صناع التاريخ وعملية التغيير

كلنا يعلم أن التاريخ لا يصنع نفسه، بل يصنعه رجال نتيجة مواقف وانفعالات أثرت فيهم فاستغلوا ذلك التفاعل بإيجابية للتغيير، ومع قناعتهم بالقدرة على تحمل نتائج قرار التغيير مهما كانت الاستحقاقات في سبيل الوصول إلى غايتهم المنشودة لذلك التغيير، وهم الذين يرون أن سعيهم لذلك الأمل يستحق كل التضحيات في سبيل تحقيقها، عند ذلك الحد هم يخطون الخطوات الصحيحة لكي يسطّرهم التاريخ كصنّاع له، فإن كانت تلك حيثياتهم التي ينبغي أن يتبعها كل من حق عليه القول كصناع للتاريخ، وإذا كان ذلك همهم الكبير الذي يحملونه للتغيير إلى الأحسن، فلابد أن تكون رؤيتهم واضحة بحيث لا يمكن خروج أهدافهم لعملية التغيير عن عملين متلازمين: الأول عملية هدم واقع سيئ أو نظام فاسد، والثاني عملية بناء مستقبل حسن أو نظام صالح، من هذا المنطلق استطاع أولئك التميز على أقرانهم من حيث القدرة على التغيير الإيجابي المؤثر على قطاع كبير من الناس، ومن حيث النقلة النوعية التي أضافت شيئاً متميّزاً غير من مسار التاريخ إلى الأفضل والأحسن.

وإن من مميزات الصناع هي النظرة الموضوعية للأمور والتعامل بواقعية مع مقتضيات وضعهم، بحيث تكون الأهداف متوافقة مع رؤاهم التي وضعوها لأنفسهم، وتكون منسجمة مع واقعهم المطلوب تغييره، وخصوصاً أن واقعهم السيئ هو الذي حتم عليهم ودفعهم للتمرد عليه، وواقعهم ما هو إلا نظام معمول به، وفيه من الخلل الكبير الذي لا يمكن لتلك الفئة التعايش معه أو احتماله لما له من مساوئ كبيرة لا يمكن العمل بها لأسباب كثيرة ­ إن كان على مستوى النظام السياسي مثلاً ­ فهاجسهم الأكبر هو وجود خلل في ميزان العدالة، وضياع كرامة الإنسان، ومصادرة حقوق وحريات الآخرين من قبل فئة باغية قليلة، وعدم الشعور بالأمن والاستقرار النفسي والعاطفي لفئة كبيرة من المجتمع لصالح فئة صغيرة هدفها التحكم في الآخرين ليكونوا عاجزين عن الاستقلال بأنفسهم، كذلك التحكم في الثروات لصالح الفئة الغنية وترك الفتات لشريحة كبيرة» أما في الجانب الفكري فالحرص على جهل الأمم بهدف السيطرة عليها وليسهل اقتيادها من قبل المتحكّمين فيها، وعلى المستوى العقائدي لكي لا تصل المفاهيم التوحيدية التي تدعو لعبودية الإله الواحد وليس لعبودية الأسياد والتجار، تلك هي أسباب دعت صانع التاريخ أن يدرك المساوئ والخلل في النظام المعمول به، ويبادر إلى تغييره لوضع أفضل منه، فأول همّ يحمله إذاً سيادة العدالة في النظم والقوانين بحيث تكون شريعة النظام مبنية على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، والنظرة الإنسانية تجاه الآخرين، لأن الإحساس بالإنسانية هو شعور مرهف لدى صانع التاريخ، ولا يرى إنسانيته إلا من خلال شعوره وإحساسه ببني جنسه من البشر، وأن الموارد الطبيعية مصدر الثروات ليست حكراً على فئة بل هي من حق الجميع، والإيمان بأن ليس من الإنصاف والعدل التلاعب بمقدرات الآخرين في مصادر رزقهم، تلك هي أهم التحديات التي واجهت صناع التاريخ وميّزت عملهم على بث روح الوعي لدى الأمة لتجنيبها الوقوع في مزالق الجهل، والاستغلال من قبل المتربصين بها، بهدف بناء أمة قوية في عقيدتها ومبادئها.

أهم ما يميز عملية التغيير لدى صنّاع التاريخ التفكير الدؤوب والتخطيط بموضوعية للنجاح وليس للفشل، وفشلهم في باب لا يعني عدم طرقهم أبواباً أخرى، لأن هدفهم أكبر من أن يوقفهم فشل عارض، بل يرون أن الاستفادة من الفشل هو باب من أبواب النجاح، ولو فتشنا على مثل ممكن سوقه كشاهد وشهيد على صناع التاريخ لما وجدنا أفضل وأنصع من شخص الرسول الأكرم (ص) الذي صنع تاريخ أمة، ورفعها من الحضيض إلى العلا.

لقد نظر الرسول الأكرم (ص) إلى أمته من زاويتين للتغيير: الأولى كيف يغير نظاماً قائماً يظن أنه فاسد ولا يصلح التعامل به، في الوقت نفسه ما البديل الذي يريد إحلاله محلّ النظام الفاسد؟ هنا لابدّ من معرفة شيء عن شخصية الرسول كونه صانع تاريخ أمة يريد أن يغير واقعها السيئ إلى واقع أفضل منه، فما الذي يمتلكه الرسول من مؤهلات ليكون أهلا لذلك، على رغم أن شخصية الرسول غنية عن التعريف مما يحمله من صفات معروفة كالصدق والأمانة ونصرة المظلوم وحبه للخير، وكثير من المقومات غير الاعتيادية التي تفرّد بها في زمانه وفي محلّته بالذات، كل تلك المقومات وغيرها أهّلته لأن يتحمل المسئولية ويتصدى لها باقتدار وجدارة.

وللعلم فإن تغيير نظام هو أشبه بعملية الهدم، ولأن النظام الذي يريد الرسول تغييره له قواعده وقوانينه المطبقة، والاصطدام به يعتبر تهمة تعادل محاولة الانقلاب في الوقت الحالي، ولأن الجاهلية ليست مجرد معتقدات خاطئة فحسب، بل هي مجوعة قوانين وأنظمة متّبعه وسائدة، منها قانون الأسياد والعبيد والطبقية العرقية، النظام الربوي في المعاملات، وإغارة القوي على الضعيف بقصد السلب والنهب، واستغلال مصادر التجارة من قبل الأشراف، ودفع الأتاوة (الضرائب) على القوافل وإلاّ تعرضت للسلب والنهب، واستغلال الكهنة في تثبيت عبادة الأوثان للسيطرة على عقول الناس ومقدّراتهم، نشر الفساد والرذيلة والمتاجرة بها (تجارة الرقيق)، وهذه بعض خصائص النظام الجاهلي.

أما عملية استحداث نظام هو أشبه بعملية بناء، ولأن الرسول جاء بنظام جديد يعتمد بالدرجة الأولى على العملية الإصلاحية في بناء الأمة، فبدأ من اللبنات الأولى للمجتمع بنشر ثقافة توحيد الخالق، تمهيدا لتغليب مظاهر التوحيد على الشرك، وإزالة الطبقية العرقية بين الناس لأنهم سواسية أمام الخالق، وبحفظ كيان الأسرة وكيان المجتمع، وتحريم قتل النفس الذي كان سائداً من قبل سواء الأولاد خوفاً من العار(الوأد)، أو في القضايا الأخرى كالانتقام والسلب والنهب، والتركيز على الفضيلة والأخلاق وجهاد النفس بالابتعاد عن الرذائل، وحثّ الناس على التعامل بالعدل مع الآخرين سواء في القول أو في الفعل، كل تلك المظاهر الجديدة التي جاء بها الرسول استطاعت أن تغير من تلك الأمة، وتقلّب كل الموازين لصالح مبادئ الرسول وساعده على ذلك قدرته على استيعاب الرسالة وبلورتها بأسلوبه المميّز في إحداث التغيير على رغم المصاعب الكبيرة التي لاقاها.

إن كل ما يمكن أن يُسطَّر عن صنّاع التاريخ هو مجرد عبرة للتأمل، وإذا أردنا أن ننظر إلى سر نجاح صناع التاريخ من خلال المثل الذي سقناه عن شخصية الرسول الأكرم (ص) كأحد أنصع الأمثلة عن صانعي التاريخ، فإننا لابد أن نقف عند ثلاثة أمور مهمة لشخصية صناع التاريخ: الأول، لابد من صانع التاريخ أياً كان مسلكه أن يكون ذا شخصية متميزة تبرز ملامح من شخصيته لجميع الشرائح التي يتعامل معها، فصناع التاريخ هم أناس كانت أخلاقهم وأفعالهم وتصرفاتهم غير اعتيادية بالنسبة إلى الآخرين، الثاني: القدرة على استكشاف مواقع الخلل سواء كان فسادا فكريا أو عقائديا أو أي جانب آخر يستلزم التغيير أو التجديد، وقدرتهم على التفاعل مع الواقع بايجابية وعدم الرضوخ للأمر الواقع مادام سيئا ولا إنسانياً، الثالث: التمكّن من معالجة مواضع الفساد والخلل من خلال برنامج جديد قابل للتنفيذ والتطبيق، ولعل أشرف موقع يتبوأه صانع التاريخ إيجاده القاعدة التي استطاع أن يبنيها لتكمل المسيرة من بعده، ولأن صناع التاريخ لم يكن همهم أبدا تخليد اسمهم بل كان جل اهتمامهم هو العمل على تغيير واقعهم إلى الأحسن لتنعم الأجيال من بعدهم بما صنعوه، فإذا ما كانت تلك هي غاية أي إنسان فهو بحق سيصنع التاريخ.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة