محمد بين نوافذ العقل ونوافث الوحي

إنّ ما يشهده إنسان اليوم من تطور مذهل للعلوم وتسخير لطاقات التكنولوجيا الهائلة وترويض لبعض مظاهر الطبيعة القاسية. ما هو إلا نتيجة اكتشاف ما كان غائباً عنه بالأمس من قوانين هذا العالم المادي وخصائص مواده وعلاقاتها ببعضها. ونحن اليوم نلمس آثارها العظيمة لمس اليد. أقصد المفيدة منها في شتى مجالات الحياة لا المدمرة كالتي وُظفت في التسلح وإزهاق الأرواح ظلماً وعدواناً! فكيف إذا ما طالت أيدينا عالم الروح وتنفّسنا عبيره حتماً لا مجال للمقارنة. فإنّ للمادة حداً لا تتجاوزه أما طاقة الروح فلا حدّ لها.

إنّ الإيمان بالله.. بالقدرة المطلقة الخالقة المبدعة هي الخطوة الأولى على طريق الاتصال بذلك العالم, لأنّ الإنسان يملك نفحةً منه صار بها جديراً بخلافة الله سبحانه في أرضه, جعلت منه ( إنساناً ذا أذهانٍ يجيلها, وفِكَرٍ يتصرف بها, ومعرفةٍ يفرّق بها بين الحق والباطل), جعلت لديه قابلية الترقي حتى يقول للشيء كنْ فيكون, ونماذجُ ذلك مبثوثة عبر التاريخ هم الأنبياء والرسل منذ آدم الرسول وحتى آخرهم محمد (ص) .

ولم يكن هؤلاء بدعاً من الناس في حاجتهم البشرية , كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويمارسون أمور حياتهم كسائر البشر, وليس اعتباطاً أن بعث الله إلى الأقوام رجالاً منهم يعيشون بينهم ويعرفون نسبهم وليس كوكب آخر ليكونوا قدوات حيّة يمكن التأسي بها ولئلا تكون على الله حجة بعد الرسل. فحياة الرسول (ص) لا تختلف عن حياة سائر الخلق من حيث أنه بشر, جرى عليه ما يجري عليهم من سراء وضراء ونعمة ورخاء, وقد ذاق طعم اليتم وليداً, وعاش معاناة طلب الرزق وهو صغير فاشتغل بالرعي وهو ابن  ثمان سنين ثم امتهن التجارة وهو ابن خمس عشرة سنة! وراكم من المعارف وخبرات الحياة ما أهلته للصدع بأمر الرسالة وهو في الأربعين حين منّ الله عليه بالوصال فوجد ضالته (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى), وانكشف له من أسرار الحقيقة ما تميّز به عن سائر الخلق, فهو بشٌر مثلهم ولكنه الآن يُوحى إليه ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ …)

 

التأييد الغيبي

ولقد قيل للنبي(ص) في بدايات الوحي: ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ), فأعباء الرسالة الخاتمة لا ينهض بها إلا رجل كمحمد (ص) في أهليته وخبرته ورجاحة عقله, وكان الوحي يأتيه بالعلوم, والحقائق التاريخية, والتوجيهات الأخلاقية, والممارسات العبادية, وكان عليه واجب إبلاغها وإيصالها مهما كلفّه الثمن, أما وسائل تبليغها وتحرّي أمثلها وأفضلها لتحقيق الهدف فهي من صناعته وصناعة أصحابه, ونادراً ما كان يأتيه الوحي قبل اتّخاذ خطوة ما متدخّلاً ليُلغي أمراً عزم عليه النبيّ (ص) وقايةً للرسالة أو تنزيهاً لها أو حفظاً لحياة صاحبها ريثما تتمّ الرسالة الخاتمة , أي التدخّل الذي يُغطّي جوانب لا يمكن أن يتوصّل لها العقل , فهذا المقدار من التسديد الذي حظي به النبي (ص) من الغيب كان يأتي بعد استنفاد كلّ أوجه التسديد المتاحة والممكنة ضمن ظروف الصراع القائم بين دعوة الحق الجديدة ومناوئيها القساة من استقراء الواقع , وجمع المعطيات , والاستعانة بالتجارب السابقة , ومشاورة عقول الرجال , فقد كان التخطيط المنهجي الواعي حاضراً وفاعلاً في نجاح الدعوة وتجاوز كل المنعطفات الخطيرة التي واجهتها دون الاعتماد على الغيب ابتداءً, وإنّما يأتي التسديد والتأييد بعد إفراغ كامل الجهد العقلي والنفسي والبدني ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) .

أن الأخذ بالأسباب وإعمال العقل كان هو القاعدة والأساس في التعاطي مع ما تفرضه ظروف المواجهة , فقرار الهجرة الى الحبشة لم يكن بوحي من السماء وإنّما جاء نتيجة قراءة صائبة للواقع والمحيط (اذهبوا إلى الحبشة فإنّ بها ملكاً لا يُظلم أحد) . وحتى فيما يتعلق بشأن الهجرة لقد كان ثمة إذن للرسول والمسلمين بالخروج من مكة ولكن إلى أين؟ أإلى الحبشة أيضاً واللحاق بالسابقين منهم؟ أمْ إلى المدينة أمْ غيرها ؟ فتحديد الجهة والتوقيت كان من مسئولية القيادة الميدانية على الأرض  المتمثلة في الرسول الأعظم (ص) , وحيث أنّ عنصر المكان كان سيحدد مصير الدعوة الوليدة لهذا استُبعدت الخيارات الأخرى المطروحة – عدا المدينة – لعدم مناسبتها , ومنها الحبشة نفسها لكونها بعيدة التأثير على مكة فضلاً عمّا قد يُثار من إشكالية الاستقواء بالغريب الأجنبي على قومه وأهله لاسيّما وأنّ الذاكرة القريبة تختزن غزو الحبشة الغاشم لبلاد العرب بوقعة الفيل .

وكما الإذن بالهجرة في المرحلة المكية , جاء الأذنُ –وليس الأمر- بالقتال في المدينة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) , ليعطيَ مساحةً للتفكير والتخطيط والإبداع والرصد والتيقظ والمبادرة والخدعة في الحرب , فلم تكن خطط القتال تنزل معلّبة من السماء , وإنما هي متروكة للتطورات في الميدان وما كانت فكرة حفر الخندق التي تفتق عنها عقل سلمان (رض) في معركة الأحزاب إلا وليدة إبداع اللحظة العصيبة إذْ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر, وكثيراً ما سُئل النبي(ص) عن موقعٍ اتخذه للحرب : أهذا منزل أنزلك الله إياه أم هي الحرب والخدعة ؟ فيقول : إنما هي الحرب والخدعة , فيُقترح عليه تغيير المكان فيستجيب متى اقتنع. لقد فهم الرسول (ص) وأصحابُه أنّ معيّة الله سبحانه للمتقين والمؤمنين والصابرين والمحسنين لاتعني نيابته عنهم في أداء مهامهم والقيام بواجباتهم وتحمّل مسئولياتهم كما يفهمه كثيرٌ من مسلمي عصرنا الحاضر حين يكتفون بالدعاء وطلب النصر من السماء وأن يكفيهم الله شر عدوهم وأن ينصر الإسلام والمسلمين وبخذل الكفار والمنافقين دون أن يساهموا بجهد موجّه ومدروس في التأسيس لذلك التغيير! كبني إسرائيل حين طالبهم موسى (ع) بتحرير أرض الله المقدسة فقالوا : (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) , فمعيّة الله لا تكون الا بتحقّق صفة الإيمان والتقوى والصبر والإحسان التي تعني اختصاراً الأخذ بأسباب النصر, فذلك هو مقتضى رجاء المؤمنين ( فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ) فإذا علم الله منا صدق العزم سدّد خطواتنا وأنزل علينا النصر , وماكان رسول الله (ص) يوماً متكلاً على الغيب فيما يستطيع إنجازه , بل كان مبادراً باتخاذ ما يراه مناسباً معتمداً على عقله ومشورة عقول أصحابه ومتوكلاَ بعدها على الله سبحانه , وربما جاءه الوحي بعد ذلك معاتباً وموجّهاً ومصحّحاً (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) و ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) , وغيرها كثير تنبئ عن تحّرك ذاتي واجتهاد ورغبة منه في دفع المسيرة نحو بلوغ الأهداف .

 

التخطيط للنصر

كانت غزوة أُحد والأحداث التي تلتها مباشرة من أبرز نماذج التخطيط للحرب والمواجهة , حيث كان الخروج لهذه الغزوة مرتبكاَ منذ البداية بسبب كيد المنافقين , وكان الخطر يتهدّد المسلمين من أكثر من جهة , فسفيان بن خالد الهذلي وهو من أشدّ المعادين للرسول(ص) يجمع الجموع لغزو المدينة ,وقريش أعدّت العدة لمحاربة النبي والانتقام لهزيمتها في بدر , وقد خصّصت أموال القافلة التي أفْلَتَ بها أبو سفيان من أيدي المسلمين لهذه الحرب وقالوا: لا تنفقوا منه شيئاً إلاْ في حرب محمد , فكان لابدّ من التصدّي بقوّة لكلّ هذه المخاطر .

كانت خطة الرسول (ص) للحرب تقضي بأن يتحصّنوا  في المدينة ويقاتلوا المشركين إذا دخلوها فهم أعرف بأزقّتها منهم , ولكنّ بعضاً من الأنصار وخصوصاً الشباب المتحمس منهم فضّلوا الخروج إليهم , وقال قائلهم : “هي إحدى الحسنيين : الظفر أو الشهادة ؛ والله لا تطمع العرب في أن تدخل علينا منازلنا, ولا يظنّ ظانّ أنا هبنا عدوّنا فيجترئ علينا ” فنزل الرسول عند رغبتهم .

المنافقون فضّلوا عدم الخروج , لا استجابة لمقالة الرسول (ص) وإنما لحاجة في نفوسهم ربما استبطنت غدراً وخيانة , وهذا ما جعل الرسول(ص) يصرّ على الخروج تفويتاً للفرصة عليهم رغم تراجع الأنصار عن رأيهم بعد مراجعات جرت بينهم خوفاً منهم أن يكون الرأي بالتحصّن في المدينة بأمر السماء , ولكن الرسول (ص) أراد إثبات حقّهم في إبداء الرأي والأخذ به , السنّة التي تنكّب عنها أكثر علماء الأمة اليوم وقادتها حين صادروا عقول الناس وأماتوا فيهم الإحساس بالمسئولية فأصبحوا إمّعات , فلا هم هدَوْهم الطريق إلى الحياة العزيزة الكريمة ولا تركوا لهم فرصة التغيير إلى الأفضل! بينما كان دأب الرسول (ص) مشاورة أصحابه وإثارة دفائن عقولهم وإمضاء الراجح من آرائهم وإن خالف رأيه , فحسم أمر الخروج للقتال قائلاً:”ما كان لنبيّ إذا لبس لامة حربه أن يضعها حتى يقاتل “.

إنّ أخطر ما تُبتلى به الأمة حين مواجهتها عدوّها الخارجي المحدّد والمعروف أن ينبري نفرٌ من الداخل يعمل على تثبيط همة المتصدّين والمدافعين عن حقّهم في العيش الحرّ والكريم , وتخوير عزيمتهم على لقاء العدوّ بتهوينه أو تهويله خوفاً على مصالحهم الشخصية أن تضيع ,وقد كان رسول الله (ص) مدركاً خطر هؤلاء فأعلن ما يشبه حالة الطوارئ بمصطلح اليوم , وطلب من وجوه الأوس والخزرج التسلّح وجعل سعد بن معاذ , وأسيد بن خضير , وسعد بن عبادة حرّاسا على المدينة , وباتوا تلك الليلة في المسجد بباب رسول الله (ص) حتى الصباح , جعلهم قريبين منه ليعترّفوا على أيّ غريب دخل المدينة خشية تسرّب أسرارهم الى المشكرين لاسيما العسكرية منها , ولقد استنكر المنافقون هذه الإجراءات وأبدوا امتعاضهم منها غير مصدّقين للأخبار الواردة عن قريش تهويناً بالخطر المحدق!

 

خرج المسلمون لمجابهة المشركين وسار معهم كبيرُ المنافقين عبدالله بن أبيّ وأصحابه , وفي الطريق بدأ المنافقون بالهرج والمرج وقرروا الرجوع بزعم أنهم لم يروا أثراً لقريش, وقالوا : (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ), ثم قال رأسهم وما ندري علامَ نقتل أنفسنا! أثّرَ خذلان المنافقين وانسحاب عبدالله بن أبيّ بثُلث الجيش في عزيمة طائفتين من المسلمين هم بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وقد همّوا بالانصراف معه , وكانوا يمثّلون جناحي العسكر! إنّ كل هذه المتغيرات الطارئة لم تؤّثر سلباً في عزيمة النبي (ص) وتخطيطه للنصر, فاستطاع بفضل حنكته القيادية وحسن تدبيره أن يتفادى النقص ويسدّ الثغرات, فقام بتوزيع الأدوار حيث أعطى لكلّ جمع مهمّة محدّدة لإظهار البسالة وإرهاب العدو, واختار خمسين ممن يجيدون الرماية وجعل عليهم عبدالله بن جبير ليحموا ظهور المسلمين من التفاف العدو حولهم, وكلّف حمزة بمهمة شقّ الصفوف والوصول إلى قائدهم أبي سفيان, وهكذا تم اقتناص مواطن القوة لدى المشركين واستهدافها برجال أشداء, وجرت المعركة كما خطّط لها الرسول (ص) وكانت الغلبة للمسلمين على المشركين بسبب الانضباط التام والالتزام بالمواقع والمهام حسب الخطة العسكرية المرسومة , وكادت المعركة أن تنتهي بهزيمة المشركين هزيمة نكراء لولا أن تخلّى الرماة عن مواقعهم على الجبل طمعاً في الغنيمة! فكشفوا ظهور المسلمين للعدوّ رغم تحذير الرسول (ص) لهم! مما قلب الموازيين لصالح قريش, وقيل للرسول (ص) بعد ذلك : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) فسنّة الصراع لا تحابي مؤمناً ولا كافراً, ودارت الدائرة على المسلمين ووقع القتل فيهم بغتة وهم يطاردون فلول المشركين! وأُصيب رسول الله (ص) في جبينه الشريف وشُجّ رأسه وكُسرت رباعيته ( أحد أسنانه) , وعلا صوت المشركين : قُتل محمد, قُتل محمد , حرباً نفسية لبث ّالضعف في النفوس وشق صف المسلمين المذهولين. وما انتهت المعركة إلا بمقتل سبعين من المسلمين بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير, فما أن سمع المنافقون الأخبار حتى تطايرت الإشاعات والأقاويل المغرضة بهدف التشكيك في النبوة , كيف بنبيٍّ يُهزم ويُثخن بالجراح ويسقط في كمين وقالوا : (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا).

 

من الوهن الى صناعة الصمود

هنا تبرز قدرة القيادة وحكمتها في استعياب الخطط المعادية وسرعة تطوير ردّ الفعل لاحتواء الموقف , وتوجيه الاهتمام والطاقات وتوظيفها في المعركة الرئيسية مع العدوّ الحقيقيّ دون بعثرتها في نزاعات ثانوية , وكان لابدّ من استطلاع حال العدوّ واستشفاف نيّتهم فهم لا يزالون على مقربة من المدينة , فأمر النبي (ص) علياً(ع) أن يخرج في آثار القوم فينظر ماذا يصنعون وماذا يريدون , ( فان كانوا قد جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكة, وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ) تحليل ينمّ عن معرفة وإحاطة بالأوضاع , فركوب الإبل يعني العزم على الرحيل إلى مكة حيث المسافة الطويلة , أما ركوب الخيل فيعني أنّ وجهتهم قريبة وحسب المعطيات لابد أن تكون الإغارة على المدينة, ثم أردف بعزيمة لا تعرف اللين : ( والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأناجزنّهم ). فقد أغرى قريشا ما حقّقته من نصر بالتفكير قي العودة ثانية للقضاء على المسلمين , وباشروا حرباً نفسية بالتهديد بالرجوع لاستئصالهم , فمعنويّات المسلمين منهارة وقوتهم مكسورة , وأقاويل المنافين واليهود بالإضافة إلى المشركين تنفث الكثير من الإشاعات والأباطيل المضلّلة , حتماً سيشجع هذا الوضع المتربّصين أمثال سفيان بن خالد الهذلي على التحركّ في أيّ ساعة !

لم يكن الرسول (ص) ينتظر تسديد الوحي له في هذه الظروف الصعبة , بل بادر كعادته بوضع خطّة باشرها والمسلمون دون إبطاء رغم الجراح والألم , فأذن مؤذّن رسول (ص) في الناس بطلب العدوّ! ( وإن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس )

أيّ إلا الذين قاتلوا فقط , مرهباً للعدوّ , ومبلّغهم رسالة أنه خرج في طلبهم، لئلا يظنّوا به وهناً عن منازلتهم , ومن جهة أخرى يُخرس بها أفواه المنافقين والمتربّصين . وجعل كلمة (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) شعاراً لهذه الحملة , لا كلمة عجز كما يردّدها أكثر المسلمين اليوم ! خرج النبي وأصحابه في طلب العدوّ حاملين الجرحى معهم!حتى انتهى الى جبل يسمى حمراء الأسد , وهو من المدينة على عشرة أميال فأمر أصحابه في الليل بأن يوقدوا حولهم نيراناً كثيرة , فأوقدوا خمسمائة نار كانت تُرى من بعيد, لبثّ الرعب في النفوس .

وكان أول ما ابتدأ به الحرب النفسية , حين بعث (ص) معبد ابن أبي عبادة وهو مسلم قد أمره أن يكتم إسلامه!-استغلالاً لفرصة متاحة- إلى أبي سفيان ليطلعه على ما عزم عليه المسلمون , ويهوّل عليه حرقتهم في طلبه ! لما وصل “معبد” الرويحاء , حيث يستريح جيش المشركين , سأل عن أبي سفيان , فلما أتاه قال له : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أر مثله قط , قد اجتمع معه من كان قد تخلّف عنه في يومكم , وندموا على ما صنعوا, وفيهم من الحنق عليكم من شيء لم أر مثله قط. فوقع ذلك منه موقعاً أفزعه فقال أبو سفيان يحدّث قومه ويستعجلهم بالرحيل: لا محمّدا قتلتم , ولا الكواعب أردفتم , شرّ ما صنعتم !

أقام رسول الله (ص)و أصحابه بحمراء الأسد ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة وهم أكثر هيبةً وعزة , وفي طريق العودة لم ينس (ص) معالجة تهديد سفيان بن خالد الهذلي, فلم يكتف بالدعاء عليه والطلب من الله سبحانه أن يكفيه أمره كما نفعل نحن حين العجز , بل بعث اليه عبدالله ابن أنيس ليقتله وسط قومه وجمعه الذي جمعه , وقد فعل رغم خطورة المغامرة ,فكُفي المؤمنون وكُفي الناس بقتله إسالة الكثير من الدماء.

فليت الأمة الإسلامية اليوم وهي تعيش مأزقها الحضاري تعلم أنّه لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها , أي بمعرفة حسن التوكّل على الله, أنّه بتحرّر عقلها من الخرافة والأماني والجمود والتقليد والاتّكال لتستخدم عقولها المتحرّرة متكاتفة متفتّقة , وبتلك التضحيات الكبيرة والروح الإبداعية المبادرة , وبالتخطيط للنصر والإصرار عليه , وبالصدق في مواطن الصبر ,وبتلك القيم الإنسانية والأخلاق السامية , وبالاتحاد على الغايات وعدم الفرقة , وبمعرفة عدوّها الحقيقي عدوّ الحقوق والسلام , وبالتمكن من ناصية العلم والعمل ونبذ الجهل والكسل , وبحسن الظن في التأييد الإلهي ليستوفوا شروطه ,حينئذ تكون صلاتها صلةً حقيقية بالقوة المطلقة , وجهادُها جهاداً أكبر لإصلاح دواخلها ,وحجُّها رحيلاً إليه سبحانه , وصومُها كسراً لإرادة  الشيطان في النفوس, لا بتلك الممارسات السطحية للمفاهيم والشعائر التي لا تخترقنا حيث جواهر القلوب فتصل بنا إلى معدن العظمة.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة