تخشيبُ الملائكة المقرّبين بمعبد صهيون

بحسب موّالٍ مصريّ “فيه ناس بتأخذ كلّ حاجة..”، فثمّة فئاتٌ تحتكر الدين كلّه وتفسيره بلا مُسوّغٍ ولا أهليّة، وثانية تحتكر العلوم والمعلومة والتقنيّة ظلماً وعلوّاً، وثالثة تحتكر السلطة والسياسة بلا شريك ومنازع، ورابعة تحتكر السلع وضرورات الناس، وجميعُهم على الشعوب “سجونٌ متلاصقةٌ.. سَجّانٌ يُمسك سجّان”. حين سادت دوَلُ محتكري السياسة المتحالفة مع محتكري الدين.. دِيسَ في بطون الفقراء والمصلحين، وحين انهال على أمّتنا المستشرقون مع المدّ الاستعماري.. بأُحاديّتهم الدينيّة التوراتية.. حاكوا تاريخاً لأمّتنا قائماً على الدسّ والتدليس والتفسيرات الفجّة الخاطئة لمكتشفات الألواح والرُّقُم والمسارد والجداريّات.

كباحثٍ في جمعيةٍ تُعنى بمراجعة تراثنا.. وتقصّي “آثار الزيغ والأهواء” وتلمّس “حبائل الكذب والافتراء”، أحاول مستطاعي القبضَ على خيوط التزوير والتضليل التي تلفّنا وتستلب وعينا وتكاد تشنقنا وتخنقنا بكثافة شباكها العنكبيّة.. لتبقينا عقيمين ومعوَّقين فكريّاً، وجدتُ كمّاً مَهولاً من التفسيرات والترجمات المغلوطة للتوراة (ما يُسمّى بالعهد القديم)، في دلالةٍ بارزةٍ على جهل ومكابرة المفسّرين والمترجمين الذين يحتكرون نصوص الدين ويُقدِّمون تفسيراتها للنّاس، مثلما وجدتُ مهولات الأغاليط تطمّ تفاسير آيات القرآن الحكيم ونصوص النبوّة بأمّهات المسائل العلميّة والاعتقاديّة.. ولكنّها مع الأسف هي الشائعة بل تُعدّ يقينيّات العلم والإيمان ونقيضها سخفاً وهرطقة.. حتّى بات لها السطوة على مفاصل حياتنا.. عليها تقوم أعمدةُ مذاهب الدين والسياسة، وبها صار يُسترزَق ويُستأكَل..

أسوق للقارئ اللبيب عيّنةً مضحكةً مِن تلك النماذج.. لفقرةٍ مِن سفر حزقيال (41: 18).. عن رؤيا كشفَها الربُّ لنبيّه “حزقيال” بكيفيّة بنائه معبدَ الربّ (الهيكل) وهيئته.. وبالأخصّ حُجرة “قدس الأقداس”.. تنصّ: “وَعُمِلَ فِيهِ كَرُوبِيمُ وَنَخِيلٌ (تمورة)، نَخْلَةٌ بَيْنَ كَرُوبٍ وَكَرُوبٍ”، فالنصّ يشرح أنّ غرفة المعبد شُيّدت بواسطة جذوع نخل التمر و”كروب”، كلمة “كروب” حيّرتْ “التوراتيّين” الغربيّين في معناها وإلى الآن.

جهلُ المستشرقين الهُواة واللاهوتيّين الأغرار الذين يعتقدون أنّهم محتكرو “تفسير النصّ” و”أهلُ الاختصاص” بترجمته، أجابوا بقاموسِهم: “كروب” كائناتٌ ملائكية، أو حُرّاس جنّة عدْن، أو تماثيل لملائكة على طرفيّ تابوت العهد (Ark of the covenant).. فاستنتجوا أنّ المعبد مُشيّدٌ بسياج النخيل ومِن ملائكةٍ تحرسه! أو مرصّعٌ بمنحوتاتٍ لصوَر الملائكة!

حقّاً شرّ البليّة ما يُضحك، وأنّ ثمّة حدوداً للذكاء لكنْ ليس للغباء، وحقّاً أنّ العاقل مَنْ يضع الأمور موضعها، إلاّ أنّ هؤلاء يفتقدون ركائز وضع الأمور موضعها لأنّهم انهالوا على المنطقة بمركزية وباستعلاء.. حرمتهم الاستفادة من علومها العربيّة وثقافتها الدينيّة، فكان أوّل مجافاة “للعلميّة” تحييدهم العربيّة بلهجاتها عن فهم النصوص، مع كون الملَل الإبراهيمية عربيّة اللهجة.. أكانت سريانية (أعجميّة) بلهجاتها أو فُصحى عرباء بلهجاتِها!

إنّ كلمة “كروب” السريانية متطابقة المعنى بكلّ اللهجات العربيّة.. فتعني مرّةً “كرّوب/قرّوب” مُقرَّب (ومن هذه جاءت كلمة “قروب/Group” التي تعني مجموعة متقاربة، بل تولّدت مشتقّاتٌ كثيرة ليس المقال موضع تبيانها وتفصيلها)، وفق هذه الدلالة ظهرتْ أدعيةٌ تذكر الملائكة “الكروبيّين” (كروبيم-بالعبري) مثل: “..فوق إحساسِ الْكَرُوبِيِّينَ”، و”باسْمِكَ المكْتوبِ على أجنِحةِ الكَرُوبيّينَ”، ومرويّاتٍ مثل: “..إنّ للهِ ملائكةً وهُمْ الكروبيُّونَ”، و”..هَذَا بُكَاءَ الْكَرُوبِيِّينَ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ”، فهم “المقرّبون”، بل “كَرُب” بلسان العرب هي “قرُبَ”.

أمّا ثانية فتعني الكلمة “كرَب/كارُوب” النخل، وهذه يعرفها كلّ فلاّح وعربيّ أنّها أصول سعَفِ النخل، وهي الدلالة المستعملة في النصّ الذي غاية مقصدِه وببساطةٍ: أنّ المعبَد مُشيّدٌ من جذوع النخل وكرَبِ سعفِه!

احتكارُ النصّ.. والغرورُ بالتفوّق.. صيَّرا “كاروب” الخَشَب ملائكةً “كرّوبيّين” (مقرّبين).. هذه مهازل الترجمة الاستعلائيّة والإسقاطات الفجّة والاستخفاف بالعقول، ثمّ يُقنعونا: “تفسير النصّ اختصاصُ المختصّين”! هذا حال مختصّين بالنصّ التوراتي، وحال مُختصّين بالنصّ القرآني ليس أفضل بل حذْوُهم النَّعلَ بالنّعل.. ويعوزنا موسوعةٌ لشرح أمثلتهم!

الخطابُ الصهيوني مؤخَّراً يتكلّم ملْءَ الفم عن الشعب اليهودي وأرض أجدادهم بمملكة داود في القدس القديمة، مع أنّ مملكة داود كانت بالقرن الحادي عشر قبل الميلاد (وكانت باليمن.. حسب التحليلات التاريخيّة والآثار والتنقيبات)، والقدس ظهرَتْ كمدينة بعد داود بأربعة قرون بحسب الآثار والتاريخ!

إنّ خطاب الإرهابي “نتنياهو” الأخير، وشفَعه وزيرُ خارجيّته المتطرّف “ليبرمان”، يُؤكِّد على: استسلام العرب، تسليم القدس بمساجدها ومعابدها وكنائسها لجعلها عاصمةَ دولته العنصريّة، توطين اللاجئين والمبعدين خارجاً، طرد “عرب-48″ بعد تهويد الدولة، بلع الجولان، يقبل بدويلة فلسطينية هزيلة منزوعة السلاح و”قابلة للحياة” بإنعاشٍ اصطناعي مُتحكَّم فيه.. هذا “الكَرْب” و”الكَرَب” الخشبيّ يفهمه ويتوقّعه جدّا كلّ عربي يعرف صلافة نتنياهو و”لغته”، لكنّ السخرية أن يزورنا المستشرقون مرّةً أخرى.. عبر “أوباما” والاتّحاد الأوروبي.. مترجمين لنا خطاب نتنياهو بأنّه خطوةٌ مباركة ملائكيّة في الاتّجاه الصحيح! أي أنّهم مرّةً أخرى يُحوّلون “الخشبة اليابسة” إلى “ملاك.. مقرّب”، “الكاروب” إلى “الكرّوبيّين”… وعلى منوال ثقافة تحويل “الخشبة” إلى “ملاك”.. تقزيمُ الخطر الصهيوني بتهويل خطر إيراني، ووضع مؤسّسات البناء والصناديق الخيرية -المُساهمة بترميم بيوت محروميّ لبنان وغزّة- على قائمة داعمي الإرهاب، بدلاً من مؤسّسات الكيان الإرهابيّ الذي أشاع القتل والدمار وجوّع شعباً بأكمله…

يقال أنّ إبليس أرسل أربعةَ شياطين لإضلال “غبيّ”؛ شيطاناً يُوسوس له وثلاثةً ليُفهِموه ويترجموا له.. نستعيذ بالله أن نكون هذا الغبيّ، لأنّ الكثير ممّا يتمّ ترويجُه لا يُقنع حتّى الغبيّ.. لولا أن يُحيط بنا شياطينُ السياسة والدين وأشباهِ-العلميّين.. مجتهدين لتفهيمنا أنّ هذا السفَه حقيقةٌ ينبغي قبولها.. والتبرّك بأبوالِها!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة