يمكن القول أن معاوية هو إمام السياسة العربية، فقواعده وسياساته ظلت خطة متبعة لكل من أتى بعده من موافقين ومن مخالفين، محبين له أو مبغضين، لم يتخلف عنها أحد أبدا إلا ما قيل عن عمر بن عبد العزيز الذي خالف روح معاوية فكان أحد ضحاياها.

وصف معاوية بالداهية فكانت لنا من دهائه دواه لما تزل فينا مؤبدة، أول هذه الدواهي هي نظام التوريث للخلافة ، فمهما قيل من فوضى تطبيق المسلمين للشورى في عهد الخلفاء الراشدين إلا أن السلطان للأمة في تولية أو عزل خليفتها بقي مبدأ معترفا به عند السلطة والرعية، وهذا هو أعظم مبادئ الشورى أهمية، إلا أنه ومنذ معاوية تحولت الخلافة إلى التوريث المبدأ الذي لم يخالفه فيه أحد من بعده من محبيه ومن مبغضيه، وهو لا يزال مستمرا من بعده حتى أصبح هو السنة، وأصبح حق الأمة في تولية من تختار وعزله هو البدعة لا في السياسة فحسب بل في الفقه أيضا.

وثاني هذه الدواهي هو تصحيح الخلافة بالانقلاب والاغتصاب حتى على من كان موليا على الناس بانتخاب عام، والغريب أنه أسس انقلابه على دعوى الاحتجاج ضد انقلاب على الخليفة الشرعي، ثم كان انقلابه هذا تأسيسا لصحة تولى السلطة بالغلبة، لا في السياسة فقط بل في الفقه أيضا، فصارت الانقلابات وسيلة متكررة في تاريخنا، وصار لدينا في الفقه مفهوم بيعة المتغلب وأنها صحيحة متى ما استطاع قهر منافسيه.

وثالث هذه الدواهي هو الخلط بين المال العام والمال خاص، مع حرية التصرف في كليهما بنفس الموازين، فصار يتصرف فيه الخليفة بحسب ما يراه لا يتقيد فيه بقيد ولا يتورع عنه بوازع، فمعاوية بدأ بتحريف تسمية المال العام من (مال المسلمين) إلى (مال الله)، ونصّب نفسه أمينا على مال الله بما هو خليفة رسول الله على الناس، ثم صار ينفق منه دون حرج، حتى قال الأميون للناس: إنما السواد بستان قريش، بعدما كان في الدين ملكا لكل أجيال المسلمين، وهذه سنّة جرت ولا تزال في كل من تولى أمرا في الناس من بعده، بينما كانت الثورة على عثمان (رضي) حدثت بسبب استنكار المسلمين لتصرفه في المال العام بما هو أقل بكثير من تصرفات معاوية ومن بعده إلى اليوم.

ورابعها هو استباحة حرمات المعارضين، فلم يحدث قبل معاوية أن قُتل مُعارض لم يحمل السيف ويخرج على النظام مقاتلا، أما معاوية فاستعمل الغيلة والسجن والسم والإعدام والتشريد والتضييق المالي وهدم الدور، إضافة لمختلف الوسائل غير الدموية من الإغراء والخداع والمكر، وتلطيخ السمعة، واللعن والسب في وسائل الإعلام العامة، وهذه سنته لا تزال جارية في كل من أتى من بعده يزيدون فيها ولا ينقصون.

وخامسها استهداف المدنيين من الناس المؤيدين لخصومه في السياسة، نساء ورجالا وأطفالا وأموالا وأعراضا، فكان يرسل السرايا تتسرب خلسة للإغارة على المدن والقرى البعيدة عن المسالح، فيقتلون وينهبون ويقتحمون البيوت ويسلبون النساء حليّهن ثم يعودون ثم يعاودون، بغرض إرباك خصمه وتشتيت تركيزه وإشاعة الخوف في كل البلاد. مع أن المستهدفين لا ذنب لهم إلا أنهم من أتباع خصمه رغم كونهم من مواطني بلاده التي يطمع في حكمها. وأنت ترى من بعده وإلى اليوم كيف لا يتورعون عن المجازفة ولو بإشعال حرب أهلية بين المواطنين واستعداء فئة على أخرى إذا اقتضت حاجة الحكم.

وسادسها اللعب على التناقضات بين المكونات الاجتماعية للمواطنين، بتقريب فئة وإبعاد فئة، وإعطاء فئة وحرمان أخرى، وإكرام فئة وإهانة أخرى، فقد قرب العرب وأبعد الموالي، وأكرم قريش وأهان الأنصار، وأعطي الأمويين والقرشيين وفتح لهم كل مجالات الثراء والمناصب في الدولة، وضيق على الأنصار وأهانهم وعيرهم بأنهم أبناء الفلاحين أصحاب النواضح، قائلا: أين ذهبت نواضحكم؟ وأهان غير العرب وجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، ولما جاء العباسيون بعدهم ساروا على نفس الهدى الأموي وإن تغيرت بعض المواقع.

وسابعا توظيف الدين نصا ورجالا في خدمة السياسة، فقد دفعت الأموال لمن يضع أحاديث تصحح الخلافة الأموية وتجعلها قدرا مقدرا لا راد له، وأن الواجب هو الرضا بقضاء الله وقدره فيهم وإن كرهت النفوس، وقرّب علماء وأبعد آخرين تبعا لموافقة أو منافاة قولهم فيما يطمح ويطمع، ولعمرك كانت هذه السنة من أعظم الدواهي على الدين وعلى المسلمين، فقد وظفها كل من جاء بعده، فمن أدرك منهم فترة تدوين الأحاديث وظف الأحاديث في خدمة جليل المطالب وحقيرها، حتى هان الحديث على الناس واستسهلوا الوضع فيه، مما سمم هذا المصدر المعرفي عند المسلمين، وأما من فاته عصر التدوين فلم تفته عهود التأويل والتفسير وتحريف الكلم عن مواضعه وليّ الألسن بالكتاب لتحسبه الناس من الكتاب وما هو من الكتاب.

هذه دواه سبع من دواهي معاوية ، وهي لا تزال دستورا في السياسة لكل من أتى بعده، لا يكادون يضيفون لدواهيه مزيدا إلا في التفاصيل والتوسعة والموائمة مع الظروف المختلفة، فلا غرابة بعد هذا إذا وصف معاوية بالدهاء، بل هو معلم الدهاء للسياسيين العرب من بعده.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة