منظومة الإسراف المدمرة

لقد قام عالم الحداثة على الثقة بالإنسان بديلاً فاعلاً عن التواكل على الآلهة وانتظار الفرج بالسكون أو التوسل، وعلى الاستثمار بدل الزهد والتقشف، وعلى الثقة بعقل الإنسان وقدرته على الإبداع والسيطرة وحل المشكلات ووضع التشريعات من واقع التجربة دون الرجوع لنصوص مقدسة، لقد أزاحت الحداثة الآلهة من المركز ونصّبت الإنسان مكانها.

وبالفعل أثبت الإنسان نجاحات باهرة، ووقع في إخفاقات مدمرة، وتمكن من توسعة العلم والمعرفة في قرنين من عمر البشرية بما لم تعلمه ولم تمارسه في قرونها السابقة، ولا يزال يتقدم حتى اكتسب قدرة على التجديد الشامل لعلومه كل خمس سنين.

لقد أغمضت الحداثة عينها عن العالم الآخر الذي ظل يشغل الإنسان طوال قرون حياته، فعلى عكس كل الحضارات لا نجد للحداثة معبدًا، ولا ربًا، فمعبدها مصانعها ومختبراتها، وربها إنسانها المفكر المبدع، لم يعد إنسان الحداثة يعالج خوفه من الطبيعة وتقلباتها بالتوسل والتضرع والقرابين، فهو لا ينتظر الفرج من السماء، بل يبادر للتغيير، ويفكر في مهارات التسخير والاستغلال.

لم يعد إنسان الحداثة ينتظر الجنة، بل بادر لتحويل أرضه إلى جنة، فهو لا يثق ولا يصدق بوجود حياة بعد الموت، ولم يفهم أنَّ عليه أن يصبر منتظرًا الرفاه والنعيم لما بعد الموت، بل وثق في فرصته التي بين يديه، وهي يقينه، إذًا فعليه أن يحول هذه الأرض الزاخرة إلى جنة وليتنضّر بنعيمها، ثم لكل حادث حديث، وإلا لمن ما في الأرض جميعًا؟.

بل ضربت الحداثة صفحًا عن الجانب الآخر للإنسان بل للوجود المسمى جانب الغيب، ففسرت كل ما عرف بالمعنويات على أنها تشكلات مادية يمكن فهمها والتعامل معها من خلال الغذاء والدواء والبيئة والتعليم والتربية، ومكنها علم النفس من الوثوق بالمعرفة الباطنة للإنسان، ومن هنا لم تعر ما كان يسمى بالروح بالاً، فهبطت قيمة المعنويات هبوطًا حادًا في المستوى القيمي عند إنسان الحداثة، لم يحدث ذلك منذ البداية ولكن إليه كانت النهاية، ففي البداية كانت هناك تأثيرات مسيحية، وكانت هناك معنويات قيمية مجعولة في مقام رفيع، ولكنَّها مع الوقت انقلبت إلى مظاهر زيف مناقضة، ذلك أنَّ مفاهيم كالروح والشرف والتضحية والزهد والإيثار تحتاج إلى قاعدة دينية مثالية لكي تبرر وجودها، الأمر الذي يصعب فهمه في حضارة لا تلتفت للدين.

روح الطمع:

انبثق عصر النهضة الأوربية عن روح مشبوبة بالثقة وبالطمع، فكانت الاكتشافات العلمية والجغرافية وكانت الهجرات نحو العوالم الجديدة، وكان هناك الاستعمار والهيمنة على سائر شعوب الأرض وإبادة العديد من شعوبها المتخلفة واستغلال ثرواتهم وأرضهم، الأمر الذي غير معالم الأرض بما لا يمكن تداركه، وكان الأساس للتشكيل الجغرافي والديموغرافي والثقافي للعالم كلّه.

هذه الثقة بالنفس وبحريتها وقدرتها وسموها المشبوبة بروح الطمع، مع وجود القدرات الصناعية الجديدة القائمة على قوة الآلة الجبارة تجسدت سعيًا حثيثًا في التوسع في الإنتاج والاستثمار، ولكن مع اعتدال في الاستهلاك لا زهدًا بل بغرض الادخار ومراكمة الثروة، ومن ثم توظيف رأس المال في إنتاج جديد، وتمثلت تلك الروح عند أصحاب المال والعلم في البحث عن الإبداع والاكتشاف والتطوير.

لقد كان الطمع دافعًا لأوروبا والغرب عمومًا للتسابق في الإنتاج، حيث الأسواق مفتوحة والخامات مهيمن عليها، فهي المتجر الوحيد في العالم القادر على توفير بضائع لا تخطر على البال، ومن هنا بدأ داء الإسراف في جانب الإنتاج.

ولكن بعد تحرر الدول وتطور العديد منها صناعيًا، وبعد الثورة التكنولوجية و تسارع القدرة على الاكتشاف وتراكم العلم والمعرفة، ومنذ العولمة صارت الرأسمالية المولعة بالإنتاج تدفع الناس دفعًا لسلوك آخر هو الوجه الآخر والطبيعي للإنتاج وهو الاستهلاك، فبعد أن كانت الحاجات هي هدف التنمية أصبح هدفها الرفاه، وتحولت غير الحاجات إلى حاجات، وابتكر التقدم حاجات لا تكاد تنتهي، طمعًا في استمرار عجلة الاستهلاك المحرك الأساس لعجلة الإنتاج، حتى اشتهرت على لسان خبراء الاقتصاد مقولة أيّها الناس اذهبوا واستهلكوا وسيكون الاقتصاد بخير. كلَّما استهلك الناس كلَّما نشطت الصناعة والتجارة والابتكار. لو توقف الناس عن الاستهلاك فستقف عجلة الاقتصاد. المستهلك هو العجلة الأهم في الاقتصاد ولأجله وبه تدور الآلة. كلَّما استهلكنا أكثر كلَّما أنتجت المصانع أكثر وتوفرت الوظائف أكثر، ومن أمثال ذلك.

ولقد أثبت رأس المال أنَّ ولاءه الأول لذاته قبل أن يكون ولاءً وطنيًا أو قوميًا أو أيدلوجيًا، فبعد أن كان الغرب واليابان والصين وغيرهم يظنون أنَّ رأس المال هو وطني الطابع والروح فإذا العولمة تبين لهم حقيقة ولاءه وأنَّه لا يحب إلا نفسه، فانتقلت الصناعات بانتقال رأس المال للدول التي توفر ريعًا أكبر من الاستثمار، وانتشرت الصناعات غير الإستراتيجية حتى الآن إلى أماكن رخص الطاقة ورخص اليد العاملة وقليلة الشروط والضرائب، مما زاد في تسعير نار الإنتاج اللازمة لتلبية زيادة التسعير في نار الاستهلاك.

ومن هنا انتشرت في عالم العولمة سلوكيات لم تكن مستحسنة في حداثة ما قبل العولمة، وتبدلت قيم كانت سامية إلى مسوخ مشوهة، فالحرية والفردانية والتعددية والمساواة والمشاركة كلَّها قد فقدت أو تكاد تلك المعاني الأولى التي كانت معنية في بدايات الحداثة والدعوات الليبرالية، فكلَّها أصبحت آليات مساعدة في تنشيط مجتمع الاستهلاك وتنميطه وتزييفه، فبدل أن كانت تسعى في جوهرها لتنمية الثقة بالذات وتفردها كدليل على حريتها وخصوصيتها، أصبحت الآن تروج لحرية مزيفة لا تخرج في جوهرها عن روح القطيع الحيواني القائم على المتابعة والمثابرة في البحث عن آخر المستجدات في السلع والخدمات تحت شعار: التقدم يعني أن تستخدم آخر ما توصل إليه العلم، ولكنَّهم في الحقيقة لا يعنون به إلا آخر ما أنتجته المصانع والشركات.

لم يكن مفهومًا في الثورة الصناعية مقولة اترك سيارتك القديمة التي لم يمض عليها ربما أكثر من سنتين أو ثلاث واشتر سيارة جديدة، جدد أثاث منزلك القديم الذي لا يزال جديدًا في الواقع، نحن نوفر لك قروضًا ميسرة لتحقق أحلامك في السفر والنزهة، اقترض لتدخل أبناءك مدارس خاصة، اشتر الآن وادفع لاحقًا.

ولكنَّنا الآن جميعًا نمارس هذه الدورة معدومة الغاية خارج ذاتها، فصار الاستهلاك هو الوسيلة وهو الغاية، فنحن نستهلك لندير الاقتصاد وهو يدور ليمكننا من الاستهلاك، فمتعة الاستهلاك هي في حد ذاتها غاية الحداثة الجديدة، فكأنَّهم قد فهموا الحياة الدنيا كما فهم البسطاء حياة الجنة.

لقد صار من المألوف عندنا جميعًا أن نجدد هواتفنا وحواسيبنا وسياراتنا وأثاثنا وملابسنا قبل أن تبلى، وأن نأكل في غير منازلنا أطعمة يجهزها لنا الآخرون، وأن يستجلب أهل الطبقة الوسطى خدمًا لمنازلهم، ومنظفًا لسياراتهم ومنسقًا لحدائقهم، وأن لا يقوموا بأعمال الصيانة الخفيفة في بيوتهم، وأن يغيروا أشياءهم لمجرد أنَّ الطراز قد تعداها، وصار الطراز والموضة قائدنا نحو التغيير فنحن نشتري ونستهلك وفقًا لمواقيت تحددها لنا الشركات ومراكز الإنتاج.

اخترقت المطامع كلّ الخصوصيات الدولية والاجتماعية والاقتصادية، وصار كلّ شيء يمتلكه قوم أو بلد محط مطمع أعين الآخرين، وصيغت القوانين الدولية لتخدم قدرة الأقوياء، ومن هنا فَقَدَ كل محمي حمايته وأمكن استباحته، فاستهلكت الغابات والحيوانات والنباتات والمعادن والمياه والنساء والأطفال والرجال، وهم وقود (صناعة) الجنس والترويح والسياحة.

ولمّا كان من طبيعة خلق الاستهلاك أن يجر نحو خلق الإسراف فقد أسرف العالم في استهلاكه، فدمرت البيئة بالتلوث الذي أصبح يهدد أصل الحضارة الحديثة كلّها بل وجود العالم نفسه، فقامت قائمة العالم ينادي بعد خراب البصرة بالتنمية المستدامة، وبالحد من مصادر التلوث، ولو أنفقت ما في الأرض جميعًا لتقنع الشركات والدول والناس بأن يقللوا من استهلاكهم وأن يبطئوا من حركة تغيير المنتج والطراز والموضة، فلن تجد منهم إلا آذانًا صماء؛ لأنَّ هذا يتطلب تغييرًا عميقًا في عقولهم وسيطرة منهم على شهواتهم، والحداثة كلّها ليس فيها اهتمام بأخلاق التحكم والزهد، بل هي على العكس من ذلك.

حينما يكون الإسراف منهج حياة:

لم يعد الإسراف خلقًا فرديًا وطبعًا شخصيًا ناجم عن قوة الشهوة يمارسه أناس هنا وهناك، بل أصبح منظومة مقصودة، تقوم على فلسفة للسعادة ، وتسويق لنمط يزعم أنَّه نمط الحياة الفضلى للإنسان، ويزعم أنَّه دافع أساس لعجلة الاقتصاد ومن ثمَّ النمو والتطور، فالزعم القائم هو أنَّ الجدلية تستمر في المسير بسبب الاستهلاك، فهو الذي يدفع الإنتاج، والإنتاج يحرك الاقتصاد، الذي بدوره يطور الصناعة والبحث العلمي، واللذان بدورهما يطوران الحياة نحو مزيد من التقدم، التقدم الذي يطور الإنتاج من جديد، وبالتالي يرفع رفاهية المنتج ورفاهية المستهلك، وهكذا تستمر العجلة في الدوران التصاعدي سيرًا بالحياة نحو النعيم، بل بلغ الأمر بالماركسية اللينينة أيام حلمها أن تعد الناس بالجنة الأرضية على نحو الحقيقة فعندما يبلغ التطور العلمي درجاته اللامتناهية فسوف لن يكون هناك داع ليزاول الإنسان عملاً يدويًا بل ستقوم به الآلة وسيتطور العلم الطبي لدرجة الحفاظ على الصحة والشباب، وستكون الوفرة والراحة والصحة متاحة للجميع!.

ولقد جعلت سائر التشريعات المنادية بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في خدمة هذا النمط من الحياة الاستهلاكية، وسعيًا نحو إزالة كلّ الحواجز المانعة لها، من سيطرة الدولة أو الدين على سلوك الناس وعلى حدود الأوطان وما فيها من ثروات، ليصبح ما عرف بالسوق هو محور التطور والحياة السعيدة، فالإسراف اليوم إذًا منظومة وليس خلقًا فرديًا ومزاجًا شخصيًا.

هذه المنظومة كما كانت لها نتائجها الايجابية على الحضارة والإنسان والعلم فلها أيضًا نتائجها الخطيرة والمدمرة على الإنسان والبيئة والحضارة، بل إنَّ نتائجها المدمرة هي وبكل أسف النتيجة النهائية، فروح الطمع لا يمكن للدمار أن يتخلف عنها.

المجتمع الأمريكي أعظم المجتمعات في عالم الحداثة فكان من الطبيعي أن يكون أولها انتقالاً لأخلاق العولمة، ولهذا فهو أعظم مجتمع استهلاكي مسرف، وعلى إسرافه تتحرك عجلات أكثر اقتصاديات العالم، وأمّا اليابان والصين فمن الطبيعي أن تظلا حتى حين في عالم حداثة ما قبل العولمة يسرفان في الإنتاج والعمل بينما يسرف الأمريكيون في الإنتاج والاستهلاك، ولا يزال الخبراء يضعون أيديهم على أفئدتهم خوفًا من اليوم الذي ينتقل فيه المجتمع الصيني والهندي لتشملهم أخلاق العولمة القائمة على الإسراف في الاستهلاك، متسائلين هل تتحمل الأرض شعبًا مسرفًا في حجم الشعب الصيني إذا ما صار الفرد الصيني يستهلك كالفرد الأمريكي؟

إنَّ عقول الناس في زمن الحداثة المتأخرة مسكونة بالإسراف سواء في الإنتاج والاستهلاك، فكلّ نبات لا يشكل محصولاً فهو زائد عن الحاجة يقتلع، وكل حيوان لا يُعلّب سلعة فهو مزاحم يباد، وأراضي الجيران مواضع محتملة لثروات، ومدنهم هي في العين أسواق، وهكذا يختصر الناس في أفواه تأكل وأبدان تلبس، وأنفس تشتهي، ووثاقها الغليظ هو تزيين المتعة في قلوبها.

إنَّ روح الغرب التي تفجرت منذ عصر النهضة، وظهرت في رحلات الاستكشاف، ثمَّ في حركة الاستعمار للضعفاء وإبادة الشعوب وطمس الحضارات، واستنزاف البشر والحجر والشجر، هذه الروح لا تزال حية تسعى، يستحثها الطمع في كواكب السماء وجبال الأرض وبحار الدنيا.

لا تزال أعينهم ممتدة نحو كل حيوان عليه صوف مميز، أو جلد مميز، أو تحته لحم مميز، أو عظم مميز، ونحو كل نبات أودع نعمة وهو في يد غيرهم في مطعم أو دواء أو رحيق أو عبق أو خشب، ونحو كل بر أو بحر يضم زينة أو لحمًا أو معدنًا، إنَّهم يشمون المال من تحت سبع أرضين ومن فوق سبع سماوات، ولقد استنزفوا في النصف ساعة الأخير من يوم الدنيا ما لم يستهلكه جميع الخلائق منذ أن بدأ الخلق، ولن يتركوا شيئًا حتى يدمروا الطبيعة أو تدمرهم.

النظرة الوظيفية للطبيعة:

إنسان الحداثة ينظر إلى الطبيعة نظرة وظيفية على أنَّها مصدر استهلاك غير محدود وغير محكوم بقوانين حماية، وهو لا يظن أنَّ للوجود رب يحميه، بل يظن في نفسه الربوبية وفي الطبيعة العبودية، لم يفهم إنسان الحداثة أنَّ الطبيعة المسخرة له مشروطة بعدم الإسراف، ولا يفهم معنى لخلق كخلق القناعة، وأنَّ للمتعة حدًا لا ينبغي لها أن تتجاوزه، ولهذا فهو لم يسأل نفسه عن حقّ غيره من موارد الطبيعة من حيوان ونبات ومياه وهواء وأرض وسماء، وعن شروط السنن الطبيعية في جواز استهلاكها، إنَّه يتصرف تصرف الرب ولكن بعقلية الطفل الجهول الغشوم الذي لا همَّ له إلا اللعب بالقطة دون علم بأنَّها تتألم وأنَّها ستغضب وتثور .

فترى إنسان هذه الحداثة ينقل نباتًا من بيئة إلى بيئة دون وعي بطبيعة ما نقل وما يحمله من خصائص قد لا تتحملها البيئة الجديدة، ودون علم بما يحمله من آفات أو ما تحد من طغيانه من آفات، فينقل نباتًا يدمر به البيئة الجديدة تدميرًا يقضي على ما كان فيها من نباتات وحيوانات.

إنَّه لا يحترم مقولة الحلال والحرام ولا يفهمها، فيأكل كلّ شيء ويستهلك كلّ شيء دون أن يعلم إن كانت قدرة ذلك الشيء على التكاثر بحسب خلقته تسمح باصطياده واستهلاكه بأي طريق، في ثقافة الحداثة لا يوجد احترام للطبيعة ولا فهم، ولا ينظر إليها إلا على أنَّها ميدان مفتوح بلا وظيفة والإنسان هو صاحب الحق في تقرير وظائفها.

عبثا تحاول الأمم المتحدة، وأحزاب الخضر وعلماء الطبيعة أن ينقذوا العالم من نفسه بعدما تبين لهم عمق الهاوية، فلم يعد بالإمكان إعادة الوحش إلى جحره، والمارد إلى قمقمه، فقد تمكنت المتعة من نفسه، وأخذت دعايات أرباب الإنتاج بلبه، وهو لا يملك قلبًا زكيًا يعيده إلى جادة الصواب والرشد؛ لأنَّه وبكل بساطة لا زال ينظر للاستهلاك واللذة نظرة تنتهي عندها غاية الوجود، فما السعادة إلا في الاستهلاك وما السعادة إلا في المتعة، ونحن بهذا نهلك أنفسنا من حيث لا نشعر.

الاستهلاك سعادة حيوانية:

إنَّ الأرض غير قادرة على تحمل طبيعة حضارتنا الحديثة المسرفة، فهي لم تخلق لتكون الجنة التي لا يعجزها الاستهلاك مهما كان، فينبغي علينا أن نغير أنفسنا وثقافتنا، لنربيها على منظومة ثقافية أخرى لا تجد سعادتها في الاستهلاك، بل في الاعتدال وفي أمور معنوية أخرى، فلطالما تميزت حضارات بمعنوياتها، كالفن الرفيع والموسيقى الرفيعة والأدب الرفيع والتدين الرفيع والقيم الفاضلة والعبادة الروحانية المتعالية والتفكير العقلاني العالي، ولقد اكتشف لنا عصرنا من كلّ هذا تراثًا كبيرًا يمكن للعالم أن يتخير منه ألوانًا في كل ناحية وصوب، لعلنا نتمكن من السيطرة على أهوائنا وأطماعنا بتصحيح مفاهيمنا الجمالية، فنحفظ بذلك وجودنا الإنساني المهدد منا..

مداواة العرب بالداء:

إنَّ حال التخلف العربي المؤلم لا يسمح لنا بالتفكير خارج المثال الغربي المتقدم، وسيكون من الترف غير المقنع أن نطالب التنمية العربية بمقاييس روحانية زيادة على المقاييس المادية، فنحن لم نطمع بعد في بلوغ بعض الجنة الغربية التي نزعم أنَّها شيطانية ولا زلنا في جحيم التخلف والعجز، ومن كان هذا حاله فمن العبث أن تطالبه بما هو فوقه، وكأنّي بالقائل يقول: دعنا نبلغ الجنة الغربية الشيطانية ثم طالبنا بالروحنة، ولهم في هذا العذر، ولكن أليس من الجيد أن نبدأ من حيث انتهوا؟

ها قد انغمس العالم في الاستهلاك فهل هو بخير وعافية؟ هل أنقذته قواعد حقوق الإنسان الجميلة، والديمقراطية السمحة، ودولة القانون العادلة؟ كلا بالطبع، بل الخبر الأكيد أنَّ الغرب قد أفسد الدنيا وأفسد الإنسان، لا لأن الديمقراطية والحكم الرشيد فاسدان، ولا لأن شرعة حقوق الإنسان باطلة، بل لأن الحداثة وخاتمتها العولمة عوراء لا تأبه للروح التي تقف خلف هذا الإنسان وتدفعه، ولا تأبه لسمو الدافع و لشرف النوايا والمقاصد ونبل الأخلاق، فآلت فقط بالمنفعة والمتعة.

الخبر الأكيد أنَّ كلّ شر من الشرور الماحقة التي تقتل الحياة والسعادة اليوم منبعها الأول هو روح الطمع في اللذة والمتعة هذه التي تتسيد الدنيا، فكل صراع اليوم هو من أجل النفوذ والمال والثروات واللذات سواء بين الدول وبعضها، أو بين الدول وشعوبها، أو بين الناس أنفسهم، فالمال واللذة لهما قيم معيارية فوق كل شيء في دنيا الحداثة، في خلاف حتى مع الأرضية النظرية لفلاسفة الحداثة نفسها.

هذه الروح الفاسدة قد عادت وقتلت القيم النبيلة التي كانت الحداثة تبتغيها، فالإسراف داء قاتل يهلك الحرث والنسل والعقل والقلب ولكننا لا نظن فيه ذلك، ألم يقل الحكماء أن حب الدنيا رأس كل خطيئة؟ لماذا يستبد الحكام ولماذا يستأثرون ولماذا يميزون؟ وبم تشترى الضمائر والمواقف والأقلام والعقول؟ وعلام تقاتل الأنفس وتغاش وتخون؟ من هو رب العالمين اليوم؟ أليس هو الدولار والدرهم والدينار؟ والتي هي مفاتيح المتعة.

السعادة في سلام النفس:

إنَّ الطمع يورث العدوان؛ عدوان الاستحواذ، والذي دفع نحو الإسراف في الإنتاج ومن ثم الإسراف في الاستهلاك، الأمر الذي عاد بالتدمير على البيئة والإنسان والحضارة. إن عدوان الطمع يقتل السلام، ولا سعادة من دون سلام، ليس السلام الخارجي فقط بل السلام الداخلي من قبله، ولعمرك إن كانت السعادة تكمن في السلام فأنفسٌ شغلها الطمع أتُراها قادرة على السلام والطمأنينة؟ كيف تطمئن دولة مشغولة بما في أيدي غيرها فوق انشغالها بما تحت يديها؟ وكيف يطمئن حاكم همّه التدبير والحيلة للاستئثار بما في أيدي الناس؟ وكيف يطمئن تاجر لا يرى له قيمة فوق ما يملك؟ وكيف يطمئن فرد يظن أنَّ في كلّ ذي خصاصة ضعة وفي كلّ ذي سعة رفعة؟

عالم اليوم في باطنه هو عالم من الأنفس الحيوانية الذكية القادرة على متسعات من الحيلة ليس إلا، والحقّ أنّ روح العالم حيوانية ملتبسة بثياب إنسانية.

إنسان الحداثة غير قادر على معرفة السلام الحقيقي؛ لأنَّه غير قادر على بلوغ السلام الداخلي، سلام النفس، ذلك أنَّه ينظر إلى الحياة كمعترك منافع ومتع، يحرص فيها على أن لا يكون من الخاسرين، وإذا ما خسر شيئًا من فرصها فكأنَّه خسر الحياة نفسها، فالحياة قيمتها في المتعة واللذة والاستهلاك، فالسعادة ليست سوى في المتع المادية والنفسية، والمرتاح هو من كثرت أمواله وأمن منامه ومسربه وعوفي في نفسه وأهله، ولانت له حواشي دنياه، أليس هذا هو السعيد عندنا؟ أو لسنا نعتبر المصيبة في شيء من هذا بمثابة خسارة للحياة نفسها؟

لقد بالغ كثير من الروحانيين القدماء في رفض الدنيا، وتعلقت أرواحهم بعوالم الروح ولم يجدوا لهم لذة إلا فيها، بل قد بلغ بهم أن راضوا أنفسهم بالعيش الزاهد والحرمان الشديد ليفتدوا أنفسهم منها، كلّ ذلك خوفًا من أن تنزلق بهم لذات الدنيا في مزالق لا يقدرون بعدها على العودة عنها والتحكم فيها، فآثروا تركها خوفًا من أن تتحكم فيهم بعدما كان الواجب أن يتحكموا فيها، وهذا قد يكون طريقًا لنجاة الأفراد ولكنَّه حتمًا لن يكون طريقًا لنجاة الأمم ورفعتها وسموها.

إنَّ طريق السلامة الذي يحقق رفعة الأمم وحرية الأنفس في آن واحد لا هو هذا ولا ذاك، بل هو في التمكن من تحقيق المعادلة الصعبة والدقيقة في القدرة على تملك الدنيا بكل قواها ولكن دون أن تتملكك، أن تملك ملك بيل غيتس3 دون أن يملكك، أن تمارس لعبة الدنيا كأحسن ما يكون اللاعبين، ولكن دون أن تنسى أنَّها مجرد لعبة، ولن تتمكن من ذلك ما لم تضع الموازين القسط لنفسك قبالة المال والجاه والدنيا،

فهل للإنسان قيمة خارج ما يملك؟ أم أن قيمته فيما يملك؟ هذا هو السؤال، فإن كنت لا ترى لك قيمة خارج المتعة فأنت حيوان النفس والأخلاق، وإن كنت ترى لها قيمة فوق ذلك فعلام تقتل نفسك على ما فاتك من حظوظها؟ ترفع عليها تنل السكينة والسلام، ثم لا يكون حالك حال الوجد مختلفًا عن حالك حال الفقد، فهل يثور لخسارة اللعب سوى الأطفال؟!

وما أجمل مقولة أحد الحكماء حيث يقول:”الإنسان في حالته العادية على الصعيد المادي يجد نفسه دائماً تحت رحمة الغير من أمثاله، وكلَّما ازداد إحساساً بآلام الحياة التي تنصب عليه ممن حوله، وكلَّما حاول ردّ الكثير بمثله ودفع الشر بالشر والوخز بالوخز؛ ازدادت شبكة الحياة المادية إطباقاً عليه وتقييداً له .

ولكن مع هذا فإنَّ الإنسان الذي وصل إلى شيء من صفاء الروح يستطيع أن يعيش في غمرة الحيـاة، بل يستطيع أن يكون من زعماء هذه الغمرة وهذا الصراع، ومع ذلك يستطيع أن يحلق مرتفعًا بنفسه عنها فيرى الدنيا على حقيقتها المجردة، يرى فيها لعبة أطفال بين أشباه الأطفال من الرجال والنساء ، فهو- وإن اشترك في اللعبة كأحسن ما يكون الاشتراك – يعلم علم اليقين أنَّها لهو ولعب، وليست هي حقيقة الحياة ولا لبّها .

في هذه الحالة يبتسم والدمع يترقرق من عينيه، ثم يكفّ عن البكاء إطلاقاً، وتحتل الابتسامة مكان الدموع ذلك لأن الأشياء إذا نظرت على حقيقتها لم يجد الناظر إليها بدًا من الابتسام ساخرًا من نفسه ومن غيره، وعندما يجيل النظر حوله ويرى الدمى الصغيرة التي أوقف الناس عليها جهود حياتهم متناحرين في سبيلها كأنَّما هي أهداف الحياة الحقيقية وغاياتها، لا يمنع نفسه عن الابتسام إذا استيقظت في نفسه القدرة على التعرف على الأشياء وعلى حقيقتها .”

السادة الراصدون لأزمة أمتنا هل لنا أن نضيف لها عقارًا هو بلسم ليس للعرب خاصة بل للإنسان عامة، ألا وهو ضرورة روحنة الإنسان الفاعل المبدع، فمتى ما كان الإنسان فاعلاً مبدعًا وكان روحانيًا فقد جمع ما يؤهله لتطوير الحياة دون أن يدمرها، وما يؤهله للكون في سلام مع نفسه ومع الغير ومع الخلق أجمعين.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة