حدادُ فطرة وحدادُ إكراه

قُلنا سابقاً أنّ الحزن والحداد نزعةٌ فطرية وبيولوجية، والدينُ دين فطرة، لا يُلغي التفجّع والإحساس بخيبة الأمل لخسارة فقيد، لكنّه يعنيه استعادة المفجوع استواءه النفسي ونشاطه.

وقُلنا أنّ (فقهاء) تشدّدوا فحرّموا خروج المرأة في عدّتها وحدادها، واعتدل آخرون فوسّعوا (مساحةَ الضرورة)، وأجازوا خروجها للعمل والتزاور (للضرورة)! لكنّ التفسير الخطأ لنصوص المسألة ظلّ كما هو، إذْ بدلاً من إعادة فهم الحكم الشرعيّ رقّعوه ووسّعوه (باستخدام الضرورة)!

فكيف نحيا واقعنا بطلاقة قبالةَ فكرٍ مخنوقٍ بآراء القدماء؟ كيف نلتمس وعياً يُلهمنا درايةً للنصّ، واستبصاراً للواقع، وتحرّرًا من القوامع؟!

بلَغتْهم طائفةُ نصوصٍ (تجيز) خروجاً للمرأة وأخرى (تمنعه)، فأوردوا: (وبشأن الخروج من بيتها، فأكثر الأخبار دلّت على المنع إلاّ لضرورة، وجملةٌ منها دلّ على الجواز مطلقًا)، فعمّموا المانعة واستبعدوا المُبيحة، فضربوا مثالاً لانتفاخ (فقه الرجال) وانبساطه على (فقه الحياة)، وعلى القرآن، وسنّة النبيّ (ص)، وكلام أهل بيته أنفسهم، فأعملوا التضييق والاحتياط وحرجَ الحياة، وكأنّما أخبرهم الرحمن (إنّما يريد الله بكم “العسر”) وليس “اليسر”!!

فأزمتهم مع النص أنّهم يستدلّون (بقول المعصوم) دون تحرّي داعي الخطاب ونفسية المُخاطَب وظرفه.

الآراء المعتدلة اعتمدها فقهاء كالطوسي وابن تيمية واليزدي والنووي وغيرهم، والذين تشدّدوا اعتمدوا روايات (المنع)، دون تحليلها موضوعيّاً لاستبصار مغزاها، ومغزاها الصريح كان احتشام الأرملة بترك التزّين للرجال إتماماً للعدّة، وبعدم إظهارها البهجة احتراماً لميّتها، لصياغتها شخصيةً إنسانيةً متعاطفة وقورة عفيفة، وليس مقصد النصوص حرمان الأرملة قسرًا من الحيويّة والسلوى بتعمّد إحزانها وتغميمها.

فممّا أهملوه بتشدّدهم: سُئل الصادق(ع) عن المرأة يموت زوجها أيحلّ خروجها في عدّتها؟ قال: (نعم وتختضب وتكتحل وتمتشط وتلبس المصبغ وتصنع ما شاءت، “بغير زينة لزوج”).

وأجاز(ع) في جوابٍ آخر: (تخرج من بيت زوجها، وتحجّ، وتنتقل من منزل إلى منزل).

وكانت العترة(ع) يُستفتَوْن عن المرأة يموت زوجها، وهي محتاجة، أيجوز أن تخرج وتعمل وتبيت عن منزلها في عدّتها، فيُجيبون: (لا بأس بذلك إن شاء الله).

أمّا من سنّة نبيّنا(ص) الفطريّة السمحاء:

فعن جابر قال: طُلّقتْ خالتي فأرادت أن تجذَّ نخلها، فزجرها رجلٌ (كمتشدّدي يومنا!) أنْ تخرج، فأتت النبي(ص)؛ فقال: “بلى فجذّي نخلك فعسى أن تصّدقي، أو تفعلي معروفًا”، وجاءته نساءُ شُهداء أُحُد يستأذنّه الخروج والتزاور والتسامر فترة الحداد، فسمح لهنّ ما بدا لهنّ، على أن يرجعن لبيوتهنّ وقت النوم!

والنصّ الأصل الذي استنبطوا منه حرمة خروجها، هو قوله(ص) لامرأةٍ مات زوجها‏:‏ ‏(‏امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعيُ زوجك حتى يبلغ الكتابُ أجلَه‏)‏، فللأسف فاتهم مقصودُه، فبمراجعة سياقه الكامل، نرى النبيّ الرحيم لمّا سمع مقالتها سمح لها أوّلاً بالخروج والتحوّل عن (بيتها) أنّى شاءت، ثمّ تنبّه أنّها ذكرتْ (فإنّ زوجي لم يتركني في مسكنٍ يملكه)، وذلك سبب خروجها (منه)، فعكَسَ(ص) توجيهَه وأمرها باللّبث (فيه) مدّةَ عدّتها، والمتأمّل في ألفاظ الحوار يرى التركيز على (البيت) الذي آواها، لإثبات (حقّ المرأة) بالمكث حال العدّة حيث (سكنتْ) مع زوجها الفقيد، لاقتران الزوج إبّانها (بالسكَن)، وبعد العدّة قد يتوفّر لها زوجٌ (بسكَنٍ) آخر، فلا تُهيّج المرأة وتُمحَق وتُخرَج بموتِ زوجها (كحرق الهندوس لها)، لذلك عقّبتْ المرأةُ بقولِها (فاعتددتُ “فيه”)، فمقصودُه(ص) كان حرمة (إخراجها)/طردها، لا حرمة (خروجها) الإراديّ الاعتياديّ لمشاغلها ومهامها الاجتماعية ودورها الحياتي، فأين هذا من هذا؟! كان نصّاً (لحقوق المرأة) صيّروه أغلالاً لها!

وإنّ فقه كلام النبيّ(ص) عصرياً، يحثّنا لسنّ تشريعاتٍ تُعطي للمرأة المنكوبة (حقّاً) مدّةَ عدّتها بالامتيازات التي كانت لها، تضمن لها مسكناً يأويها، وإجازةً كافيةً، وتعويضاً، لتُواصل حياتها، وتستعيد استواءها النفسي وتلمّ أطفالها وتدبّر حالها، فالدينُ مدنيٌّ لا يُعطّل دور المرأة أشهراً بذرائع ذكوريّة واهية، وعلى مؤسّسات المرأة والطفولة والحقوق المناضلة لهكذا حقوق.

هذا التشوّه والانقلاب المفهوميّ استشرى فأفسد فهم نصوص الله سبحانه أيضاً، فمثلاً:

– (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)(البقرة:240)، جعلوها عدّةً وحداداً (لسنةٍ) نُسِختْ (بالأربعة أشهر)! مع أنّها تُوجّه المُوصي -إلزاماً للورَثة- أن يُدرج بوصيّته (حقّاً) لزوجته بالنفقة والسكن لمدّة (عامٍ) بعدَ وفاته، لئلاّ يُجعجعوا بالزوجة عن مأواها بعدَه، وإذا أرادت الخروج بنفسها فذلك شأنها، ثمّ جاءت رواية النبيّ (ص) لمُعالجة عدم وجود وصيّة بمتاع (السنة)، تثبّت حقّ الزوجة البقاء بالسكن مدّةَ (عدّتها) على الأقلّ.

– (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا)(البقرة:234)، البعض فسّر مخطئًا (التربّص) بالحداد وبعدم خروجها، بينما هو (تربّصٌ بالنفس) أي إنظارها عن التزوّج، ووَرد مرّتين بالمعنى نفسه (وَالْمُطَلَّقَاتُ “يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ” ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، وليس للمطلّقة حدادٌ وعدمُ خروج، وإنّما تركُ التزيّن طلباً لزوجٍ آخر.

ثمّة الكثير ليُقال بشأن النصوص الشريفة وأسرارها وارتباط عدّة الأربعة أشهر بتبيّن الحمل وببيولوجيا المرأة الجنسيّة، لكنّ المقام لا يسَع، بقي أن نُلفت أنّ بعض محرّمي خروج الأرملة (أشهراً) إلاّ اضطراراً، يُحرِّمون على النساء (مدى عمرهنًّ) الخروج إلاّ لاضطرار! يُناقضون أنفسهم ولا يشعرون!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة