حوار بين أوّل سورة الفتح وآخرها..

“إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) …  مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)”

أدار النبي(ص) بحكمته معضلة فتح مكة، لئلا تبقى معقلاً لعداوة النبي وحربه، وليعود البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، ولتُزال مظاهر الشرك في تلك البقعة المباركة.. صلح الحديبية كان مقدمةً لفتحها، وفي أجواء صلح الحديبية نزلت سورة الفتح المباركة.

اعتبر الوحي صلح الحديبية “فتحاً مبيناً”، ليس فقط لأنّه المدخل لـ”فتح مكّة” الذي كان حاصلاً لا محالة عن قريب، وكل المؤشرات تنطق بذلك، فقريش قد أنهكتها الحرب، وإنّما أيضاً لأنّه “حيّد قريشا” رأس الشر، فأتاح للمسلمين التفرّغ لمهام معطّلة، ففتحوا خيبرا، وقضوا عمّا تبقّى من جيوب الغدر اليهودي المتربّص بالمسلمين، وأرسل النبي يدعو القبائل للإسلام، فتوسّعت رقعة الكيان الإسلامي، وبدأ النبي يبعث رسائله إلى الملوك والأمراء.. فأصبحت دولة النبي(ص) قويةً عزيزة الجانب.

ما كان لهذا الأمر أن يتحقّق إلا بعظيمين، أولهما “محمد”،الإنسان المتّصل بالسماء، الأمين على الوحي، المربّي الرشيد، “رسول الله”، العنوان الذي أنكره “سهيل بن عمرو” ممثلُ قريش في الصلح، وأراد القرآن تثبيته باعثاً برسالة مبطّنة بأنّه رسول الله، وأنّ الموقف بأكمله مصداق لرسالته، من لحظة أن قدم لمكة إثر رؤية رآها، إلى قبوله بالتسوية وتوقيعه على البنود، في جميع المراحل.. هو رسول الله.. حقيقةٌ ثابتةٌ ناصعة وقريباً سيدركها حتى من ينكرها..

الأمر الآخر “الذين معه”.. المجموعة الفريدة المتميّزة من أصحابه، الذين بهم تحقّق الفتح المبين، فقد بايعوا الله، وعَلِم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم.  تصوّر الآية سماتهم ودواعي تميّزهم، فقدامتلكوا زمام أمرهم، وازدادوا ثقةً في أنفسهم واعتزازا بها، وتغلّبوا على عوامل الاضطراب والاستفزاز، وتمتعوا بالثبات والاستقرار، فأصبحوا يشدّون على أعدائهم، ويتراحمون لإخوانهم، فهموا معنى العبادة فعملوا على تحقيق التوازن بين تواصل الروح وواجبات الحياة، فهم “ركّعاً سجّداً” بحق، سعوا لـ”ابتغاء الفضل والرضوان من الله”، فحصلوا على “مغانم كثيرة”، ونالوا “بيعة الرضوان”، فبدتفي وجوهم سيماءالانشراح والضياء والإشراق، تلك صفاتهم في التوراة، وأصحابها يعرفون “محمدا” وأصحابه كما يعرفون أبناءهم.

أما مثَلُهم في الإنجيل، فكالزرع الصلب، “ساقه” محمّد المربّي المصلح الحبيب، وفروعه “شطئه” هي أصحابه، الملتفون حوله، الذين صيّروا “الزرع”غليظاً صلباً مستوياً، فنال إعجاب الزّراع، الذين ابتعثوه وتكفّلوا به، الملائكة المدبّرين، فقد أينع الثمر وبلغ المأمول، بمحمد وأصحابه، عاد دين “القيمة” وأُحييت “شريعة السماء”، فيد الله فوق أيديهم، ترعاهم وتشد من أزرهم، وبهم يرمي الله فلا تخطئ الرمية.. أولئك الذين صدّقوا إيمانهم والتزموا العمل الصالح، فمنْ الله لهم مغفرة وتجاوز لصغير ما أذنبوا، ولهم مثوبة وأجرٌ عظيم لجميل ما فعلوا.. ورد وصفهم في التوراة والإنجيل ليبعث رسالة مفادها أنهّ سيكتمل الـ”الفتح المبين” بإظهار هذا الدين على الدين كله –دين أهل الكتاب- أيضا بيد محمّدٍ وأصحابه.

“إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ”

جرت “بيعة الرضوان” تحت الشجرة، أعلمهم النبي(ص) أنّ الأمر حاسمٌ في هذه المرحلة، وأنّ البيعة ستكون مع الله مباشرة، فيد جبريل كانت حاضرة، فوق أيديهم، عُقدت الصفقة مع الله، وصار لها اعتبارات خاصة، فعليهم أن يرضوا بما يرضاه، إن حرباً فحرب، وإن صلحاً فصلح، هذه المرة -في هذه النقطة التاريخية الفارقة- تاجروا مع الله وبايعوه، فأصبحت الحسابات دقيقة حسّاسة، تستتبع مراقبة الداخل والخارج، واستوجبت التعليق من لدنه تعالى، “فعلم ما في قلوبهم”، علم الصدق في بيعتهم، والاستعداد للتضحية وبذل الجهد بلا حدود، عَلِم منهم الإخلاص والرغبة بخوض العقبات، عَلِم منهم القبول بكظم الغيظ والانفعالات، وكتم دواعي الاستفزاز.. فأنزل السكينة عليهم.. وألزمهم كلمة التقوى.. وأثابهم “فتحاً قريباً”.

البيعة جماعية نعم، لكن الاختبارات أتتهم فردية، فمن نَكَثَ وتراجع وتخلّف ونقض فإنّما ينكث عن “نفسه” يخذلها ويورّطها، ومن “أوفى” وحافظ على عهده فإنّ الله سيوفّيه أجراً عظيماً.. مواقف جديرة بالتأمل.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة