لما تستدعيه من تأثير على النفس (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(الحج:37)، الهدف أن يعود المسلم إلى إنسانيته، أن يكون مثيلاً للرب فيتخلق بأخلاق الله في عباده وخلقه وأرضه، فإنْ عاد، حقّ له أن يحتفل بعودته وبعيده بعد أداء واجبه وتحقّق النتيجة، فليس العيد لأنّ يومه يعود علينا كل عام، إذْ ليس كلّ مَنْ يعود عليه العيد فهو عيدٌ له، نعم هي فرصة له للعودة والتدارك والتوبة والرجوع، وإنما هو عيد لمن آب وعاد فعلاً في ذلك اليوم إلى إنسانيته التي فطره الله عليها، كما عبّر عنه الإمام علي(ع) بقوله: (كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد) جعلنا الله وإياكم فيه من العائدين.