حظر النقاب وقوننة التمييز

قيل للمتحمّسين لإصدار قانون يحظر النقاب في الأماكن العامة في أوروبا: “إن هذا القانون ينتهك الدستور”، فقالوا: “سنجد طريقة لقوننة حظر الحجاب .. فالقوانين قابلة للتطوّر”! في إشارة منهم إلى الالتفاف على الدستور والاعتداء على المؤسسات القائمة على حماية القانون بسنّ قوانين خاصة لفئات معينة من المواطنين، ما يجعلها اعتباطية وتؤدّي إلى خلخلة البنية الدستورية لدولة القانون التي أُسّست عليها الأنظمة الغربية، وهذا هو أخطر ما في الأمر، وأكبر خسارة للعلمانية سواء بمعناها الرائج أي “فصل الدين عن الدولة”، أو بمعناها الآخر المُروَّج –كما يُنظّر البعض- بأنّها تعني الدولة العلمية التي تسنّ قوانينها استناداً على الدراسات الموضوعية، والإحصاءات والمناهج العلمية.

رُبّ ضارة نافعة، إذا عرف المنتهكة حقوقهم كيف يناضلون من أجلها باستخدام آليات دولة القانون وأدواتها المتاحة، والاستعانة بالشخصيات المتنفّذة والمنصفة، وبناء التحالفات المثمرة مع منظمات حقوق الإنسان المعتبرة، لاسترجاع حقوقهم التي ضمنها لهم الدستور ومواثيق حقوق الإنسان، ففي فرنسا مثلاً فاز أربعةٌ وثلاثون صوتاً ضدّ (صوتين)فقط من اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان لرفض أي قانون يمنع النقاب بشكل عام ومطلق، لا دفاعاً عن النقاب، فجُلّ هؤلاء – إن لم يكونوا كلّهم – لا يؤيدون النقاب أصلاً، ولكن حفاظاً على حرمة القوانين وحمايتها من الانتهاك بأهواء شخصية أو نوايا انتهازية .. بل وقد عرض بعض نشطاء حقوق الإنسان على إحدى الفضائيات استعدادهم التام للدفاع (مجاناً) عن كل امرأة تُمنع من ممارسة حقوقها المكفولة دستورياً، لقطع الطريق على المتطرّفين ومنعهم من العبث بالقوانين لتمرير تعصّبهم وعنصريتهم.

ليس غائباً عنّا بأنّ النساء في الدول الإسلامية وبالأخص العربية منها يمارَس ضدّها ألواناً من الاضطهاد والقهر والتمييز، ونعلم أن أكثر من نصف مليون طالبة تركية حُرمن من الدراسة الجامعية بسبب ارتدائهن الحجاب، بينما استطعن أن يحصلن عليها من الجامعات الغربية! وندري أنّ العديد من المحجبات التونسيات تعرّضن إلى المضايقات في الشوارع وأماكن العمل، وتمّ تجريد العديد منهن من الحجاب عنوة في بعض مراكز الأمن بالعاصمة، وإجبارهن على التوقيع على تعهّد بعدم العودة لارتداء الحجاب! ولا ننسى فتوى شيخ الأزهر بجواز حرمان الطالبات المصريات من دخول قاعة الامتحان بالنقاب، ولا الطريقة غير اللائقة التي خاطبهن فيها، ولدينا سجلّ طويل لرصد الانتهاكات الحقوقية في شتى الميادين في الوطن العربي، من قبل ممارسات المؤسسة الدينية المتخلّفة بالتعاضد مع الأنظمة الاستبدادية، ولكن (قوننة) التمييز وسلب الحقوق على أساس الدين أو العرق أو اللباس أو نمط الحياة اليومية، وتطبيقه بأساليب قسرية أو التوائية في ما يسمّى بـ”الديمقراطيات العريقة” هو ما نخشاه لأنه إيذان لبداية العودة إلى عصور الظلام.

بمناسبة اللغط الدائر حول قضية النقاب، وقبلها الحجاب، لا ندري أندين فرنسا الساركوزية، وأوروبا التطّرف والفوضى، أو نترحم على فولتير التسامح، وفلاسفة التنوير وحكمتهم التي لازالت أصداء كلماتهم ترنّ في ضمائر المؤمنين بها، فولتير الذي دافع عن “جان كالاس” البروتستانتي الذي قُتل على يد التعصّب المذهبي الكاثوليكي الذي يدين به فولتير نفسه، ما يعني أن فولتير وقف مدافعاً عن شخص ينتمي إلى المذهب المضادّ له، وقد لخّص عقيدته تلك في كلمته الشهيرة التي أسست فلسفة الديمقراطية في الغرب “قد أختلف معك في الرأي ولكنني مستعد لأن أضحي بنفسي من أجل أن يتاح لك أن تعبّر عن رأيك وقناعتك”.

فولتير القائل في “رسالة التسامح” التي كتبها قبل أكثر من ثلاثة قرون مبتهلاً إلى الله تعالى: “لا أتوجّه بدعائي هذا إلى الناس بل إليك أنت يا إله الكائنات أن أذنت لمخلوقات ضعيفة ضائعة أن تتجاسر وتسألك .. اجعلنا حيث الفروق الضئيلة بين الملابس التي تستر أجسامنا، وبين لغاتنا القاصرة، وعاداتنا المضحكة، وبين شرائعنا وقوانيننا، وبين كل آرائنا الحمقاء، وبين كل أحوالنا التي تبدو في عيوننا متباينة ولكنها أمامك متساوية، اجعلنا بحيث كل هذه الفروق الضئيلة التي تميز الذرّات التي تسمى بني الإنسان لا تكون علامات وشارات لإثارة الكراهية والاضطهاد … واجعل أولئك الذين يغطّون أثوابهم بقماش أبيض ويقولون أنه يجب أن نحبك.. لا يكرهون أولئك الذين يقولون الشيء نفسه وهم يتدثرون برداء من الصوف الأسود .. إلخ”.

فهل هؤلاء الذين يتغنّون بفولتير وفلسفته، وتسامحه، وبمبادئ الجمهورية الفرنسية من حرية وعدالة ومساواة واعون لمدى ابتعادهم عنها؟ وهل هم مستعدون لخوض عملية نقد ذاتي لكل الممارسات العنصرية التي ارتُكبت بحق مواطنيهم ابتداء من الحادي عشر من سبتمبر إلى الآن تحت عنوان محاربة الإرهاب والتطرّف؟ أم أن قضية حظر النقاب ستكون سبباً للكشف عن الوجه الحقيقي للتعصّب المخبوء تحت قناع مدّعي العلمانية.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة