تحت عنوان مثير: “محمد بن راشد يسبح مع عدد من الوزراء”،
تناقلت الرسائل الالكترونية خبراً مفاده أن نائب رئيس دولة الإمارات المتحدة ورئيس مجلس وزرائه وأعضاء الحكومة اختتموا اجتماعاً وزارياً برحلة بحرية بعيداً عن الأجواء الرسمية، وكان الخبر مدعوما بصور تظهر المجتمعين وهم يسبحون (بكل وقار!) في أجواء وديّة.
أخبار كهذه تُتداول محمّلة بمشاعر الإعجاب والإكبار للرؤساء (المتواضعين!) الذين يكسرون حاجز الرسميات ويخرجون عن المعهود فيسمحون لعدسات الصحفيين التقاط بعض الصور لهم في حالات أقرب للطبيعية؛ ولكي لا نكون سوداويي النظرة فلابد من الاعتراف بأنّ تلك (الحركة) مفيدة للرؤساء والوزراء ليكسبوا ودّ عامة الشعب عندما يشاهدون رؤساءهم في صورة لا تحيطهم هالة التقديس والتبجيل المبالغ فيها، وتؤكّد على (إنّما هم بشر مثلنا)، ولكن ..
ماذا لو خلع الزعماء بجميع صنوفهم، السياسيّون منهم والدينيّون بالأخصّ وكل من أُحيط بهالة التقديس الظاهري، لو خلعوا لباس العظمة المكتسب من المظهر الخارجي كاللباس والهندام، ومن المواكب البشرية وغير البشرية المحيطة بهم في كل تحرّكاتهم، وتنازلوا قليلاً وأمروا بالتخفيف من نشر صورهم التي تملأ الصحف والأزقة والشوارع حتى لكأن مظاهرة إعلانية تدور رحاها أينما ذهبنا، ماذا لو سمحوا لأجهزتهم الدعائية والإعلامية أن تنسب كلّ عمل لصاحبه لكيلا يبدو أحدهم كالواحد الأحد، وأعطوا الفرصة لمن حولهم من الثقاة أن يمسكوا ببعض خيوط القرارات فيكونوا شركاء في “الصورة”، وتركوا الناس وشأنهم في التعبير عن قوّة الولاء أو ضعفه، ولم يقرّبوا المتملّق ويهمّشوا المعارض؟
هل جرّبوا ذلك؟ فلربما اكتشفوا أنهم يحملون بعض عناصر العظمة في ذواتهم دون الحاجة لاستلافها بفبركة إعلامية مؤقتة، ولعلّهم بعد ذلك يكسبون محبة صادقة على احترامهم لإرادة شعوبهم، محبة لو أنفقوا مال الدنيا لم ينالوها.
طرق نيل العظمة الحقيقية كثيرة جداً، وقسماً .. أنها أقل كلفة بكثير من تلك الصورية المخادعة، وأكثر إمتاعاً وجمالاً من نقيضتها، ولكن لا أفهم لماذا يبحث معظم المتنفّذين عن أردأ أنواعها، يبحثون عن العظمة الممرّغة في وحل الظلم، والكذب، والخداع، والكبر، والغرور، والسرقة، والنهب، والغصب، والإكراه .. كما لا أفهم أي سعادة يشعر بها هؤلاء إذا رأوا أنفسهم مبجّلة، معظّمة، لدى زمرة من الجهّال، المخدوعين، المستنفعين منهم، أو الخائفين، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم مُزدَرون، مبغوضون، مغضوب عليهم من قبل عامة الناس! أهي عظمة المجانين؟ أم هو “جنون العظمة” أُصيبوا به؟ معضلة ليت أحد هؤلاء يحلّها لنا.
أحد أيسر طرق تحصيل العظمة الحقيقية هي كسب قلوب الناس بخدمتهم ونفعهم، وإبعاد شبح الخوف والفقر والجوع عنهم، ولا نطالب بأن يقوم الزعيم بنفسه بخدمة الناس – وإن كان هذا هو الأمثل – ولكن ليجرّب أحدهم أن يطلب من بعض خبرائه الاقتصاديين أن يحسبوا له كلفة “تشريفات” اللقاءات الرسمية خلال أسبوع واحد فقط، والأموال التي تُصرف على بعض الحملات الدعائية له، ثم يأمر بتخصيصها أو نصفها أو ثلثها أو عشرها لبعض فقراء جيرانه أو منطقته أو شعبه، ويجعل لهم حقاً في كل مال مسكوب في غير محلّه، ثم بعد ذلك يقلّل من الإغداق على التشريفات والإعلانات والدعايات والبذخ ويحوّلها للمحتاجين، ويستمر على ذلك بلا منٍّ ولا أذى، وبعدها فليستطلع الآراء ولينظر أين تكمن العظمة الحقيقية أفي قلوب الناس أم في عدسات الكاميرا؟
تلحّ عليّ ذاكرتي باستحضار صور من التاريخ لعقد مقارنة بين معظم عظماء اليوم (الورقيين)، وبعض عظماء الأمس (الآدميين) الذين عاشوا بين أقوامهم كأحدهم فورثوا محبّة وإخلاصاً وولاءً صادقاً، ثم ماتوا تاركين ذكراً عطراً أبدياً، وتاريخاً ناصعاً سرمدياً. يتألّق على رأس هذه القائمة تاجها وسيدها خاتم الأنبياء محمد (ص) الذي ما تفتأ المحافل الرسمية وغير الرسمية تذكر تواضعه، ونكرانه لذاته، وشجاعته، وبساطته، وصفاءه، ونقاءه، وتقواه، وعظمته ولكن لا نرى أثراً منه فيهم، وكأن العمل بسيرته الإنسانية أو الاقتراب منها أصبح بدعاً من البدع.
أختم بحوادث تبيّن البون الشاسع بين “صورتنا” و”سيرة” من نحب (ص).
قيل عنه (ص) أنه إذا جلس مع الناس لا يعرفه الأغراب ولا يستطيعون أن يميّزوا بينه وبين جلسائه، لا في المكان الذي يجلس فيه، ولا في طريقة جلسته، ولا في تعامل الآخرين معه، فيضطر القادم للقائه أن يسأل: أيكم رسول الله؟! كما دُعي مرّة للجلوس في مكان مرتفع، فرفض وجلس على الأرض وقال: “إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد، وقد أتاه (ص) رجل فأخذته رعدة بين يديّ رسول الله (ص) فقال له: “هوّن عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”.
أعلم أنّ المعنيين بهذا الكلام لا يقرأونه، ولا من سبيل لإسماعهم إلاّ من قبل بطانتهم – إن بقي لهم بقية من بطانة خير – ولكن يبدو أن داء جنون العظمة المصاب به أكثر زعمائنا من الأمراض التي تتسلّل إلى من دونهم فأُصيب به الكثير من المسئولين في مختلف المستويات، فلهؤلاء نكتب لعلّ بتبصّر بعضهم أو أحدهم يُفرج عن همّ أمّة ولو بعد حين.