مساحة العقل في حياة النبي (ص)

قد يظن ظانّ أنَّ كلَّ سيرة رسول الله (ص) وحي، وهذا خلاف واقع سيرته (ص)، ولو كان كذلك لكان مسيرًا في كل أقواله وأفعاله. الوحي يأتي للتسديد وفي ضوء التسديد يُعمِل (ص) عقله وتدبيره، ولو أردنا أن نضع رقمًا تقريبيًا لكان الوحي والتسديد في حياته (ص) بنحو 10% أما إعمال العقل فبنحو 90%. ولو استقرأنا سيرته (ص) في دعوته للنّاس في مكة، وفي المدينة، وفي تربيته لأصحابه، وفي غزواته وسراياه، وفي رسائله إلى ملوك الأرض في عصره لوجدنا العناية الإلهيّة تشير وتسدد ثمَّ عليه التفكير والتدبير.

فمسيره (ص) إلى مكة معتمرًا بدأ برؤيا رآها أنّه يدخل مكة معتمرًا، كانت هذه رؤيا ولم تكن وحيًا، أشارت إلى هذه الرؤيا الآية الشريفة فيما بعد (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) فعلم أنَّه سيعتمر، ولكن كيف يعتمر وبينه وبين قريش ثارات وحروب، فاستنتج أنَّ هذه العمرة يجب أن تكون في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وفي غفلة من قريش حتّى؛ لا تقع بينهما حرب تسيل فيها الدماء في هذه الأشهر الشريفة. إذن فعليه أن يسير إلى مكة سرًا، وإذا ما وصل مشارف مكة فعليه أن يدفع قريش دفعًا لاختيار الصلح وتجنب الحرب؛ بأن يسوق الهَدْي أمامة، ويخفي أي مظهر مسلح يستثير قريش؛ لتفهم قريش والقبائل العربيّة الأخرى رسالته بوضوح أنَّه جاء معتمرًا لا غازيًا ولا محاربًا. وقانون مكة لا يجيز لقريش صدَّ من جاء البيت الحرام معتمرًا أو حاجًا، وإذا ما ركبت قريش رأسها وصدته عن البيت الحرام ففي تخطيطه أن ينحر هَدْيَه خارج مكة، ويا له من عار وخزي إذا ظهرت قريش أمام النّاس أنَّها صدت معتمرين عن بيت الله الحرام فاضطروا لنحر هديهم خارج مكة، ولو قُدر وحدث هذا فإنَّ القبائل العربيّة لن تغفر لقريش ذنبها وزلتها وستثور عليها؛ لأنَّها ستتيقن ظلم وجور قريش، فقبائل الأحابيش مثلاً قوم يتألهون ولهم ثقل عظيم في مكة لا يرضون بالصدّ عن بيت الله أبدًا، وإذا ما قطع (ص) على قريش خيار الحرب قادها مرغمة إلى خيار الصلح، وإذا عقد صلحًا معها فقد انتصر؛ لأنَّها ستجبرها حينئذ على أن تخلي بينه وبين النّاس، وهذا ما يريد.

هكذا خطط ودبّر ولمّا جاءت ساعة التنفيذ وبدأ التحرك نحو مكة أحرم بالعمرة؛ ليأمن النّاس من حربه، وساق أمامه الهَدْي سبعين ناقة عن كلّ عشرة ناقة واستنفر أهل البوادي من الأعراب من غير المسلمين ليخرجوا معه؛ ليؤكد سلمية تحركه، وبثَّ العيون ليتحاشى أية مواجهة عسكرية مع قريش في الطريق، فلمّا بلغه من أحد عيونه أنَّ قريشًا لبست جلود النمور ونزلوا بذي طوى وعاهدوا الله أن لا يدخل مكة عليهم عنوة،

وأنَّ خالد بن الوليد كمن له في ُكرَاعِ الْغَمِيم بلباس الحرب في مائتي فارس، علم (ص) أن قريش عازمة على المواجهة، فقال (يا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ، فَوَاَللّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُ”، وقرر تغيير الطريق فقال: مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ الّتِي هُمْ بِهَا؟ فقال رجل من قبيلة أسْلَم أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فقال (ص ) تقدم.

فتقدم الأسلمي ليقود الجيش بمعرفته لا بمعرفة رسول الله (ص) فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا. فصعب على المنافقين تقبل هذا النكرة قائدًا فأخذت الهواجس تحيط بمن في قلبه نفاق وبدأت النفوس تتقلب فأراد (ص) أن يقطع كلام التشكيك والظن في الدليل القائد فأمرهم أن يقولوا ” نَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ”؛ لينشغلوا بذكر الله عن كلام الشكّ والريبة وعبارات الوهن والتعب، فَقَالُوا مثلما أمرهم، فَقَالَ: “وَاَللّهِ إنّهَا لَلْحِطّةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ . فَلَمْ يَقُولُوهَا”. في الطريق وجد كلبة تضع فابتعد عنها كي لا يؤذيها، ليضرب لأصحابه مثلاً أعلى في الرحمة بكل مخلوق.

لقد أنقذ هذا الدليل الخطة من الفشل ومن خالد بن الوليد المتربص للمسلمين ليمنعهم من دخول مكة.

لمّا انتهت دلالة الدليل تولى النبي (ص) قيادة الجيش، فلم ينتبه خالد إلا والنبي (ص) قد وصل إلى غايته، فأسرع خالد إلى قريش يخبرهم الخبر.

لمّا وصل (ص) الحديبية، بركت ناقته، وهذه إشارة إلهية أخرى بأنَّ هذا المكان هو المكان المناسب وهذه ليست وحيًا أيضًا ولكنَّها إشارة تفيد أن تدبيره وتخطيطه كان صوابًا، فقالوا: خَلَأَتْ النّاقَةُ قَالَ (ص): مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ  مَكّةَ، لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا. فلمّا نزلوا قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِالْوَادِي مَاءٌ، فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ. فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ, وأمره أن يغرسه في قلب قليب من تلك القلب فغرزه فتدفق الماء.

فلمّا نزل (ص) أتاه بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة مسلمها ومشركها ناصحة لرسول الله (ص)، وكان زعيمهم بُدَيْلُ حليف أبي طالب فلمّا مات أبو طالب حالف محمّدًا (ص) سرًا فحمّله (ص) رسالة لقريش: بأَنّهُ لا يُرِيدُ حَرْبًا ، وَإِنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ وَمُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ، وإنَّ قريش أنهكتهم الحرب فإن شاءوا ماددناهم، ويخلوا بيني وبين النّاس. فأبلغوا رسالته ، واستمرت الوفود تغدو وتروح حتّى أفضت إلى “صلح الحديبية”.

لقد دخل في الإسلام بعد هذا الصلح الميمون أضعاف من دخل من قبل، وإذا كان من درس يتعلمه المسلمون اليوم من هذه السيرة فهو مساحة استخدام النبي (ص) العقل في شئون الحياة، فالعقل متى عُطل مات.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة