تنكر الفتاوى لمعطيات العلم..الهلال أنموذجا

يعتبر الهلال موضوعاً جيداً لمناقشة الفتوى الفقهية وامتحان كفاءتها وقدرتها على التعبير عن روح التشريع الإسلامي، ويرشح الهلال لاختياره نموذجا لتحليل كفاءة الفتوى أمران:

الأوّل: الموضوع الخارجي للحكم

يعتبر الهلال موضوعاً خارجياً والموضع الخارجي ليس شأناً فقهائياً، فالفقيه مثلاً هو الذي يحدد شروط الذبح الصحيح من الناحية الشرعية، لكن الفقيه لا علاقة له كفقيه بأنّ هذه الشاة إن كانت مذبوحة على الطريقة الشرعية أم لا لأنّ الذبح يعتبر موضوعا خارجياً والمكلف هو الذي يتحمل تطبيق الأحكام على مصاديقها وهي المواضيع. والفقيه في المواضيع الخارجية يعتبر واحداً من سائر المكلفين، فلو كان الفقيه يستهل معنا وقال رأيت الهلال، هذا هو، فلابد من سؤاله أين هو، فإذا تأملنا جيداً فقد نؤيد رؤيته وأن ما رآه فعلاً هو الهلال وقد نكتشف أنّه مشتبه فهو هنا كأحدنا، فمرحلة الاستهلال ليست مرحلة إصدار فتاوى جديدة إنّما هي مرحلة تطبيق ما تمّ إنجازه من فتاوى حول دخول الشهر القمري، فالفقيه هنا في هذه المرحلة كغيره من المكلفين من حيث الاستهلال ومن حيث الشهادة فيما لو رأى هو الهلال أو من حيث استقبال الشهود أو ترتيب أثر الشهادة والاطمئنان إليها وهكذا فكل هذه الأمور وأمثالها من مفردات الموضوع الخارجي للاستهلال، ومن مفردات المرحلة التطبيقية التي تجعل الفقيه واحداً من المكلفين، وإثبات الهلال من مفردات الموضوع الخارجي للهلال ولذلك لا يتوقف إثبات الهلال حصرياً في الفقيه أو في وكلائه، والفقهاء لم يفتوا أن إثبات العيد لا يكون إلا على أيديهم أو من يخوِّلونه، وإن لم يصدر عنهم فلا عيد ولا صيام ولا حج، وكلّ ما تقوم به مكاتب الفقهاء من استقبال للشهود ومن ثم إعلان ثبوت الهلال أو إعلان عدمه ما هو إلا تطبيق لما انتُهِي من تقريره فقهياً.

هذا الكلام الذي تقدم هو محصّل فتاوى علماء المسلمين، لذلك من الممكن أن يتصدى لهذا الشأن من له كفاءة التصدي، وعلى هذا الأساس فإنّ اعتماد المراصد في الاستهلال والاستناد إلى معطيات العلم الفلكي المتصلة بالهلال وما ينتج عنها من يقين كل ذلك من مفردات الموضوع الخارجي وآلياته والفتوى لا سلطة لها على المرحلة التطبيقية للحكم الشرعي، خاصة وأن أحكام الاستهلال واضحة وجلية ويفهمها القاصي والداني فالمسلم يعرف أن إثبات الهلال قد يتحقق بشهادة عدلين توجب شهادتهما الاطمئنان، فكيف يتأتى منطقياً ووجدانياً أن نقول لهذا المسلم إن الفتوى لا تنظر بعين الرضا إلى هذه المعطيات التي يقدمها علم الفلك، إمّا لأنّها لا تعطينا الاطمئنان المطلوب! أو لأنّ المطلوب منّا في الاستهلال أن نرى الهلال بالعين المجردة وذاك نوع من التعبد. والحقيقة إن هذا مؤشر على وجود حالة من التنافر والاصطدام بين الفتوى، ومعطيات علميّة صحيحة، والصادم في الأمر أن يتبنى هذا التنافر علماء ولا يرون فيه بأساً، وهذا يمثل عنوانا جامعاً لفتاوى جزئية فقهائية متناثرة في مختلف الفصول التشريعية، تتنكر للعلم وكأنها تعيش في ذلك الزمن القديم الذي لم يطلع فيه فجر العلم، والخطير في الأمر هو ما تعبر عنه هذه الفتاوى من خطأٍ في المنهج الذي يسمح للفقيه أن يفتي بما يصطدم مع معطياتٍ علميةٍ صحيحة، استناداً لنصوص لم تأخذ وضعها المناسب مع أسس التشريع البديهية في الإسلام، فمن بديهيات التشريع الإسلامي مثلاً استحالة التشريع للظلم ومن اللازم أن يسقط كل تشريع وكل فتوى تشرع للظلم وتبيحه، من أجل ذلك يلزم أن نجد روح كليات التشريع الإسلامي في جزئيات التشريع ومتى ما وجدنا تصادماً بين روح التشريع وبين جزئية تشريعية لا يمكن أن نتنازل عن روح التشريع ونلغي الكليات التي يقوم عليها البناء كله لصالح جزئيةٍ ما وإنما نتنازل عن الجزئية الخارجة عن صراطها، ومن كليات تشريعنا التي يجب التأسيس لها وتبويب قواعدها استحالة تصادم الدين وتشريعه مع معطيات العلم الصحيحة، فالدين أخ العلم ورفيقه يستعين به في كل نازلة ليشرَّع للناس على علمٍ ودراية في ضوء ما يقدمه العلم من معطيات، تماماً كالطب كلما تقدمت آلات الكشف والتشخيص سهل على الطبيب العلاج وما زالت آلة الطب في تقدم وتبعاً لذلك يتقدم العلاج، فماذا لو أصر الأطباء أو بعضهم على التنكر لمعطيات العلم الحديث في الميدان الطبي تحت أي ذريعة من الذرائع؟!.

إنّ نبذ الأجهزة الحديثة وما توصلت إليه البحوث الطبية –لو حصل- لن يكون ذلك مجرد مكابرة بل هو الجهل والجنون، وكما أنّ الطب علاج ويحتاج إلى كلّ ما يساهم في دقة التشخيص كذلك التشريع الفقهي هو علاج ويفيده كلّ شيء يساهم في تبصيره حقيقة الموضوع الذي يشرع له، فماذا لو رفَضْنا فقهياً ما يشخص الموضوع تشخيصاً دقيقاً علمياً تحت ذريعة من الذرائع التي تعني في نهاية المطاف أنّ الاطمئنان العادي الحاصل من طرق اعتيادية هي أولى من نتائج علميّة صحيحة؟

إن التلكؤ الفقهي وعدم الأخذ بنتائج العلم الفلكي في مسألة الهلال –على ما يمتاز به الهلال من مميزات كثيرة تدعو الفقهاء للتعاطي معه بإيجابية كبيرة وسريعة للاعتماد على معطيات العلم الفلكي- إن التلكؤ الفقهي في هذا المجال يجعلنا نسأل إذاً، ما الذي سيكون عليه الموقف الفقهي في قضايا ذات علاقة بالنسب والنكاح والإرث والحياة والموت؟ ماذا سيكون عليه الموقف الفقهي من فرز الأنساب المعتمد على البصمة الوراثية؟ وما الذي سيفتي به الفقه المتردد في أمر الهلال إذا احتجنا لتشخيص حالة مَرَضية معقدة لا نعرف إن كان صاحبها قد فارق الحياة أو ما زال على قيدها؟ فهل يجب علينا العمل بما هو مذكور في الكتب الفقهية من علامات فارقة لا تعطينا يقيناً لكنها كانت وسيلتهم الوحيدة آنذاك أم يجب استفتاء العلم الحديث؟

وماذا سنفعل في موضوع اللعان حيث يتبرأ الزوج من ولد تقول زوجته إنّه منك وهو ولدك وينكر عليها ذلك وكلٌ يصرّ على موقفه وأمام هذا الإصرار في موقف محرج للغاية يطرح القرآن حلاً يتمثل في أن يشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ويتم شهادته بأن غضب الله عليه إن كان من الكاذبين وتدفع الزوجة عن نفسها ما تستحقه من عقاب بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لكاذب وتتم شهادتها بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولصعوبة الموقف قد يصرّ كلّ منهما على موقفه فلا ننتهي إلى حلٍّ جذري، فهل نحتاج فقهياً لدعوتهما للملاعنة في مثل هذا الزمان؟ وهل الآية الكريمة تحتّم على القضاء التقيد باللعان؟ بينما البصمة الوراثية تستطيع حلّ النزاع بطريقتها اليقينية هذا وأمثاله يعتمد على المنهج الأساسي الذي أسّسناه لتعاملنا مع الأحكام الشرعية وحينها سنكتشف إن كانت هذه الأمور مجرد وسائل وآليات تتناسب مع زمانها ويمكن تركها إلى ما هو أفضل منها تمشياً مع التناغم الذي طالما قلنا مكرراً أنّه قائم بين الدين والعلم، أم نكتشف أن المنهج الذي أسّسناه لا يهتم كثيراً أن يميز بين آلية الشيء وكونه مطلوباً بنفسه، فالشهادات الخمس في الملاعنة ليست مطلوبة لذاتها وإنما هي آلة ووسيلة لغاية أخرى هي كشف حقيقة نسب الولد، وكذلك الاستهلال وأمور أخرى لابد فيها من الرجوع إلى طبيعة الأساس والمنهج وإصلاح ما يجب إصلاحه على مستوى ذلك الأساس حتّى لا يتكرر الموقف الفقهي ويستمر الجدل بين العلماء بعضهم مع بعض وأتباعهم مع بعض فالداء دفين وما نراه مجدداً كل عام حول الهلال مثلاً هو انعكاس لخلل في الأساس يحتاج إلى مراجعة جذرية.

الثاني: الدين أم رجل الدين يتنكر لمعطيات العلم

ما طرأ على أحكام الهلال من تغيرات مهمة فبينما كانت أحكام الهلال كلها بيد علماء الدين أصبح أحد أطرافه بيد علماء الفلك، بعد أن تقدم علم الفلك فلم يعد مجرد تخمين أو حسابات ظنية، فقد أصبح قادراً على تحديد حركة الشمس والقمر لحظة بلحظة، وتيسيراً من ناحية الدين ولأنّه لا يكلف فوق الطاقة، لذلك كان يكتفي في تثبيت دخول الشهر القمري بالمقدور المتاح آنذاك وهو الرؤية البصرية، واستمرّت الفتوى لا تتجاوز ما كان عليه الوضع أيام الرسول فكانت ترى أن الوسيلة الوحيدة المعتمدة في ذلك هي رؤية الهلال بالعين المجردة، هذا في وقت بلغ العلم الفلكي ما بلغه من دقة متناهية جداً، فهل تعيد الفتوى النظر في الموضوع وتنفتح على علم الفلك وتقدم قوله وتعتمده باعتباره علماً ولتثبت عملياً أن لا غضاضة لدى الإسلام أن يتعامل مع معطيات العلم الصحيح،؟ وبالتالي هل يتنازل الفقهاء عن مقعد من مقاعدهم طالما شغلوه منذ أيام الإسلام الأولى ويسلمونه لأصحابه، ومن ثم يعتمد الفقهاء على معطيات علمية صحيحة في إصدار فتاوى حديثة في ضوء تلك المعطيات؟

العلماء سابقا ولاحقاً..

في القديم كان العالم في مجتمعه هو كلّ شيء هو الإمام وهو القاضي وهو المزوج وهو المطلق وهو الطبيب وهو الفلكي وهو الآمر الناهي معروفاً ومنكراً فهو حقاً كلّ شيء، مرجع وموئل وملاذ، والأهم في الموضوع أنّ هذا كلّه كان طبيعياً أن يجتمع في رجل واحد هو عالم الدين بحكم ظروف الحياة العامة، بعد ذلك بدأت العلوم تشق طريقها نحو التقدم وشيئاً فشيئاً أخذت في الاتساع وأصبح من المتعذر والمستحيل على رجل واحد أن يلم بفروع علمٍ واحد فضلاً عن جميع العلوم، فقد توزع علم الطب إلى فروع وكلّ فرع يحتاج إلى متخصصين وهذا ما حصل لبقية العلوم التي كانت في يومٍ ما مجموعة في يد رجلٍ واحدٍ، وإذا كان وضع الحياة العام يسمح لرجل الدين فيما مضى بأن يجمع تلك العلوم فإنّ الطبيعي جداً هو أن يتخصص في كلّ علم من تلك العلوم متخصصون بعد أن توسعت وأصبح لكلّ علم فروعه الخاصّة وهكذا كلما تفرعت العلوم فرضت نفسها أكثر فأكثر وطالبت بمتخصصين لتصبح الاستجابة لهذا الطلب هو الأمر الطبيعي وهو الضامن والمحفز لتطور العلوم لتصبح هيمنة عالم الدين على العلوم من الماضي البعيد اللهم إلاّ أن يراد لمجتمعٍ ما أن يتخلف ويبقى رهينة زمان الماضين،! فمن المستحيل أن يعود ما كان في الماضي، ليس لصعوبته وتعذره وليس لندرة الرجال الاستثنائيين في قابلياتهم بل لأنّ مستوى العلوم وتفرعاتها جعل ذلك أمراً مستحيلاً، ومنذ البداية ويوم كانت العلوم تستسلم لرجل واحد كان يجب التنبه بأنّ هذا الوضع وضع مؤقت لأن قوانين الحياة مبنية على أساس قابليتها للتطور المستمر، وفي ضوء هذا كان يفترض أن يكون في كل زمان من يخطط لاستقبال المراحل الآتية من التطور (وقد سمّت الأحاديث هذا التخطيط انتظاراً واعتبرته من صميم الإيمان وهو كذلك لأنّه مجارات العلوم) ومن الإيمان السعي عمليا لتوسيع العلوم لأن ذلك الوضع المؤقت وضع غير مستقر وبالتالي هو وضع غير طبيعي بالنظر إلى وجوب تركه في أسرع وقت ممكن ما دمنا ننشد الأفضل.

مكانة العالِم بعد توسع العلوم ..

تطبيقاً للمنهج العلمي الصحيح وضع المسلمون الأقدمون أصولاً لتحصيل العلم الديني جعلوه يبدأ بالعلوم الكونية وفي قمتها الطب والفلك والرياضيات. فإذا فرغ المتعلم منها شرع في الدراسات الدينية وهو عالم بالكون الذي حوله فإذا تخرج كان شيخا فقيها ملما بتيارات الفكر العالمي واتجاهاته مواكبا لعصره إذا تحدث أو أشار أو افتى أو قضى أو بحث أو اجتهد صدر في كل ذلك عن علم حصيف ونظر شامل ومنطق قطباه الدين والإيمان وهدفه الصالح العام ولا شيء سوى ذلك.

أما لو تحدث العالم في الميدان الطبي أو الميدان الفلكي أو أي ميدان آخر مما هو خارج عن اختصاصه بطريقة لا يرجع فيها للمختصين في تلك العلوم فإنّه تخريص وقول بدون علم، ولا يمكن لأمّة مهما كانت عقيدتها أن تترك العلم وتعتمد على الظن أو ما دونه ليقوم مقام أحدث الآلات المعتمدة في العلوم الحديثة، لا يمكن لأمّة تحترم الحياة والعلم والعلوم وتروم التقدم أن تفعل ذلك، وحينما انتكست الكنيسة في أوربا ودفعها جهلها للتنكر للعلم ومعطياته وسلّمت زمام الميادين لعلماء دينها فكانت نتيجة ذلك ما هو معروف فالظلام الدامس الذي عاشته أوربا يعزى إلى تدخل الكنيسة في ميادين العلم. لكن هل نتصور في ديننا أن يتنكر بعض علمائنا للعمل ومعطياته الصحيحة؟!

 

فتاوى الهلال أنموذج للتنكر ..

بالرغم من ترديد علماء المسلمين مقولات تؤكد تلاقي الدين مع العلم واحتفاء الإسلام بالعلم والعلماء إلاّ أنّنا نؤكّد أنّ بعض التشريعات مفارقة للعلم وكثيراً ما تصدر الفتاوى من دون مراجعةٍ لمعطيات علميّة جاهزة متصلة بمواضيع تلك الفتاوى، فعن علم الفلك قال بعضهم (الإنصاف العلمي يقتضي الاعتراف بأنّه إذا شاعت الرؤية شياعاً أوجب العلم أو الاطمئنان بالرؤية، فلا محيص لنا عن تخطئة علم الفلك والمراصد أو على الأقل عن تقوية احتمال الخطأ، بل الإنصاف يقتضي احترام القائل الذي أخذ البيّنات، ولم يجمد عند الحسابات. (علم الفلك) وتلك مشكلة علم الفلك والفلكيين أن كيف شاعت الرؤية وحصل العلم بها، وليست مشكلة المتشرعة أن يقال لهم: كيف تدّعون الرؤية والعلم)، وقال آخر عن علم الفلك أيضاً (فإنّ هذا العلم مهما تقدّم وتكامل، فلن يكون بديلاً عن الوسائل الإلهية التي أراد الله لعباده أن يصلوا من خلالها إلى أداء تكاليفهم الشرعية)[1].

إذا رؤي الهلال شياعاً موجباً للعلم فإنّه يستحيل أن يختلف مع ما يقوله العلم، ويوم يختلف فليس هناك شياع، لأنّنا هنا في هذا البحث لا نتكلم عن احتمالات نظرية بل نتكلم عن نتائج علميّة يقينيّة سواء كانت في موضوع الهلال أو غيره، والشياع الصحيح نتيجته يقينية وما يقوله العلم الفلكي عن خروج القمر من المحاق نتيجته، ويستحيل أن يناقض العلم نفسه، ولم يكتفِ القائل المتقدم بتوهين العلم الفلكي في حالة الشياع الوهمي حتّى قدّم الاطمئنان بوجود الهلال على ما يقوله العلم أي أنّ الظن بوجود الهلال أولى بالاتباع من قول العلم الفلكي إذا نفى وجوده، وكفى بهذا الكلام دليلاً على الحرب المعلنة على العلم ومعطياته!

إنّ هذه فاجعة عظمى ولا شك أننا في حاجة لدراسة حديثة وبمنهج علمي رصين تدرس الحالات التي فارقت فيها الفتوى معطيات علمية صحيحة لنرد الاعتبار للإسلام، ذلك أنّ معنى الكلام السابق أنّ الدين يرجح الحياة المبنية على الجهل ويتنكر للعمل ومعطياته، وحاشا لدين الله أن يمجِّد الجهل أو يدعو لأن يكون الجهل أساساً للحياة, فالحق إن معطيات العلم غير مكترث بها في بعض الفتاوى، وكلام معظم العلماء في مسألة الهلال نموذج لهذه الطائفة من الفتاوى، وفي استفتاء عن الموضوع أجاب مكتب أحد الفقهاء: يجوز الأخذ بنظر الفلكيين في تعيين أوقات المغرب والصبح والزوال إذا اطمأن الإنسان إليهم، ولا يجوز في الهلال، بل يجب ثبوته بالرؤية الحسية، وأجاب آخر: الحسابات الفلكية ليست حجة شرعاً ما لم يثبت منها الاطمئنان. أنّى حصول ذلك والجواب الأوّل لم ينظر للرؤية البصرية كآلة ووسيلة فقط والثاني يرى أن الاطمئنان الحاصل من شهادة الشهود أقوى من العلم الحاصل من الحساب الفلكي، والقضية الأبعد هو عدم وجود قاعدة وأساس يمكن الرجوع إليه في التعامل مع العلم بشكل عام، مع أنّ المنهج الصحيح المتفق مع منهج الدين هو الرجوع للعلماء المختصين في مختلف الميادين لنقول ما نقول ونصدر الفتاوى عن علم إلاّ أنّ القرآن نفسه يفرض علينا وبشكل خاص في موضوع الهلال الرجوع لعلماء الفلك لأنّه ما لم نمار ونرد الحقائق بجدل عقيم فإنّ قول الفلكيين يعطينا العلم التفصيلي بحركة القمر وبإمكاننا معرفة مكانه متى هو في المحاق ومتى يخرج ومتى يكون في مستوى الرؤية ومتى تكون الرؤية شياعا وغير ذلك من التفاصيل وفي المقابل يأتي من لا يعلم شيئاً من هذه التفاصيل ويشهد برؤية الهلال وغاية ما ينتج عن شهادة العدول هو الظن بوجود الهلال وهل يقدم الظن على العلم؟! فأي الأمرين أقرب مصداقاً لقول الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس:5) فالغاية من حركة الشمس والقمر فيما يتعلق بالحساب هو العلم بالسنين وأيام الشهر، وليس الظن، وإذا كانت لدينا طريقة تفيدنا علماً بحركة القمر ثانية بثانية معتمدة على العلم، وأخرى تعتمد على شهادة شهود لا يعرفون عن حركة القمر ذلك العلم ولكنهم يستطلعونه ثم يشهدون برؤيته وقد يشهدون أنّهم رأوا الهلال في ليلة يؤكد فيها العلم الفلكي باستحالة الرؤية فماذا يفعل الفقهاء في هذه الحالة مع ملاحظة الآية- هل يعتمدون قول العلم الفلكي ويلغون ما يخالفه لأنّه مصداق لـ (لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) أم يلغون ما يقوله العلم الفلكي ويأخذون بشهادة الشهود؟

هناك من علماء المسلمين من أمضى شهادة الشهود في مثل هذه الحالة، وهذا تجاهل مطلق للعلم والعلماء، وشهادة منافية لتقدير الإسلام للعلم.

ختاماً أراد البحث الاستفادة من موضوع الهلال وآراء الفقهاء حول صلاحية الاعتماد على الحساب الفلكي ليكون أنموذجاً للتعاطي غير المصيب من قبل الفقهاء مع معطيات العلوم الصحيحة ما يعني حاجة تشريعنا الفقهائي لمراجعة جادة من هذه الناحية ليكون فقه المسلمين فقهاً علمياً يعتمد العلم أساساً في تقديره واستنباطه للأحكام ومن دون ذلك سيكون البديل المعتمد هو الظن والتخريص.

[1]– نقلا عن http:www.motarahat.com  .

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة