عادة ما يشكّل المنهج الفقهي أو الأصولي أو الكلامي لأيّ مذهب ما معوقا للفقيه متى ما أراد أن يكون مستقلا في بحثه، فليس من السهولة بمكان أن يخرج عن إجماع فقهاء مذهبه، ولا هو بمنأى عن الضغوط للتفكير خلاف الرأي المشهور، وقد استثمر فضل الله “رحمة الله عليه” كلّ إمكاناته ووظّف امتداده وتاريخه لمواجهة هذه الضغوط، فهل من يخلفه بقادر على مثل هذا التحدي؟
ابتدأ السيد “رحمه الله” مخاطبة شباب الأمة كمفكّر إسلامي قبل أن يخاطبهم بوصفه فقيها مقلَّدا، فلم يحجّم رؤيته في نطاق العمل ضمن مصلحة المذهب الذي ينتمي إليه، ولا الدفاع من أجل استعلائه، ولا رؤية كلّ الحقّ فيه ـ كما هو ديدن المذهبيين ـ ، بل كان كما هو قال: “كنّا نفكر في الإسلام الحضاري الوحدوي المنفتح، وقد كان من أهدافنا التخطيط والعمل من أجل الوحدة الإسلامية، ولذلك كانت عندنا علاقات مع بعض الحركيين من علماء المسلمين السنّة، ومنهم الشهيد الشيخ عبد العزيز البدري”.
كانت هذه انطلاقة السيد؛ ولهذا فقد كان يرى اقتصار الفقيه على المنهج الفقهي الاستدلالي لأيّ مدرسة دون أن يُوسّع المجتهد آفاقه في ممارسة الاستنباط بالاستفادة من تراث ومباني المدارس الأخرى لهو نقص في خبرة الفقيه ووسائله وأعلميته، فليس غريبا عليه أن ينفرد بدراسة فقهية خلُص فيها إلى جواز أكل حيوانات وأسماك البحر مطلقا خلافا للمشهور من آراء فقهاء الإمامية في القول بحرمة أكل حيوانات البحر، إلا ما كان من صنف السّمك الّذي له فلس (سفط على بدنه)، فإنّ أصل الأشياء الحلّية، والحرمة تحتاج إلى دليل، والدليل الذي استندوا عليه غير تام عند فضل الله وهو لا يتعدى الحكم بالكراهة، وهكذا أنتج بحثه موافقة رأي الفقهاء غير الإماميين.
أما قاصمة التهم والتشكيكات التي أثيرت حوله، فأساسها إجابته عن بعض المسائل العقائدية والتاريخية؛ فبسبب ظن المتهمين أنّه تناول قداسة الزهراء وشكك فيما ذكره التاريخ من أذى أصابها، والحال إنّما أراد أن يخطّ لقلمه ولنهج مدرسته استثارات علمية مشروعة تشكّل حالات للشكّ من وجهة علمية تاريخية، ومن أجل التعرّف على مواضع اليقين فيها، ولم يكن بوسعه أن يواجه العَنَت الشديد والتهمة في الولاء والعقيدة لولا احترامه للفكر النقدي ومحاولة الخروج عن أسر قيود التاريخ والمجتمع، والبحث عن المشتركات مع الغير وإبرازها في قائمة الاهتمامات بدل التمحور فيما يهدم جسور الوحدة الإسلامية، إضافة إلى الدعوة المستمرّة والمفتوحة للحوار في قضايا الإنسان.
إنّ مبناه الفقهي في اعتماد علم الفلك والأرصاد في إثبات الشهور القمرية قد أفرد القضية من كونها حكما شرعيا إلى اعتبارها موضوعا من الموضوعات، يحدّده عالم الفلك والأرصاد لا الفقيه والعالم الديني، تماما كما يحدّد وقت طلوع الشمس وغروبها في الساعة والدقيقة، ووقوع كسوف الشمس وخسوفها ودرجته ومكانه، وهي يقينية في نتائجها لا تقاس بعين الإنسان الباصرة القاصرة، وهو احترام وثقة بيقينيات العلم، وتوظيف له في خدمة الشرع، يورث اقتناع شرائح المكلفين بمنطقية الحكم وصوابيته. ويضاف إلى مبناه العلمي أسلوب خطابه فقد سعى قدر الإمكان إلى توجيه الخطاب التيسيري للمتعاملين بالفتاوى الشرعية، بعيدا عن تعقيدات الاحتياطات التي توقع المكلفين في الحرج والمشقة.
إنّ المشهد التأبيني في رحيل السيد فضل الله إلى بارئه، وحضور المجاميع المختلفة في تشييعه والتعبير عن خسارة فقده حتى خارج حدود الوطن العربي والإسلامي، يترجم دوره الكبير في اشتغاله بحبّه للإنسان وقدرته على التعاطي والحوار مع أيّ أحد يحمل ذرات من الإنسانية إلا أن يكون ظالما ومغتصبا لحقّ الأرض والوطن كالمغتصبين الصهاينة ومن يقف وراءهم. وهذا بحدّ ذاته يحدّد الإطار العام لشخص من يتصدّى لدور السيد ويخلفه بحقّ، والأهم من ذلك أنْ تواصل جموع من أعطت قلبها لحبّ السيد بنفس الثقة والحبّ ولو بعد فترة من الزمن ريثما ينكشف لها حسن الاختيار وخيرية الخلف من خلال وحدة المسار والمنهج.
فمن هو المؤمّل للاستخلاف؟ ليس من شرط أن يكون الفتى سرّ أبيه، ولا أعزّ طلابه ومريديه ووكلائه كذلك، وإن كنّا نتمنّى ذلك، إلا أنّ المسألة تابعة للمعايير لا للأشخاص، والمعايير هي التي تفرض نفسها على أرض الواقع؛ لتدلّ على صاحبها سواء كانت موجودة في ابنه أو أحد تلاميذ مدرسته ووكلائه.
والأهم من كلّ المعطيات هي “صناعة الرؤية” التي يسير وفقها الخلف ووضوحها لديه، هو الذي ينبغي أن يرسمها ويعمل جادا من أجل الوصول إليها، لا أنّ الجمهور هو الذي يضغط من أجل تحقيق مصالحه، وبالتالي تتقاطع المصالح والمبتغيات، فمتى كان الخلف غير مذهبي في طرحه وانتمائه ومواقفه، لا يرى شرار الناس من مذهبه أفضل من خيار الآخرين، إنساني الضمير والخلق، يهتمّ بنفع الناس أعطوه أم حرموه، يتقبّل الحوار وينشده ليوسّع دائرة علاقاته مع الأديان والمذاهب والطوائف، يبحث عن الإبداع وفي مواقع الفراغ ليضيف للساحة ما تحتاجه من جديد، ولا يتجمّد في حدود البحث في السائد والمشهور خوفاً من الاصطدام مع جمهور الناس وما اعتادوا عليه وما ألفوه، فإنّ هذه المعطيات متى ما توفّرت في فقيه من مدرسة السيد، فإنّه يحقّ لمريدي فضل الله قبل غيرهم أن تقرّ أعينهم وأن يرفعوا الصوت عالياً: نعم الخلف أنت، أنت أنت نعم الخلف.