قضينا رمضاناً ساخناً، لا بحرارة الإيمان، أو دفء المحبة والأخوة المبثوثة من بيوت الله ومساجده كما هو مرتجى، بل بتتابع أحداث بعضها محلّي مفتعل لا يمتّ إلى نفحات الشهر الكريم وروحانيته بصلة، وبعضها إقليمي ودولي سياسي واقتصادي وديني، فشُغلنا عن السياسة والاقتصاد بعد أن شهدنا تطاحناً كلامياً بين كبار علماء المسلمين المنفتحين والمعتدلين ممن كان لهم باع طويل في الدعوة للوحدة الإسلامية، والساعين للإلفة بين الطوائف، كما انهالت علينا فتاوى أشبه ما تكون بهلوسات مَرَضيّة كتحريم البوفيه، والزلابيا، إلى التكفير وهدر الدم، وغيرها. لا أقول أُفسد علينا شهر السلام والصفاء لأني أؤمن بأنّ من ينشد السلام سيجده في أعماقه وإن كان في قلب الأعاصير والزوابع فالشعور بالسلام ينبع من الداخل ولا يُستلف من الخارج، ومن حاز على سلامه الداخلي لن تستطيع الإنس والجن أن تسلبه إياه ولو اجتمعت عليه.
ولستُ متشائمة، ولا متشائلة كما يحاول البعض أن يصفوا حالة بين حالتي التشاؤم والتفاؤل، بل أؤمن بقوة أنه “إذا ما استحكمت حلقاتها.. فُرجت”، فما أُصاب الأمة من نوازل التفتيت والتشرذم والتقاتل بين الأخوة في الدين والوطن قد بلغ مداه وآن أوان الانتفاضة على هذا الواقع الأليم لينفضوا عن أنفسهم جهالات الطائفية، ووهم امتلاك الحقيقة، ورعونة الانتماء لفرقة ناجية. تأمّلت مليّاً، ونحن جلوس على مائدة الإفطار، التنّوع الواسع بين أفراد العائلة الواحدة، فكان منّا المتديّن الأخباري، والأصولي، ومنّا الليبرالي، والعلماني، والحقوقي، والوزير، والتجديدي، والشيعي، والسني، والإيراني، والعربي، والمتحجّبة وغير المتحجبة، تنوّع لم يفسد حميميته اختلاف انتماءات المجتمعين، تحدّثنا في الشأن الداخلي والخارجي، تناكفنا، واختلفنا في تنظيراتنا، وتبايّنا في تحليلنا لما يجري حولنا، ولم نتوافق في رؤآنا، ولكن لم يُلجَم أحد بسبب اختلافه أو يُمنع من التعبير عن رأيه، ولم يُتّهم أحد في دينه أو عقيدته أو وطنيّته، فاجتمعنا متوادّين وافترقنا على حال أفضل منه. من المبشّرات المفرحات في هذا الشهر الكريم، أن مجالس شهر رمضان العامرة بالمختلفين المتآلفين صمدت أمام رياح الخلافات المذهبية المسيّسة والمفتعلة، واحتفظت بدفء العلاقات الاجتماعية وتنوّعها رغم أنف المطبّلين على وتر الطائفية، والراقصين على أنغام التفرقة المذهبية، فامتلأت المجالس بالمنتمين لجميع الطوائف والمشارب فلم يطلها بحمد الله ما طال بعض المساجد ودور العبادة من تمييز وتسييس وتعصّب، وحدهم أولئك الذين أبوا إلا أن يُحرَموا رحمات شهر رمضان الكريم وصفائه بتأزيم الوضع وتجييش أتباع مخدوعين بمعارك وهمية هم الذين خسروا ضيافة الله لهم.
هذا هو الوضع الطبيعي في بلد اعتاد التنوع والاختلاف الذي قد يُفضي إلى التكامل والتجانس والثراء الفكري والثقافي لو وُظّف توظيفاً حسناً، فأسفاً أن يُحرم فرصة الاحتفاء بهذا الالتحام والتقارب في يوم عيده، يوم تسلّمه جوائز الرحمن التي أعدّها للصائمين، أسفاً أن يُعبث بفرحته لأغراض شخصية أو حسابات مذهبية، وعجباً أن يُعصف بجمع العائلة والحي والبلد الواحد، لكسل أو تراخٍ من قبل بعض رجال دين لم يكلّفوا نفسهم عناء البحث والاجتهاد فيما فيه صلاح قومهم، بل تصل الأنانية والمراوغة لدى بعضهم أن يقطعوا مسافة السفر ليفطروا غير آبهين بما يجري داخل البيوت الآمنة من خلافات وشجار وتنغيص لفرحة العيد السعيد. رأينا كيف يستطيع بعض المفتين أن يُحرّموا ويُفسّقوا ويكفّروا ويهدروا دماء فئات مختلفة من الناس بجرّة قلم، فما دامت الفتاوى في متناول يد كل رجل دين يحلّل ويحرّم كما يشاء، فلم لا تُستبدل فتاوى التعسير والتحريم والقتل بفتاوى الإحياء والإصلاح والتوحيد ليدخل الناس في دين الله أفواجاً كما أخرجوهم منه أفواجاً بسبب تشويه بعضهم للدين وتعسيره.
أولا يعجب هؤلاء المفتون ولا تأخذهم الحميّة على الدين عندما يشاهدون المغنّيين وهم يترنّحون يميناً ويساراً فيتحرّك معهم الآلاف من المشاهدين طرباً، فلم لا يكون لهم مثل هذا التأثير على الشباب، ثم ألا يخافون إن هم بقوا على حالهم المتردّي هذا أن يأتي يوم تثور ثائرة الناس عليهم كما حدث مرّة مع قاضٍ شرعي أفتى بتحريم لبس (شورت) كرة القدم وفق قاعدة فقهية تقول: “من تشبّه بالكفار فهو كافر”، فقاطع أهل تلك البلدة المحكمة الشرعية وتجاهلوا تلك الفتوى المتطرفة وطالبوا بنقل القاضي إلى مدينة أخرى، وكلما خرج إلى الشارع كان يُقذف بالحجارة من قبل بعض لاعبي كرة القدم الذي حرّم عليهم ارتداء (الشورت)، ولكن يبدو أن بعض الناس فقدت جرأتها لمواجهة التطرّف والغلواء بعد أن استحوذ على عقولها، وظنّت أن كلّ فتوى حكم نازل من الله.