كحال شبّانٍ كثيرين لم تعضّهم التجربة ويقوِّمهم التهذيب ليتوهّج ضميرُهم، لهم شطحاتهم ومقالبهم واستعراضاتهم والتفكير بذواتهم ونزواتهم وإهمالهم العواقب، قام أحدُ شلّة الرعيان وذبح شاةً صغيرةً وشواها ليأكلوها، وفي يقينه أنّ المالك لن يُلاحظ لكثرة الغنم والنتاج، ولو فرضاً لاحظ وسأل.. فبالجعبة تبريراتٌ عدّة جاهزة للانطلاء؛ ضاعت مثلاً، نفقت، أكلتها الذئاب..الخ، ممّا نُتقنه لاجتياز معظم ورطاتنا وتمشية شئون حياتنا، وتمشي الكذبة!
لكنْ ثمّة “شابٌّ مليح” برزَ فوق التحيّزات، فليس انتسابه لشلّته أو مذهبه وطائفته، بل للحقوق و”الصدق والأمانة” فقط، ولو على صحبِه ونفسه وروابطه ومصالحه، ذلك “الراعي المليح” غضب وثار على شلّته وأمسك بالفاعل وقيّده وسلّمه لمالك الغنم، ليس طمعاً بجائزة وبمديحٍ، ولا خوفاً من خالقٍ -لمّا يتعرّف عليه بعد- بأنّه يراقبه وسيعاقبه على خيانة “الأمانة” أو السكوت الشيطاني عليها، وأنه يُعاقب على “الكذب” الرخيص الذي يبرّر جرائم سرقة المال الخاصّ والعام والعدوان على الحقوق بدجل القانون وبالوثائق وبالحبكات وبالإعلام، لا لم يكن الجبّارُ بباله إذ لم يعرف إيماناً ولا كتاباً بعد، لكنّه كان يمتلك “ضميراً واعياً”، وإنْ قال له الشبّان “لا تعقّدها، فالجميع يفعل هذا، اعتبرها يا أخي استرجاع حقّ، فرواتبنا قليلة، وحالتنا مزرية، والمالك لن يتضرّر لفقدان غنمة صغيرة وهو يتمرّغ بفوائض الأموال والعقارات والقطعان”!
لكنّ صوت ضميره يهمس له: “لا تسقط، أنت لست بخائن، أنت مختلف”! هنا محلّ اتّصال الأرض بالسماء، من “الضمير الحيّ” ذي النظرة الشاملة التي تخطّت نُظم الغشّ والخداع، الرافض للظلم والاعتداء وتلميع المظاهر، الضمير الذي يُبصر عواقب الأفعال، والمُدرك أنّه لن تتّصل السماءُ عبر لحيةٍ ومسباح، أو عمّةٍ ومداسٍ وتقبيل الرأس، ولا عبر منارة مرفرفة وقبّة مزخرفة، ولن تُجاوز التراتيلُ حنجرته ولو ناحت بكثرة الصلوات والعمرات، وأنّ مظاهرَ التنطّع وحفْظَ الأوراد، ومصطلحاتِ تخصّصات الدين وغوامض الكلام، أيقن أنّها لن تُوصل الأرض بالسماء، المهبطُ والمرصدُ السماوي “ضميرُه الحيّ” وحسب، هو جوهرُه الحقيقي، “مَنْ كانَ لهُ قلبٌ”، لذلك ذلك “الشابّ المليح” خلا مِن جميع تلك المظاهر وحاز “ضميراً” فحسب، لم يكُ معمّماً ولم يمتلك سبحةً ومأتماً، نعم بيده عصا لكن ليرعى غنماً، لذلك غضب لانتهاكٍ شبابيٍّ يبدو هفوةً بريئةً ومسلّيةً، لأنّه رآها بحقيقتِها؛ “خيانة” للأمانة، و”كذبًا” بالتبرير.
طبعاً خسَر شلّته، لكنّه مُذّاك أُطلق عليه “الصادقُ” “الأمينُ”، وظلّ يُصطَنع بمطارق الضمير، ينكر منكراته؛ مِن ظلم وسفاهة واعتداء، ومن فلسفات مادّيةٍ عقيمة تجعل الدنيا أكبر همّنا، صار يرتحل تجاه الجبال وآفاق المدى يبحث عن خير هُدى، حتى آذنت السماء بموعد أوان اختياره “رسول الله وخاتم النبيّين”، فهبطت تُقرؤه برنامجها الخاتم، لمشروع إصلاحها الموسوعيّ الأعظم.
فبمناسبة “البعثة النبويّة” التي نعيش ذكراها بانصرام رجب وبدخول شعبان شهر نبيّنا(ص)، نبارك لأمّتنا بزوغ خير البشر فيها(ص)، فلولاه لما كانت ولما كان أحد، كلّ خيرٍ لدى الأمم هو من فضل محمّد(ص)، بإمكاننا حذف أيّ شخصيّة من التاريخ دونما إفساد الشيء الكثير، إلاّ محمّداً(ص) لو حذفناه لانحذف التاريخ بعده كلّه، لأنّه الذي صنع التاريخ.
لولاه لما عُرفتْ القيم والأخلاق اليوم، لا شرعةُ حقوق، ولا علومُ حضارة، ولسدرت الشعوب في غيّ همجيّتها، عُكّفاً على نيرانها وأوثانها وغاراتها، لولاه لبادت علومُ اليونان التي أحياها تابعوه وأودعوها قلب أوروبا، ولما قام ضدّ كهنوت وجبروت الكنيسة شيء، لا عصورُ نهضة ولا أنوار، ولا فلاسفةٌ وأحرار، فكلّهم رضعوا فيض علوم حضارة المسلمين بشتّى الميادين، فحرّرت عقولهم وفتحت آفاق البحث والاستقراء، وعولمت المدراس والمكتبات والمعرفة والترجمات.
لو لم يُبعث(ص) لأُجهض مشروع صنع الإنسان ولانقرض البشر، بتخلّفهم وتناحرهم، وبكوارث الطبيعة وأوبئتها، لولاه لما بقي دينٌ وأخلاق، ولما تطوّرت اللغة وتعزّزت، ولما عُرفت علوم تصوّف، وفلسفة، وروحنة، ومنطق، واقتصاد، ورياضيات، وطبّ، وفيزياء، وكيمياء، ونبات، وفلك، ودقائق الصناعات، البعض يظنّ بهذه مبالغة، وهي دون الحقيقة بأشواط!
فالسماء اختارت محمّداً(ص) رحمةً بالعالمين، ليُنقذ بشَرَهم من مآلات الإبادة والضياع، بِعثتُه جاءت لتنبّه العقول بوجود مخرج من ظلماتهم إلى النور (أي من مجتمع تنخر فيه الأنانية الفرديّة، وتصدّعات الفئويّة الطائفيّة، إلى مجتمعِ سلامٍ يُعيد للناس إنسانيتهم ويربطهم برباط الأخوّة والمحبّة).
فلذلك كان (الرحمة المهداة)، يسع العالمين صدرُه، يُحاور كلّ الافتراضات والعصبيّات بصبر لا حدود له، لغتُه التسامح والمنطق والتجاوز والرحمة، تغزو القلوب وتأسرها، لذلك لم يُعادَ لغيرِ أفكاره الإصلاحية، لا لخصومةٍ وأحقادٍ مع أحد ولا لفظاظةٍ واعتداء.
اليوم، واحتفالاً بذكرى “البعثة النبويّة” المهداة بخطابها السامي “رحمةً للعالمين”، وتأييداً للمناشدات الملكيّة بصياغة خطاب ديني منفتح يُؤسّس لتعاطف طائفي، وتسامح مذهبي، ومصالحة وطنية، فلنفحصْ كيف تسامحُنا؟ كيف لغة خطابنا وخطبائنا؟ أمحمّدية النهج والأخلاق والغايات، أم تأجيجيّة وفئويّة تنشّط هواجس الارتياب والقطيعة بيننا؟!
سائلْ “إنسانك المليح”، أغلقْ عليك الباب مختلِياً، ماذا ترى؟! اخْرُج أمام جمهورك معتلياً، ماذا ترى؟! إن لم تر “الله” “بضميرك” في الحاليْن ينظر إليك، فأنت والشابُّ المليح محمّد(ص) خصمان.. وإلى الأبد.