اختصرونا في مذاهبنا، فقيل لنا أنتم شيعة، وأنتم سنّة، فهل يمكن اختصار الشعب البحريني في أنَّه تجمع من سنة وشيعة؟ وهل نريد ذلك ونقبله؟ أليست لنا عناوين أخرى نعتزّ بها، وننتمي إليها، ونؤمن بها، ونعمل على هدي منها لنختصر هذا الاختصار المخلّ؟ ألسنا من بني الإنسان أولا؟ فتحق لنا الكرامة التي يستحقها كل بني الإنسان فوق كل انتماء؟ ألسنا عربًا نستحق أن نفخر بما يفخر به العربي من جميل تراثه، ونحزن لما يحزن له العربي من قبيح تراثه؟ ألا يحقّ لمن كان منا من أصول فارسيّة أن يفخر بأصوله الفارسيّة الموغلة في تاريخ الحضارات آلافًا مؤلفة من السنين؟ ومن كان منا من أصول إفريقية ألا يحق له أن يعتزّ بأصله الأوّل لكل البشرية؟ ويعتزّ ولو بأدواته الموسيقية البسيطة وروحه المرحة التي يحفل بها؟ ألم ننفخ معه “الصرناي” ونرقص على قرع طبوله؟ ويغني الأفراح معنا؟

أليس منا القوميون والشيوعيون والاشتراكيون والليبراليون واللا أدريّون والفوضويون والحداثيون ومن كل فكرة وملة وثقافة؟ فنحن شعب حيّ متفاعل، ولسنا فقط مقلدة فقهاء، وتبعة خطباء، وعبدة دنانير السلاطين، فلماذا يختصرنا الإعلام والصحافة البائسة في مذاهب هي أضيق من فكرنا وهويتنا؟ لماذا يراد لنا أن ندخل الكهف المذهبي؟ وأن لا نطلّ على الوجود إلا من فتحة في صندوق المذاهب؟

مَن مِن أطبائنا أو مهندسينا أو تجّارنا أو باعتنا أو عمالنا أو غيرهم .. كان يضع في اعتباره مذهب مريضه أو زبونه أو تلميذه؟ كلّ من أجاب بنعم على هذه وأمثالها فهو متجنٍّّ على الحقيقة، وإن حصلت من بعض المتعصّبين من المذهبيّين المهووسين في هذا الزمن الأسود، فهي بكل تأكيد ليست من طبيعة البحرينيين ولا من شيمتهم، وبصفتي معلمّاً ليس ثمة معلّم في البحرين بحريني أو أجنبي يفرح برسوب أحد من تلاميذه لاعتبارات مذهبية، ولقد علّمت في هذا الزمن الأسود أطفالاً غالبيتهم من السنة وأبناء المجنّسين من سوريين ويمانيين وآخرين من غير العرب، وكان بينهم قليل من الشيعة، فلم أشعر بعطف مذهبيّ ولا عرقيّ تجاه تلميذ على آخر، ولم أشعر بأنّ مذهبه وعرقه وجنسيّته مانعة بيني وبين مودّته أو الجدّية في منعه من الإهمال المضرّ به، ولم أبخل على طفل منهم بالنصيحة بما فيه صالح مستقبله، إنّي إذا لمن الظالمين.

وللحق لم أشهد لمعلّم شيعي ولا سنّي فرحة أو شماتة برسوب تلميذ من تلاميذه، بل على العكس يشعر بالغضب أو الحزن جرّاء إهمالهم وتفريطهم. وأشهد أيضا بأنّ المعلمين السعوديّين حتى المتديّنين السلفيّين هم أيضا بعيدون عن روح التمييز بين طلبتهم، وأنَّهم لا يفرحون لتخلّف تلميذ من تلاميذهم، ويحبّون لو أنّ الجميع كان متميّزًا، وكلّ من كان على غير هذا الخلق من المعلمين فهو شاذّ ونادر لا يقاس عليه.

من الواجب على كلّ بحريني اليوم أن يعيد شريط حياته، منذ أن وُلد وإلى الآن، إن كان سنيًا فليتذكر كم ممّن هم من الشيعة قد أحسن إليه ولو بتلقيه بوجه حسن، أو بمداعبته بنكتة ضحكا فيها سويًا، وإن كان شيعيًا فليتذكّر كم من سنّيّ قد أحسن إليه ولو بدلالته على طريق أو محلّ لم يكن ليهتدي إليه لولا معونته.

فلنعد بالذاكرة للحيّ والمدرسة والسوق والشارع والملعب والشاطئ والعمل والأفراح والأتراح، فمنا مَن قد مرّت عليه سبعون ومنّا من مرّت عليه ستون، وخمسون ومنا من لا يزال في ريعان الصبا يلاعب أترابه، ولنتصفّح دفتر الذكريات، ولنستخرج منها أحلى ما فيها، وإنّ فيها الكثير، وليحدّث نفسه والآخرين عن “سعد جوهر” وعن “عليّ جعفر” والذوادي والمرهون، حينما كانت القلوب نقية والنفوس زكية، ولم تكن المذاهب هي كلّ الهوية، ولينشر في كل موقع ذكرياته، لعلّ القلوب تعود لما كانت عليه من الوداد، فإنّ الله سبحانه قد نصح أهل الخصام بتذكّر الفضل الذي كان بينهم قبله فقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، ونصح أهل الجدال بالتي هي أحسن، فما التي هي أحسن؟ إنّها أن تذكر مجادلك بأفضل ما فيه من الحسنات، وتقرّ له بأفضل ما هو عليه من الصالحات، قبل مواضع الخلاف، ذلك إن كنت تريد الإصلاح حقّا لا الخصومة.

وإن أردت أن أبدأ بنفسي؛ فمع أني ابن قرية، إلا أنّ حياتي لم تخل في مرحلة من مراحلها من معرفة إنسان آخر ليس على مذهبي، إن كان لا بدَّ لنا أن نجادل في الدين والمذهب، فمنذ طفولتي وإلى الآن عرفت رجالاً ونساءً شيبًا وشبانًا وكهولاً ومن كل الأعمار والمناطق، في المدرسة تلميذًا وفي المدرسة معلّمًا وفي السوق بائعًا ومشتريًا، درست مع أبناء البديع والجسرة، والحورة والرفاع، ثم علّمت أبناء البديع والجسرة، وأبناء الرفاع ومدينة حمد، وعملت في سوق الرفاع عشر سنين تعرّفت خلالها على ربّات بيوت، عشر سنين لم تعرف واحدة منهن اسمي الحقيقي، إذ كن يخاطبنني باسمالمحلّ دائما، ظانّات أنّ اسم المحل هو اسمي، وحتى الآن إذا لقيتني واحدة منهن تظلّ تحيّتها باسم المحل، لم يكن بيننا إلا المعروف، ولا أذكرهنّ إلا بخير.

وفي معهد المعلّمين نضجت بيننا العلاقات، فتزاورنا، وأكلنا وشربنا، وأقمنا الرحلات، والتقطنا الصور: فؤاد، عبد الرزاق، عبد الجليل، من أبناء الحورة، وعبد الله من الزلاق، أعرف ألقابهم ولكن أتركها حفظًا للخصوصية، أحببتهم ولا أزال، لم أفكّر يومها ولا الآن أنهم سنّة- وماذا يضرّهم حين يكونون سنّة؟ – لأنّ هناك عناوين أخرى كثيرة تجمعنا صنعناها بأنفسنا ولم يصنعها لنا الآخرون، فهم زملاء وأصدقاء وبحرينيون وهم وهم..، فلماذا أختصرهم ويختصروني في مذاهب لم نصنعها بأنفسنا يومًا، ولم ندخلها مختارين؟

ولست أنسى وفاء عبد الله للمودة، فما أنْ رآني بعد أكثر من ثلاثين سنة، في حفل رسمي عام وكبير، كان هو راعيه، حيث أصبح مسئولاً رفيعًا، وكنت مدرّسًا يتقاعد أقع تحته في سلّم الدرجات بمنازل كثيرة، فما أن رآني مقبلا لاستلام شهادة التقاعد منه، حتى تنحّى عن المنصة ونزل ماشيًا نحوي يستقبلني قبل أن أصل إليه قائلاً: شارقي!! واعتنقني دون مبالاة للبروتوكول، ودون أن يحفل بردّة فعل القاعة الممتلئة بالحضور، وطلب من المصوّر صورة خاصة، نعم فقد يكون وكيلاً أو وزيرًا، ولكنَّه حينها عاد عبدالله الصديق القديم، فلا سنّيته وهو المتديّن ولا شيعيتي منعتنا من المودّة وذكر الإخاء، وكيف يمنع الدين المودّة؟ اللهم إلا دين التعصب البعيد من الله ورسوله.

أعلم أنّ الحال لم يعد كما كان لكثير من الناس، وأنّ شيطان التعصّب المذهبي قد تصاعدت في الناس أبخرته، ولكني أعلم أنّ أكثر الناس لا تزال على طيبتها، وأنّ روحها لم تفسد بعد، ولم يمسخ جوهرها؛ اللهم إلا القليل منهم، ممّن يرى التعصّب المذهبي دينًا، أو ممّن يحمله ضعفه وخوفه على مجاراة المتعصّبين.

فيا أيها البحرينيون: هذا وقت يجب فيه على كل واحد منا أن يتذكّر إحسان الآخر إليه، وفضل الآخر عليه، ممّا قلّ منه أو كثر، فاذكر جميل من علّمك صغيرًا أو كبيرًا، ومن طبّبك مريضًا، ومن باع لك واشترى منك، ومن أوصلك بسيارته مشوارًا، أو دفع لك سيارتك المتعطلة، أو أصلح عجلتها، أو أعانك بأسلاك بطارية، أو سامحك في مخالفة مرورية، أو أسقط عنك غرامة مالية، أو توسّط لك عند مدير أو وزير، ومن أكرمك ولو بصبّ فنجان قهوة، أو دلّك على طريق، وتحدّث به في المجالس، واكتبه في المواقع والصحف، فهناك اليوم أفواه شرّ كثيرة لا تذكر معروفًا ولا إحسانًا، يسرّها أن يغير الأخ على أخيه، والجار على جاره، وأن ينسى الناس كلّ فضل كان بينهم، تسلق بألسنةٍ حِدادٍ أشحةٍ على الخير، وتدوس بقلوب غلاظ مثقلة بالحقد، تروّج للكراهية، وتنكأ الجراحة، وتشمت بالمصيبة، تناست كل فضل أسدي إليها، وأنكرت كل حسنة أصابتها، وتمادت في الغي، حتى بلغت في الحقد حدّ السرف، وقد نصح كتاب الله عباده فقال: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ *الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء:151/152).

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة