كلمة الله في التوبة 

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ

تُتداوَل هذه الآية الكريمة كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعي تحفيزاً وحثّاً على الاستغفار قبل انقضاء الشهر الكريم، تُتداول بصورة يبدو فيها شيء من السذاجة أو التسطيح لفكرة التوبة، وقد يكون ذلك متفهَّماً بالنظر إلى النفس البشرية التوّاقة للبحث عن الراحة النفسية بالتمنّي، فإنها تقفز إلى النتائج “يُرسل السماء عليكم مدراراً”  دون أن تقف عند المقدّمات “استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه”، فتغري قارئ الآية العجول على توقّع هذه النتيجة السخيّة بتحريك اللسان بقول “استغفر الله وأتوب إليه”، دون بذل أدنى جهد لتدارك أو محو آثار الذنب الذي ارتكبه، وهذا مخالف لنواميس الكون وسنن الله.

الآية نداء من النبي هود (ع) لقومه يحثهم على أن يطلبوا العفو من الله (استغفروا ربّكم) عمّا بدر منهم من شرك صريح حتى أنه وصفهم بـ”إن أنتم إلا مفترون”، ثم تدعوهم إلى العودة إلى الله (توبوا إليه) والرجوع عن المعصية إلى الطاعة، فهناك خطوتان ابتدائيتان يقوم بهما المرء قبل أن يتوقع النتائج الكريمة من ربّ العالمين، أولاهما: الاعتراف بالذنب وطلب العفو والستر منه سبحانه، والثانية: ترك ما استغفر منه، والعزم على عدم العود لما كان يقترف من إثم، مهما يكن صغيراً أو كبيراً؛ سوء ظن، كذب، غيبة، استهزاء، كسل، تهاون، تحامل، كراهية، حسد وغيرها، حينها فقط يستحق أن تغمره السماء ببركاتها، ويزداد قوة. 

نلاحظ أن وعد النبي هود لقومه “يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم”، يتوسط (دعوة) إلى الاستغفار والتوبة، و(تحذير) بأن “لا تتولوا مجرمين”، ولكن من يهوى تبسيط الأمور، وتخدير المخاوف الحقيقية، يقوم بتجاهل المقدمات المطلوبة لتحقّق الوعد، ويتعامى عن المحذورات من عدم الالتزام بها، ويتشبث بالوعود، رغم أنه لم يعمل بمقتضى المطلوب لنبقى في حالة من الوهم والرضا عن النفس المصطنع الذي يبدو بأننا نعوّل على حسن ظننا بتحقيق الوعد الإلهي لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد، ولكنه في الحقيقة غير ذلك.  

بتتّبع بعض الآيات التي جاء فيها لفظ (التوبة) نلاحظ أن في الكثير منها هناك عمل ما يقوم به بعد التوبة، مثل:

الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا 

واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى

إلا من تاب وآمن وعمل صالحا 

فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة 

والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا 

مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ 

فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ 

إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وأَصْلَحُواْ 

إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ

فلو أردنا أن نستخلص كلمة الله في التوبة من مجمل ما تقدّم من آيات فقط، يمكننا القول بأنه لا تتم التوبة إلا بعمل يتبعها يصلح ما أفسده الذنب، مع ملاحظة أنه في الموارد التسعة السابقة تكرّرت سبع مرّات (وأصلح) (وأصلحوا)، و(عمل صالحاً)، أي أنه لابد من عمل (يصلح) ما فسد، بعد التوبة والاستغفار ليثبت صدق التوبة ولينال بركات المغفرة.

انقضى رمضان هذا العام المميّز بظروفه الفريدة، وبالخلوة مع الله والنفس في فترة التباعد الاجتماعي، فلم لا نجعل من عيدنا عيداً فريداً بأن نخطو أول خطوة إصلاح لذنب من ذنوبنا أو خطايانا أو أخطائنا فنختبر لذة “يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم”، وكل عام وأنتم بخير وسلام ومحبة.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة