خوّض حماره نصر الدين

خوَّض حمارَه نصر الدين خوجا (جحا) كما تعوّد ،وكان حمله ملحا وصوفا، وهل هناك ما هو أعدى للملح والصوف من الماء؟ إننا كثيرا ما نقع في الأخطاء حينما ننظر للأمور نظرة قاصرة، ترى جانبا وتغفل جوانب أخرى، ترى المعتاد وتغفل التغير، فنصر الدين قد تعوّد خوض النهر، ولكن ثمة ما أعماه عن الالتفات إلى طبيعة (حِمله/ ظرفه/ حاله) الجديد، فخاض على ما تعوّد، ولكن الأمر قد تغير في غفلة من نصر الدين!

قد تبدو هذه قضية واضحة ونحن نسوقها في طرائف جحا وحماره التي تبدأ ولا تنتهي، فتضحكنا غباوته المجدولة بذكائه، وغفلته بيقظته، وبلادته بسرعة بديهيته، ولكننا في الواقع نضحك منه على الكثير مما نقع فيه يوميا دون أن نشعر للمفارقة كما نشعرها حينما تكون بينه وبين حماره، فكم نخوض من مياه الحياة غافلين عن الظروف إذا تغيرت، والأحوال إذا تبدلت، مأخوذين ببادئ الرأي، وجاري العادة، وعابر النظرة، وسطحية التقدير، فنقع في المآزق والمهالك، حيث يذوب ملحنا الأثمن من ملحه، ويتلبد صوفنا الأغلى من صوفه؟

لاشك أن العادات والتجارب المتكررة تضفي على حياتنا طابعا من السلاسة واليسر، ولولاها لأصبحت الحياة مرهقة، فنحن نتعلم ثم نعتاد قواعد التحية و الخطاب واللباس والطعام والمجالس ونظام العمل والإجازة وقواعد الزواج والموتى والعزاء، وغير ذلك من روتين حياتنا، والتي هي في مجملها أعمال من الروتين غير الممل، وهذا أمر لا مفر منه، وليس فيه ضرر ولا خطر، ولكن العادة كذلك سبب من أسباب فقدان اليقظة والعمى عن المتغيرات.

من الصعب جدا على المرء أن يظل متيقظا في كل حالة من حالاته، فاليقظة تعب، وطلب الراحة فطرة، ولهذا فاليقظة في حياتنا مجرد أوقات عابرة تثيرها فينا المخاوف أو المواجهة أو أي حالة من حالات الاهتمام خارج السبات والعادة، والحازم هو من يكون دائما على أهبّة الاستعداد ولو لم يكن هناك مهمة ينجزها، ولكن أفضلنا حزما من لا يغفل عن أموره الحاضرة التي تناديه وأما التحضر لغائب الأمور وغير المتوقع فوجوده نادر وشبه معدوم، وإلا فالبلادة طبع فينا يجرنا دائما نحو الاسترخاء.

إن أكثر الضرر والخطر الذي نقع فيه نابع من الوقوع تحت سبب من أسباب العمى واللاوعي، وهي كثيرة لا تحصى، فقد يعمينا الحب أو البغض أو التعصب أو الجمود والتقليد أو الطمع أو الثقة في من ليس بثقة وغيرها من الأسباب، فلا نتبصر عواقب أعمالنا، ولكن تبقى التجارب السابقة التي نجحنا فيها في أداء نفس العمل وحصلنا منه على النتائج التي نرغب فيها، هذه التجارب المعتادة هي أكبر عامل من عوامل الغفلة عن المتغيرات القاتلة، ذلك أنها تجعلنا نلقي كل أسلحة الحذر واليقظة التي نتسلح بها عادة ونحن نخوض تجربة لا نعلم نتائجها.

لعلك لا تجد أحدا يتعامل مع نفس العمل بنفس اليقظة والحذر الذي تعامل معه حينما بدأه أول مرة، ونحن نعتز دائما بالخبرة ونثق في المجرب ونتوقع منه أن يؤدي العمل على درجة من الكمال غير التي نتوقعها من غير الممارس المخضرم، وهذا كله صحيح ومجرب، ولكن ليس في كل شيء إذ ليس كل الأمور تجري على ما تعودنا، فالعلاقة مع المواد الجامدة والقوانين الطبيعية الصارمة تسمح بتكرر التجربة أكثر مما تسمح بها طبيعة العلاقات مع الناس، إذ العلاقات مع الناس أكثر تقلبا وتلونا وتغيرا وتعقيدا، والثقة والاطمئنان في عالم العلاقات البشرية كثيرا ما يؤدي إلى الأخطاء بل والمهالك.

السياسيون بالذات هم أول من ينبغي له الالتفات وأخذ طبيعة كل حالة على حدة، واضعين في اعتبارهم طبيعة حملهم وطبيعة خصمهم وحليفهم، ذلك أن من طبيعة السياسة العمل وفق المصالح لا وفق المبادئ، فالدخول في تحالفات ومعارضة وموالاة تظل قابلة للتحول وفق أوراق اللعبة ومؤشر المصلحة، وقد تكون لعبة السياسي مهلكة له ولحكمه بل ولشعبه وبلاده، ولا غرابة فملحه ليس كالملح وصوفه ليس كالصوف.

وأمثلة ذلك في حياتنا المعاصرة كثيرة ولا تكاد تنقطع: فكم من حليف قد غدر به حليفه، وجار قد غزاه جاره، الذي كان موضعا لثقته، ففي حوالينا: هذه أوروبا قد أغرت صدام بغزو إيران حينما كانت مصالحها في الغزو، في حين ارتبطت بعض الدول العربية بصدام ارتباط العضد بالمعصم فبذلت له غاليها ونفيسها معونة له في حربه التي لم تكن حربه ولا حربهم بل حرب الغرب الماكر، ثم ما لبثت الأمور أن أظهرت من تقلبات أحوال السياسة ما يستحق أن يقف عنده العاقل طويلا لينظر كيف تجري حكومة القضاء، عبرة لو تأملها المرء لوجد فيها ما يدهشه، حيث ينقلب الحليف الحبيب على حليفه وحبيبه ويغزو المؤتمن من جاره جاره، ثم تكون عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى! ليس على الكبار فقط بل على كل من باع ضميره ومبادئه من مختلف الفئات، ابتداء من البعثيين الذين تنازلوا لصدام عن مبادئ البعث وسلكوا معه درب الموالاة على غير مبادئ البعث، من العشائرية والفئوية والمطامع والتعصب العرقي، فقد خاض حمارهم سنين ثم غرقوا بحملهم لما تغيرت الظروف والأحوال.

وتجربة التابعين مع الرؤساء هذه تتكرر في كل بلادنا العربية، فكلهم قد اعتاد تخويض حماره معهم، طمعا فيما طمع فيه أتباع صدام، وقد ظفر الكثيرون بما أرادوا ولا زالوا يظفرون، فما من رئيس أو سلطان فينا إلا والخائضون معه هم الفائزون بدنيانا، ولكن من يدري متى تكون أحمالهم ملحا وصوفا؟

وما دمنا في العراق فلنبق فيه شيئا قليلا، متذكرين حال الأحزاب التي تحالفت مع أمريكا في إسقاط صدام، فقد خوّضوا بحملهم في نهر أمريكا ليزيلوا عنهم الكابوس، أكثرهم لم يكونوا يوما من رجالاتها ولا أحلافها، بل كانوا في ضفة أعدائها وخصومها، ولكن اليأس رماهم عليها، وحاجة أمريكا لهم جعلتها تقبل بهم شركاء لإسقاط صدام، فكان تحالف مسافرين جمعتهم الضرورة ، ولكن كان عليهم أن يدفعوا أثمان هذه الضرورة الباهظة: استمرار الدمار والقتل والخصومة المذهبية والدينية والقومية إلى أمد لا يعلمه إلا الله، والقبول بأن يقتل حليفهم القوي رجالهم ونساءهم وأن يغتصب أعراضهم ويذلهم ويسومهم الخسف دون أن يتمكنوا من رده إلا بالاستعطاف والترجي! ويا للعجب فالحال نفسه يتكرر في أفغانستان، يطلق الأمريكان من على بعد سبعين كيلو متر صاروخهم ليقتل حفل زفاف بأكمله على أنه تجمع لإرهابيين، ثم يقصف قرية ثم سوقا ثم وثم، ولا يملك قرضاى أمامهم إلا الاستعطاف والترجي. لقد خوّض حماره نصر الدين وكان حمله ملحا وصوفا.

ويا ترى ما هو الثمن الذي كان على السلطة الفلسطينية أن تدفعه للإسرائيليين والغرب ثمنا لأوسلو غير ثلثي فلسطين؟ أثمان كثيرة، آخرها الفتق الفلسطيني الواسع الذي لا رتق له، وأن تقوم السلطة نفسها بنزع سلاح المقاومين شركاء السلاح، وأن تتعاون أمنيا مع إسرائيل ضدهم، وتسلمهم بنفسها لهم، عوضا عن ألوف الأسرى والقتلى والإذلال اليومي لكل فلسطيني وفي كل طريق وبكل طريقة، والتحكم في رواتبهم ومائهم وكهربائهم وهواتفهم وخروجهم ودخولهم، لو كان نصير خوجا الفلسطيني يعلم بكل هذا المر والشقاء الذي جلبه على نفسه وأهله لفكر ألف مرة قبل أن يخوّض حماره في نهر إسرائيل وأمريكا، ولكنه اليوم لا يملك إلا أن يشرب الكأس حتى صبابتها.

ثم ّ عرّج على لبنان، من كان يظن أن المحكمة الدولية لتحقيق العدالة في اغتيال الحريري وسلسلة ضحايا الاغتيالات ستنكشف عن آلية سياسية ماكرة، الهدف الأخير منها ضرب أعداء إسرائيل والغرب في لبنان؟ أكاد أجزم أن أحدا من الأطراف اللبنانية وخاصة في 14 آذار لم يكن يتصور أن للأمر خارطة طريق عوضا عن أن يعلم هذه الخارطة، فكل ردود الفعل كانت عاطفية وعفوية توجهت مباشرة للخصم المفترض، فبادروا بحماس منقطع النظير في استغلال الحدث غير مستبصرين إلى أنهم أنفسهم مستهدفين موظفين من حيث لا يشعرون في لعبة أكبر منهم ومن لبنان، وأن المسألة ليست خارجة بتاتا عن مواصلة حرب تموز وأنها أسلوب آخر لهزم المقاومة ولو بحرق لبنان بمن فيه، بل إن المقاومة نفسها لم تكن تجزم – على تخوفها – من أن المكر الغربي العالمي سيواصل وبأسلوب أكثر مكرا ودهاء معالجة آثار هزائم إسرائيل، فليس من الممكن الإبقاء على بؤرة قادرة على تغيير مستقبل المنطقة لوجه غير الذي تريده قوى الاستكبار، لو كان نصر الدين خوجا لبنان يعي المصير إذا لربما كان أكثر حذرا مما كان، ولما خوّض حماره نهرهم محملا بالملح والصوف، وهل الشعب اللبناني في تماسكه إلا كما الملح، وفي انتفاشه إلا كما الصوف، ولكن من منهم يملك شجاعة وليد جنبلاط في الإقرار بالخطأ كما كان يمتلك جرأة التهور في الوقوع فيه؟

ضربنا الأمثال كبيرة، ولكن أمثالها كثير فيما نراه في مجتمعنا الأصغر، فكم من عالم أو وجيه أو جمعية أو جماعة خوّضت فكان مآلها مآل ملح نصر الدين وصوفه؟ اضطرت لأن تقدم من مصداقيتها وشرفها ومبادئها ما لا يمكنها التعويض عنه، كل ذلك لطمع أو تعصب أو خطأ في القراءة.

التصرف في أمور الشأن العام الخطرة والحساسة بدون وعي، اندفاعا وراء العاطفة واللحظة الراهنة، لا يجلب للدول والناس سوى المآزق والمهالك، إننا في عالم ماكر دهاؤه ليس من النوع ذي الخطوة والخطوتين، بل ذو الخطوات العديدة التي يصعب على الإنسان أن يدرك أن الضربة ستكون في العاشرة أو ما بعدها، فشيطان الغرب الحديث أكثر دهاء وخبثا مما نظن، ويملك من النفوذ و الوسائل والأساليب وانعدام الضمير الكثير، ما يجعل الحذر منه واجب في كل حين، ومن كل جهة، وعلى كل حال، ومن لم يعرف عدوّه كثرت مقاتله.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة