بيان التجديد في ذكرى المولد النبوي الشريف 1430هـ

أهدانا نهج السلام الداخليّ والعالمي فماذا نهديه في مولده (ص)؟

تستعيد أمّتنا اليوم ذكرى ولادة محمد (ص) طفل مكة المبارك، وصبيها اليتيم، ذلك الذي عرف جادّا في مسيرته، منضبطا بعقال أخلاقه دون رقيبٍ من خارجه، متحرّرا من قيد مشايعة أقرانه من شباب مكة الغارقين في الشهوات الجاهلية، شاب اكتمل جماله باكتمال محاسن خصاله، فعرف في جزيرة العرب بالصادق الأمين.

تمرّ الأيام فلا يزداد إلاّ رفعة وسموّا، حتى إذا قارب منتصف عمره تخلّى من هموم المعيشة إلى حيث الصفاء، وحيدا في وحشة غار حراء، يتحرّى الحقيقة، ويتفكّر في شأن الخلق والخالق وسُبل إصلاح العبثيّة والفساد، يطلب إجابات أسئلته الكبرى المحيّرة عقله، والموقدة فكره، يريد معرفة اليد التي قلّبته وما زالت في الأحوال على امتداد عمره لتُفقده أباه جنينًا، ثمّ أمَّه طفلاً، ثمّ جدَّه صبيّاً، تُفقده العائل بعد العائل وتُنقض ظهره، كأنّها تغار إلاّ أن تُعيله هي، ليأتيه الجواب: أن اقرأ كتاب حياتك ضمن كتاب الحياة، اقرأه باسم ربّك ستجده منتظما في عقد فريد، صاغته إرادةٌ حكيمة، “واصطنعتُك لنفسي”، الرحمن هو مَن يتّمك ورعاك، فاقرأ باسمه كتاب الخلق وأطوار الحياة، الرحمن من هذّبك وربّاك فانظر بعينه إلى كلّ شيء مِن حولك، ستجده في كل نفَس ومع كل خطوة.

هكذا صنع محمّد على عين الله، محمّدٌ بإرادته الحرّة الواعية أراد الله فاستخلصه الله لنفسه، أراده ليكون الصلة بين الأرض والسماء ليستنقذ الإنسانية جمعاء: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ”، أرسله للناس ليحيي معالم دين الفطرة بعدما اندرست بطغيان منظومة الكذب والتضليل والإلحاد، أرسله ليناضل من أجل الإنسان ليستعيد سيادته على نفسه ويتحرّر من براثن قيود الوعي والإرادة، كما فعل هو (ص) بنفسه عبر مسيرته، جاهد “ذئاب” قريشٍ لتُخلي بينه وبين الناس ليُسمعهم رسالته فقط ثم ليختاروا الانفلات من إمّعيّتهم لجلاّديهم، جاء بنهج عدم الوصاية على العقول لتثويرها، أليس يريد تحريرها؟ “لستََ عليهم بمسيطر” “وما أنتََ عليهم بوكيل” “وما أنتََ عليهم بجبّار”، وصايا جواهر تنتظم لتُؤسّس قاعدةً استتمّها الوحي بعدئذٍ: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”، لإرساء نهجٍ يزدري الإكراه، وسبيلٍ تعتمد الدعوة السمحاء بالحكمة والموعظة الحسنة: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” ليترسّم الآخر بعقلِه وبقرارٍ ذاتي سبيلَه إلى التحرّر على خُطى سيرةِ المتحرّر الذاتي الأوّل (ص)، فلذلك كان رؤوفا رحيماً، خطيبا مقنعا، داعيًا “بإذنه” وسراجًا منيرًا، تسبق سماحتُه قوله إلى قلوب مستمعيه، “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ” يصوغ القدوة التي يجب استلهامها روحًا لدى كلّ بشير ونذير.

في أفياء ذكرى مولده المبارك نذكّر أحبابنا بقيَمِه التي جاهد لإسراج رسالتها في أمّته لتُصبح “خير أمّة”، وبتخلينا عنها آلت أوضاع المؤمنين والإنسانية إلى شتات:

وحدة الأمة أسنى غايةٍ رسّخها بين أصحابه مع تنوّعهم، أبيضهم وأسودهم، غنيّهم وفقيرهم، عربيّهم وأعجميّهم، ألّفهم بقول “لا اله إلا الله” وجعلها حصنهم الحصين، مَن دخله -ولو بعد عداء- تُصان حرماته: دمه وماله وعرضه، قاعدةٌ لم يرحل (ص) حتى أعاد تأكيدها ببيانٍ فصيح، ليقينه أنّ هلاك أمّته بتركها، وأنّهم سيفعلون!

“عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ”، سعى إلى مؤاخاة الإنسانيّة كافة، وجماعة المسلمين خاصة، وصدى صوته ما زال يتردّد ضدّ مناهج التفريق العنصريّة: “كلكم لآدم وآدم من تراب”، فبيارق التفاضل بالعرق والمذهب والطائفة لا تخفق إلا برايات الجاهلية، لتستفزنا إلى معارك لا يرضاها الله وتُشاقق رسوله.

عقَد (ص) تحالفات السلم والجوار مع مختلف القبائل، مشركيها وكتابيّيها، وجنح للسلم مع الجميع بلا استثناء، فالسلام في ثقافته أصلٌ ثابت، فما بال مذاهب أمّته وطوائفها أسقطت هذا المبدأ فيما بينها ومع المختلف المسالِم؟! تالله لقد نسي محتكرو الحقّ والهدى أخلاق السلم والرشاد المحمّدية.

كان (ص) مثال الإنسان الحرّ قبل أن يكون رسولاً، فالحرّية الذاتية تُعجب السماء، بها يترك المرء خسيس المسالك ويعمل بما يُرضي ضميره، الصدقُ والأمانة والكرم والشجاعة والعدل، بهذه القيَم الفطريّة تاجر مع الجميع، ثمّ بُعث لإتمام مكارمها على قومه والعالمين، فأيّ عذرٍ لنا إن تجاوزنا -كدينيّين ومذهبيّين- تلك القيَم ومنبعها الضمير الحرّ قبل مشكاة الدين؟ لم خسرنا أشدّ أنوارنا بريقاً؟!

بهذه الذكرى المحمّدية المسرجة للاستضاءة والانتهال، نسأل الرحمن تقويمنا على نهجه الوضّاء؛ بإفشاء المحبة والتآخي والتراحم والسلام بين أبناء أمّته، لتعود الشاهدة بقيمها الخيّرة على الأمم، رافعةً لواء مبادئ الحمد التي يُباهي بنا محمّد(ص) سائر الأمم، هديّةً منّا بمولده إليه، بدل أن نكون سُبّةً وخزياً عليه.. صلوات الله عليه.

جمعية التجديد الثقافية
12 ربيع الأول 1430هـ

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة