يا عليّ.. إنّ فيك شبهاً من عيسى..

الاحتفاء بالمناسبات الدينية أو الأممية فرصة لإنعاش الذاكرة بالنبش في قديمها لنأتي منها بجديد متجدّد .. في ذكرى مولد الإمام علي بن أبي طالب فتّشت في ذاكرتي ونبشت في كتبي لعلّي أقرأ ما لم أقرأه من صفحات حياة هذا العظيم الذي خدم الإنسانية ولازال بفكره وشخصيته الفريدة .. فكان هذا المقال.

سُئل: كيف تعرّفت على شخصية الإمام علي، متى وأين؟ فأجاب بإسهاب: تلقّيت دراستي في بلدتي (مرجعيّون) التي عُرف أبناؤها بميلهم الشديد إلى العلم، وكنت أحياناً أهرب من المدرسة عندما أستطيع الهروب وأحمل معي كتابين هما ديوان المتنبي، ومجمع البحرين، وألجأ إلى كنف من أكناف الطبيعة الجميلة حيث أجلس تحت شجرة ظليلة أو على مقربة من مياه جارية، وأقرأ هذين الكتابين بنهم، وذات مرّة رآني شقيقي في هذه الحال فشجعني على المضي فيما أنا فيه ولو اضطررت للهروب من المدرسة أحياناً، ثم جاءني بكتاب “نهج البلاغة” وقال لي: أدرس هذا الكتاب واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه فإنّ فيه الخير كلّ الخير .. أضف إلى ذلك أنّ لشقيقي قصائد كثيرة في الإمام علي يتحدث فيها عن سموّ فكره، وعظمة مبادئه الإنسانية، وكنت أصغي إليها باهتمام وهو ينشدها على زائريه، فرسخت صورته في مخيلتي من الصغر كما ترسخ في مخيّلةالطفل الأقوال والأعمال والصور التي تؤثّر فيه”.

كان حصيلة هذه النصيحة الذهبية أن ألّف المفكّر والكاتب المسيحي “جورج جرداق” ستة مجلّدات عن الإمام علي قد تكون أفضل مما كتبه أكثر المسلمين عنه بالنظر إلى موضوعية الطرح وعلميته بعيداً عن العواطف الولائية أو التشنّجات المذهبية التي اختصرت حياة الإمام وفكره في زمان ومكان وحادثة معيّنة مرتكبة بذلك أكبر ظلم في حقه باسم الموالاة والانتماء وربما الدفاع عن الحقيقة، بينما حبّ جورج جرداق للحقيقة الأشمل والأتمّ دفعه لتأليف “كتاب موسوعي يكون فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة وبعض الإنصاف لها، واستدراك ما أهمله المؤلّفون الذين كتبوا عنه بدوافع لا علاقة لها بالموضوعية التي تدور في نطاق الفكر العلوي بحدّ ذاته، وبنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، وشروط الحياة التي لابد من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعاً سليماً في تركيبه، معافى في مسيرته، كريماً في غايته .. ” بحسب تعبير الكاتب.

والسؤال الآن: كيف عرّف المسلمون أبناءهم وإخوانهم في المذاهب الأخرى وفي الإنسانية بمبادئ الإمام علي؟! أكثر ما تعلّمناه في طفولتنا عن الإمام هو الروايات التي تثبت أحقّيته في الخلافة من قبيل “من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه”، و”عليّ مع الحق يدور حيث دار”، و”أنا مدينة العلم وعليّ بابها”، وإن حفظنا أيّة مقولة للصحابة ففيما له علاقة بنفس الموضوع كمقولة الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب “لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن” وغيرها، كما تعلّمنا بأنّ أفضل كلام بعد القرآن وأقوال رسول الله (ص) هو كلام الإمام علي المدوّن في نهج البلاغة، ولكن .. كما بقي كلام الله مغلقاً عن الأفهام ومحيّرا لدارسيه بعد أن أصبح المفسّرون هم الباب الذي منه يؤتى القرآن، وأحاديث رسول الله التي تحمل كل قيم الخلاص من نكبات العصر من دعوات للعيش المشترك والتسامح والمحبة يُضرب بها عرض الحائط، فكذلك بقي كتاب “نهج البلاغة” (خاصّاً) بفئة دون أخرى يستغلّه بعضُ المستأكلين بالدين فيكرّرون حكمه العالية المضامين لينثروا التراب في عيون الناس، فما تزال تسمع الذين يأكلون حقوق الناس وأموالهم، والمتكالبين على الدنيا يذكرون مقولة الإمام عليّ لابن عباس حين سأله عن قيمة نعله التي كان يخصفها وهو خليفة المسلمين: “لهي أحبّ إليّ من إمرتكم هذه، إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً”، أيّ أنه لم يقبل الخلافة إلاّ لأجل إعادة الحقوق إلى أهلها، بينما واقع المتشدّقين بأقواله يشهد أنهم إنما اعتلوا مناصبهم حبّاً في الدنيا وتعلّقاً بزخرفها وزبرجها.

إنّ ما دعا إليه الإمام علي (ع) بمبادئه وسيرته وحكمه يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى كل زمان ومكان، فكما كانت مبادئه تصلح لزمانه فقدّرها أصحابه آنذاك حقّ قدرها وأخذ كلٌّ منهم منها بحسب حاجته، فقد استوعب عمق أفكاره وسعة أفقه عدد كبير من المفكّرين المسيحيين كميخائيل نعيمة وجبران وغيرهما، وفي العام 2002 دعت المنظمة العالمية لحقوق الإنسان في تقريرها الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الدول العربية إلى اتّخاذ الإمام علي بن أبي طالب مثلاً للاقتداء بنهجه الإنساني في الحكم المتحلّي بروح العدالة الاجتماعية.

لا أدري ما هو سرّ تعلّق بعض المفكّرين والأدباء والشعراء والقساوسة المسيحيين بنهج الإمام علي حتى يُذكر أنّ أوّل نسخة من موسوعة جورج جرداق عن الإمام علي طُبعت على نفقة راهب مسيحيّ لبناني، وقد علّقت إحدى الكنائس في إيطاليا صورة للإمام علي في مدخلها، أهو نهجه الإنساني وإشاعته لسياسة العدل والمساواة بين أبناء الأمة بغضّ النظر عن دينهم ومذهبهم ولغتهم ولون بشرتهم واتجاهاتهم السياسية والاجتماعية الذي بدأ في تطبيقه أيام خلافته حيث كان يؤكّد دائماً على معاملة المواطنين من غير المسلمين بالبرّ والإحسان، وعلى ضرورة مساواة اليهود والنصارى بالمسلمين في الحقوق والواجبات، ولعلّ مفتاح كلّ ذلك يكمن فيما يؤثر عن رسول الله (ص) حين نظر ذات مرّة إلى عليّ، وهو أعرف الخلق بطويّته وحقيقته وقال له: “يا عليّ، إنّ فيك شبهاً من عيسى بن مريم”.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة