زكريا يتكفل مريم ببرنامجه لا بالقرعة

قيل أن امرأة عمران “حنّة” قد كبرت ولم تلد، فأبصرت طائرا يزقّ فرخا، فنذرت إن ولدت أن تجعله من خدَمة بيت المقدس، فحررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو، ثم مات عمران و امرأته “حنّة” حامل فلما وضعتها إذا هي أنثى فقالت عند ذلك: (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ)، ثم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، فقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريا: أنا أحقّ بها لأن خالتها عندي، فقالوا لكنا نقترع عليها، فألقوا أقلامهم في نهر جار قيل هو نهر الأردن، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فارتفع قلم زكريا فوق الماء، ورسبت أقلامهم، فأخذها وكفلها وضمها إلى خالتها أم يحيى، واسترضع لها حتى كبرت، فبنى لها غرفة في المسجد لا يرقى إليها إلا بسلّم ولا يصعد إليها غيره، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، فيقول أنّى لك هذا؟ فتقول هو من عند الله.”(1)

أقوال المفسرين في إلقاء الأقلام

يتكرر القصّ التاريخي في كيفية إلقاء الأقلام في لسان كتب التاريخ والتفاسير وكتب الفقه التي تناولت القرعة التي اقترعها زكريا ومن تنافسوا معه في كفالة مريم(2) في قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران:44).

دليل المفسرين في مفهوم إلقاء الأقلام (القرعة)

قالوا: أن المساهمة في اللغة بمعنى الاقتراع، ويلقون أقلامهم، أي سهامهم للاقتراع(3)، أي يضعون أقلامهم في الماء للاقتراع. وأوضح البعض أنّ: “ساهم بمعنى قارع بالسهام، وقيل للسهم القلم، لأنه يقلم أي يُبرّى، وكلّ ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته”(4). ولمناقشة هذا القول يمكن أن نورد ما يلي:

1. ربما يُتوهم أنّ مريم المنذور بها قد سلمتها أمها إلى الأحبار وهي رضيعة ليأخذوها مباشرة إلى المعبد، لكن الرواية تبين أنّ حنّة اشتهت الولد برؤية الطير يزقّ فرخه، فهل عاطفة الأمومة وفي حالتها المتلهفة للولد يناسب تسليم فرخها (رضيعا) إلى رهبان المعبد ليقترعوا عليه؟ أم تسلّمه بعد اشتداده ليناسب أوان الخدمة والتعليم؟ إنه إشكال منطقي قوي في الرواية نفسها، فمن المنطقي أنّ الأم أرضعت بنتها ثمّ أخذتها للرهبان لتعرض عليهم كفالتها، وهنا انبرى زكريا باستعداده لكفالة مريم مقدما أول حججه الوافية بإقناع الرهبان وطمأنة قلب أم مريم، بأنها ستكون تحت رعاية خالتها (وهي امرأته) لتقوم مقام أمّها، وبذلك أسقطت الأم ولايتها ووفت أيضا بنذرها محررة بنتها المنذور بها من سلطتها ومن اشتغالها بهموم بيت أمها، ولا علاقة لهذا بالقرعة ولا لازم لها.

2. قالوا أنّ آية (…إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) واردة لحكاية الاقتراع، وأنّ القرعة أمر مشروع في شريعة من قبلنا وفي شرعنا حيث هي سنّة النبي محمد (ص) لحديث عائشة: “كان رسول الله(ص) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها”(5)، فإنّ فعل النبي محمد(ص) في مثل هذا الحدث ليس دائما وفق القرعة، وقد أورد القرطبي في نفس المصدر أنّ محمدا (ص) “مرة يقرع ومرة يسافر بأوفقهنّ في السفر”، ومعنى ذلك أنّ المعيار متى كان واضحا في اختيار واحدة معينة أخذها دون قرعة، أما استعمال القرعة فمن أجل عدم إيجاد أي اتهام له في نفوس نسائه وأصحابه وتطييب خواطرهن، وإيجاد الجو العادل في بيت النبي، ولهذا كان يقرع بين نسائه، أما لو كانت الحجة واضحة في تعيين واحدة دون غيرها فلا يلجأ قطعا إلى القرعة، وإلا ضاعت المصلحة في واحدة بعينها. وكون القرعة جائزة عندهم لا يعني أنهم اقترعوا عليها.
وفي موضوعنا ما دامت حجة زكريا أقوى الحجج فالحجة تمنع من استعمال القرعة في المجال نفسه، لقد كان دأب محمد(ص) مشاورة أصحابه ليكون الرأي أقرب لكشف الواقع، وكان مع الدليل والحجة والبرهان والحسم في المواقف، والتفويض الواسع للكوادر القيادية في إدارة مهماتهم، وزكريا النبي لا يعقل أن يكون ضعيف الحجة والبرهان، ولهذا بادر في استعداده لكفالة مريم، ولو كان كذلك (ضعيف الحجة) ما اختاره الله سبحانه لمهمة النبوة والتغيير في أفكار الناس وعقائدهم وسلوكهم، ورسم مناهج التفكير السديد، وهذا الدور التربوي من أغلى المهمات عند قادة الإصلاح والأنبياء.

3. ما دلالة تأخّر “إذ يختصمون” على “إذ يلقون أقلامهم”؟
اختلف المفسرون في مفهومي: “إذ يلقون أقلامهم” و”إذ يختصمون” في ثلاثة أقوال: الأول: “إذ يلقون أقلامهم حين أيتمت من أبيها، وإذ يختصمون عند ولادتها بعيسى أيهم يكفلها ويكفل ولدها”(6)، والقول الثاني:”يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم، واختصامهم تشاحهم في كفالة مريم”(7)، وكما في كتاب البحار: “بلغوا في التشاح عليها إلى حدّ الخصومة”(8).أما القول الثالث فهو: “يلقون أقلامهم يقترعون حين أيتمت من أبيها، ويختصمون تنافسا في كفالتها”(9).
والجواب على القول الأول هو احتمال صحة الاقتراع لكفالة مريم، ولكن النصف الثاني من القول غير معقول، لأنّ الامتحان صعب أن يطمئنّ الأحبار إلى شرف مريم وعفتها حينما ولدت بعيسى من غير أب، وبالتالي لا يمكن أن يحدث تنافس في كفالتها وكفالة ابنها عيسى، ووقتئذ الكلّ قد تبرأ من فعلها، سوى زكريا الذي هو متيقن من عفتها وشرفها. وهو الذي استمر في الدفاع عنها وتبرئة ساحتها من كلّ دنس إلى أن أظهر الله الحق على لسان ولدها الرضيع.
أما القول الثاني والثالث فهما خلاف المنطق، فالترتب الزمني أن يحدث التنافس والاختصام أولا في شأن الكفالة ثم ينتهي الخصام والتنازع بالقرعة دون العكس، وآية موضوعنا: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) {فوضع الأقلام أي كتابة كلّ واحد من الأحبار(المتنافسين في كفالة مريم) برنامجه للكفالة حصل أولا، وعلى أثر وضع البرامج اشتدت المنازعة كلٌّ ينتصر لرأيه حتى يتمّ عرض الآراء والأدلة جميعها ويتم مقارنتها وتستقر الآراء على اختيار البرنامج الأفضل، ثم يسلّم الجميع للرأي الأوفق والأكمل، وهذا مفهوم الاختصام المتأخر زمانا عن وضع الأقلام}.

4.اشتهرت قاعدة على لسان الفقهاء عند الاستدلال على مشروعية القرعة، هذه القاعدة تنصّ على أنّ “القرعة لكلّ أمر مشكل” و”القرعة في كلّ أمر مجهول”(10) وقد أوردوا هذه القاعدة عن أئمة أهل البيت، وقد طبقوها في موارد عديدة، ومنها موضوعنا في اختصاص القرعة عند تنازع الكهنة على تعيين كافل مريم في تأويل آية: (إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) حيث أنهم تسالموا على اختصاص حالة كفالة مريم بالأمر المشكل والمجهول، فيتعين القرعة لحلّ الأزمة.
وجوابنا ينطلق من التأكيد على أنّ الحالة ليس فيها أزمة حتى تتعين فيها القرعة، بل هي حالة طبيعية، وإن عُبر عنها بحالة الاختصام (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) والاختصام ليس مختصا بالتنازع، فالاختصام بالحجة والبرهان والدليل، ويقال للرأي المغاير والدليل المناقض خصما، وخاصمه: حاججه، وزكريا كان يمتلك مشروعا للمرأة لإعطائها حقها في مجتمع ذكوري، ولهذا حين نذرت امرأة عمران ما في بطنها محررا، وتبين بعد الولادة كون الجنين أنثى خاطبت الواهب الباري: (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لكن زكريا تقدم لهم باقتراح في كفالة مريم: أن يُلقي الجميع أقلامهم أي كلٌ يكتب بقلمه برنامجه فيما ينوي أن يفعل في كفالة مريم، ويوضح مشروعه، وخطته المعدّة، فمن يتقدم بأفضل برنامج يفوق برامج الآخرين فهو الجدير بالكفالة، وحينئذ تنتفي الحاجة للقرعة دون منازعة سوى بالاحتجاج العلمي والخصومة بالدليل والمنطق، وهذا هو دور النبي زكريا غير التقليدي والذي نُظر إليه بعيون باهتة تقليدية أجحفت بسلوك زكريا المتقدم.

5. نؤكد ما ذهبنا إليه من رأي بما تحصلنا عليه من أدلة من مجموع الكتب التي رجعنا إليها:-
أ- قال ابن هشام الأنصاري في آية: (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) أنّ “التقدير ينظرون أيهم يكفل مريم، وقيل يتعرفون”(11).
وقال الفيروز آبادي في تفسير الآية: (أيهم يكفل)أي يأخذ (مريم) للتربية، (إذ يختصمون) يتكلمون بالحجة لتربية مريم(12). فالاختصام كان حلّه هو الحجة والدليل والبرهان، لا التنازع والقرعة، وإذا كان زكريا هو يخطط لكفالة مريم ليمرر عبر كفالتها مشروع حرية المرأة وحقها الإنساني كأخيها الرجل، فكما يكون الرجل واقفا نفسه لخدمة المعبد فكذلك هو حق للمرأة لا فرق بينهما، أو بالأحرى، إيصال صوت المرأة الوعظي والتربوي إلى عموم الإنسان من منطلق المكان المقدس، والقرعة ليست طريقا عقلائيا في كشف الواقع، وليست كاشفة عن المجهول، وإنما هي لمجرد رفع النزاع والتنازع الذي لا حلّ له، وكما قال أحد العلماء: ” أنّ القرعة تختصّ بما إذا كان هناك واقع مجهول، وأما في غير ذلك فلا وجه للرجوع إلى القرعة فيه”(13).

ب- قال البعض أنّ زكريا استحق كفالة مريم من غير قرعة: “كفلها زكريا بغير قرعة، ثم أصابتهم أزمة ضعف بها عن مؤنتها، فقال: ليأخذها أحدكم فتدافعوا فاقترعوا فقرعهم زكريا”(14) فهذا رأي يوضح فيه أنّ تكفلها من دون قرعة وإن كان يؤخذ عليه عدم تفسيره وجه اشتراك زكريا معهم في القرعة بعد إعلان عجزه عن الكفالة، مع أنّ الآية فيها نص على الاختصام، وهذا بالطبع كما قلنا اختصام علمي وغلبة ودحض للآراء المقابلة لرأي زكريا، فالآخرون كانوا المدحضين، وزكريا هو الفائز بمشروعه وبرنامجه، وبالتالي تعينت له الكفالة، كما مدح هذا التخطيط القرآن الكريم عن جدارة واستحقاق في قوله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) فالمقام مقام مدح بدليل الجمل الثلاث: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) لبيان أصل النعمة بدءا من خلوص النية لله في النذر ومرورا بالإنبات الحسن في بيت التقوى والإخلاص والوعي واحترام الذات الإنسانية، وانتهاء بكفالة زكريا لا غيره، فلو لم يكفلها من هو جدير بكفالتها(زكريا) لما تمّت النعمة، وكلّ هذه النعم الإلهية ما كانت من غير جهد بشري ووعي تام بأصول التربية، ومع هذا الجهد والإرادة الإنسانية تحلّ فيها النعمة الإلهية وتزدان الدرة شجرة مباركة ونباتا حسنا.

ج- قال الإمام الشافعي في تفسيره للآية: } … وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ..{ (آل عمران، 44). “فأما مريم فلا يعدو الملقون لأقلامهم يقترعون عليها أن يكونوا سواء في كفالتها، لأنه إنما يقارع من يدلي بحق فيما يقارع، ولا يعدون إذا كان أرفق بها وأجمل في أمرها أن تكون عند واحد، لا يتداولها كلهم مدة مدة، ويكونوا يقسموا كفالتها، فهذا أشبه معناها عندنا والله أعلم”(15) وهذا قول صريح في تصور الحالة وقتئذ بأن القوم الذين تشاحوا في كفالة مريم كانوا كلهم جديرين بالكفالة، إلا أنّ (زكريا) كان أجدر من غيره حال المنافسة على الكفالة، وإن لم يبين تفصيل الجدارة وبيانها، وحتما هي جدارة مخطط لها وفق برنامج واع وتخطيط واضح، أراد منه تغيير مفاهيم المجتمع الذكوري الظالم لوضع المرأة؛ حتى تتحول إلى حالة استواء إنساني، وللقارئ أن يتساءل أين هو الظلم وهم جميعا يتنافسون في الكفالة لها وهي أنثى؟ وعلام غلبهم زكريا؟ والوجه أن الأحبار لم يريدوها إنسانا خالصا لله والعبادة، بل كما يتعامل السدنة مع النذور مالاً يؤكل أو عبدا يُستخدم أو فتاة تُنكح، وأما زكريا فأرادها إنسانا لا يقصر عن الرجال في العبادة والزعامة الدينية، ومن هنا كانت الخصومة بينهم وبين زكريا فيها.

وفي ذات الوقت هو يرسم لجيله وللأجيال من بعده كيف يُحترم الرأي ويخلد في التاريخ، ويرفع مستوى الفكر التربوي والإداري، وهكذا أسس (زكريا) للإنسان كيف يضع الوزير والرئيس والنيابي وغيرهم برامجهم التي على أساسها يُنتخبون ويميزون ويعرفون ويتعاقد الناس البيعة معهم، وفق برامجهم ويحاكمون على أساسه، ويؤخذون به ويحاكمون وفق بنوده، حال نكث العهود والمواثيق، والتراجع عما سطّر وكتب على نفسه بقلمه.

6. قالوا كما تقدم: أنّ “ساهم بمعنى قارع بالسهام، وقيل للسهم القلم، لأنه يقلم أي يُبرّى، وكلّ ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته” وقالوا أيضا أنّ الأقلام هي ما يكتبون بها الوحي، لكن المعنى الأخير هو الأظهر، والتقليم هو التصنيف للمعلومات وهي وظيفة الكتابة في وضع البرامج والعلوم، فكيف ابتعدوا عن هذا المعنى الواضح الجلي إلى غيره؟ لهذا فإن أحد العلماء شكك في انطباق الآية على القرعة حيث أوضح أنّ: “في الآية نفسها إيهام فإنّ كون جملة (إذ يلقون أقلامهم) بمعنى الاقتراع غير واضح”(16). والعجيب أنهم لجؤوا إلى الغرابة التي لا تتقبلها العقول إلا بنحو من الإعجاز حيث نقلوا في مروياتهم التاريخية أنهم “انطلقوا إلى نهر، فألقوا إليه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي، على أن من ارتفع قلمه فوق الماء فهو أحق بها، وقيل إن أقلامهم كانت من الحديد، فألقوا أقلامهم ثلاث مرات، وفي كلّ مرة يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم” (أي تركس في النهر)، فكانت من نصيب زكريا دون غيره.

فإذا كانت الأقلام متشابهة من حيث مادتها التي صنعت منها، ومن حيث طولها وحجمها وهيئتها ووزنها، فكيف يطفو في الماء قلم زكريا و تركس الأقلام الأخرى؟ أو بالعكس، لا يكون ذلك إلا بتدخل إعجازي، فكيف نؤول حدوث الأمر بالإعجاز ونترك الأخذ والإيمان بالطريق الطبيعي الموافق لجميع العقول البشرية!؟ نعم لا يمكن أن ننفي بأنّ مريم حظيت بالألطاف الإلهية والكرامة والعناية الخاصة في مسيرة وحياة مريم منذ نذر أمها وولادتها، وكفالة زكريا لها، على أنّ اللطف الإلهي لا يكون خلاف السنن، بل يتماشى مع الأسباب الطبيعية والعلل المؤثرة وهي تتهيأ وتتسخر وفق إرادة الله تعالى على أيدي خلقه وإرادتهم.

7. إنّ مشروع زكريا وبرنامجه في كفالة مريم والذي اشتدت فيه الخصومة والتنازع البياني بعد عرضه وعرض مشاريع الآخرين، واستقرار الأحبار على اختيار مشروع زكريا، استدعى منه العمل الدؤوب لإقرار حقوق للمرأة لم تكن مكفولة لها في المجتمع الذكوري ومن أهم هذه الحقوق هو حق التعلم والتعليم للمرأة، فإصرار زكريا أن تكون في المعبد تحت رعايته واجهت ممانعات من الأحبار، وكونها في المعبد يوازي التحاق نساء اليوم في الجامعة والمكث في السكن الداخلي للطالبات في الجامعة، تسكن وتدرس فيها وتمارس كل أنشطتها العلمية فيها دون قيد من أحد أو قانون يستهين بمكانتها، والمكان الطبيعي للتعلم والتدارس والتأمل والالتقاء بالناس في أفضل أوقات الجدّ وقتئذ هو المعبد، وشرعية تواجد مريم فيه هو إقرار لحقها الكامل في التعلم والتعليم، فلم يعُد حق المرأة في التواجد في هذه المضامير مختصا بالرجال كمدارس الفقه، والخدمة للمجتمع، وإمكانية فهم الشريعة، والتأهّل للوعي بمسائل الدنيا والدين، ولا شكّ أنّ إعضال الكهنة لها لإخراجها من دار العلم وإرجاعها للحبس في البيوت والتضييق عليها في الرزق، كان له الأثر في بخس مكانة المرأة وسلب حقوقها إلى اليوم، ويظهر ذلك جليا في تفسير الآيات التي تحكي واقعها ومكانتها كإنسانة لها كامل حقها الإنساني، إلا أنّ تواجد امرأة تمارس نشاطها العلمي والاجتماعي وقتئذ كانت بمثابة المرأة الموفدة المضحية عن النساء المضطهدات؛ مما شجعن النسوة وقتئذ على التعاطف والوقوف معها في ثباتها على حقها، وكنّ يهرّبن لها أفضل ما لديهن مما لذّ وطاب من الأطعمة، وهذا الذي دفع زكريا للتعجب وسؤالها عن مصدر هذه العناية وهذا الرزق، وتجيبه الصدّيقة “هو من عند الله”، وكل نعمة هي من عند الله فعلا.

8. ومما أيدّ برنامج زكريا في الكفالة وساعده على تهيئة الأجواء لتقبل المجتمع وتغيير مفاهيمه بإعطاء المرأة حقها الإنساني في صف أخيها الرجل، ما كتب الله للنذر أن يكون أنثى لا رجلا، كما قالت امرأة عمران: (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)، فلو لم تنذر أم مريم ليكون مولودها خالصا لله في المعبد؛ لما أمكنها أن تأخذ ابنتها للمعبد من دون النذر، ولو رزقها الله ولدا بدل مريم الأنثى لما أمكن لها ولا لغيرها ولا لزكريا أن يجعلوا المجتمع راضاً بوجود امرأة للخدمة والعبادة والعلم في صف الرجال في المعبد، وهكذا أيدت السماء مشروع زكريا الهادف لتحرير المرأة واصطفافها مع أخيها الرجل في نفس المعبد تزاول كلّ النشاطات العبادية والعلمية.


(1 ) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، المجلد 1، ص 170، دار الكتاب العربي، بيروت ، ط 6، 1986م
(2) ارجع إلى الكتب التالية: فقه القرآن، للقطب الرواندي،ج2 ص124 / بحار الأنوار ، للعلامة المجلسي، ج14 ، من ص 194/ السنن الكبرى، للبيهقي، ج10، ص286/ القواعد الفقهية، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج1، ص325/ تفسير الرازي، فخر الدين الرازي، ج8، ص47/ تفسير ابن عربي، ابن العربي، ج1، ص128 / تفسير الثعالبي ، الثعالبي، ج2 ، ص44 / تفسير الآلوسي ، الآلوسي ، ج3 ، ص 158،/ البداية والنهاية، ابن كثير، ج2، ص69/ السيرة النبوية، ابن هشام، ج2، ص469/ القواعد الفقهية، السيد البجنوردي، ج1، ص59 / تفسير ابن كثي ، ابن كثير ، ج1 ، ص 370
(3) مائة قاعدة فقهية، السيد مصطفوي ، ص 191 / تفسير البغوي ، البغوي ، ج1 ، ص 201 / الأصول الغامة للفقه المقارن ، السيد محمد تقي الحكيم ، ص 151 / تفسير البحر المحيط ، أبي حيان الأندلسي ، ج1 ، ص 47

(4) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ج1 ، ص 220
(5) تفسير القرطبي ، القرطبي ، ج4 ، ص86
(6) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج14، ص 191
(7) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج3ن ص190
(8) بحار الأنوار (مرجع سابق)
(9) التفسير الأصفى، الفيض الكاشاني، ج1، ص151
(10 ) أورد هذا الكثير في أغلب المصادر التي رجعنا إليها في الهوامش السابقة ومنهم: قاعدة القرعة ، حسن كريمي، ص 22
(11) مغني اللبيب، ابن هشام الأنصاري ، ج2 ، ص 417.
(12) تنوير المقياس من تفسير ابن عباس ، الفيروز آبادي ، ج2 ، ص 417 .
(13) المصطلحات ، إعداد مركز المعجم الفقهي ، ص 2052 .
(14) تفسير العربي عبد السلام ، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام ، ص 262 .
(15)كتاب الأم ، الشافعي ، ج5 ، ص 119 .

(16) القواعد الفقهية ، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص 336

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة