د. المرتضى بن زيد المَحَطْوَرِي الحَسَنِي
مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”
مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: المقدس في العقيدة الإسلامية:
تراكمت المصائب على قلوبنا، وتوالت النكبات على أصلنا وفرعنا، رزئنا في تراثنا العظيم بالتشويش ورواسب التفرق والتناحر، فلطخته بصمات العداوات المذهبية، والصراعات السياسية، فورَّثتنا حزازات وآلاما، وجراحات نازفة، ونارَ أحقاد مشتعلة، التهمت المقدسات ، وخلَّفتْ حِمَمًا أتت على أخضر وحدة الأمة واليابس، وغِربانا تنعق بتمجيد سوادها الحالك، وترسم للإسلام صورة بشعة قاتمة، وتفتح للدخول فيه من خلالها باب حِطَّة.
لا يفيدنا الاسترسال في الإنشاء، والإفراط في البكاء، ولنتوجه إلى ساحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، فهو المقدس المتفق عليه بين جميع المسلمين على اختلاف طوائفهم، ومشاربهم، فمن شذ عن هذه القاعدة فيحاور لا كمسلم.
كانت العقيدة أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهلة ميسرة، يكفي لكي تصبح مسلما مُحْتَرَمَ النفس والعرض والمال، لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم، أن تقول: أشهد ألاَّ إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتلتزم بأركان الإسلام الأخرى من صلاة وصيام وزكاة وحج.
جاء أعرابي ذات يوم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أيكم محمد؟ فأشاروا إليه، فقال: إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجد في نفسك عليَّ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: سل. فقال: آلله الذي لا إله إلا هو أمرك أن تأمرنا أن نشهد ألاَّ إله إلا الله وأنك رسول الله؟؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:نعم، الله الذي لا إله إلا هو أمرني بذلك. فقال: آلله أمرك أن تأمرني بالصلاة؟؟ …. وجعل يستحلفه عن أركان الإسلام. فقال الرجل: هل عليَّ غيرها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا، إلا أن تصدق. قال: والله لا أزيد على هذا ولا أُنَقِّصُ. فكأن الصحابة عليهم رضوان الله رأوا في قوله جفاءً ، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أفلح وأبيه إن صدق؛ لئن فعل ليدخلن الجنة.
هذه هي العقيدة الإسلامية السهلة السمحة، بدون حواجز، ولا تعقيدات، ولا وسائط، مجرد همسة من رسول الله: فَقِّهُوا أخاكم، وإذا به دُرَّةٌ في عِقْدٍ، ولَبِنَةٌ في جدار. كل همّ المسلم آنذاك أن يرتبط بالله، وأن يسعى في مرضاته: آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[البقرة:285] . فالعقيدة واحدة، والمقدس واحد: (قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:161:163].
فالعقيدة كانت منصبة على توحيد الله وعبادته، وإقامة العدل بهدي القرآن دون شوائبَ ولا حواجز ولا تعقيد: فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ محمد:19، لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:285].
فلو افترضنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمامنا الآن، ونحن نسأله عن أهم معالم الدين، لكان جوابه لنا كالآتي:
س/ يا رسول الله صلى الله عليك : ماذا تريد منا لكي نكون مسلمين؟
ج/ شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتحجوا البيت الحرام إن استطعتم.
س/ فما لنا إن فعلنا ذلك؟ ج/ الجنة، ولكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم.
س/ ما المراد بذلك يا رسول الله صلى الله عليك؟
ج/ أريد: أن المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، فمن صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا.
س/ هل ترى يا رسول الله تفاضلا بين هذه الأركان المقدسة؟
ج/ لا إله إلا الله أعلاها، وأقدسها، فلا تشركوا به شيئا، إن الشرك لظلم عظيم، فاعرفوا الله إلها واحدا، فردا صمدا، لا شبيه له ولا مثل، وليس له كفؤا أحد.
هذه هي العقيدة الإسلامية السمحة الصافية، ولكن هناك سؤال كبير يطرح نفسه اليوم: ماذا فعلت الأمة بنفسها؟
أصبح الإيمان في بطون كتب العقيدة ، ويتنقل في رؤوس الكثيرين على هذه الكيفية تقريبا:
أن تشهد ألاَّ إله إلا الله، وتشهد أن صفاته زائدة عن ذاته، وأنه يُرى يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، وأن تشهد أن محمدا رسول الله ، وأن القرآن كلام الله قديم، ومن قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، وأن تعتقد أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن قدَّم عليًّا على أحد الثلاثة فهو رافضي خبيث، وتعتقد أن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكبائر، ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى ، وإن سرق، وكل الصحابة عدول، وتثبت الصحبة بمجرد رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو لحظة، وتعتقد أن أفعال العباد بقضاء الله وقدره، وأن العصاة إلى الله، إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم، وتعتقد بخروج الموحدين من النار! بهذا تكون عندهم مسلما، وإن خالفت في شيء مما سبق فأنت مبتدع، كافر!، وربما تُختم العقيدة في كل مذهب بأنه يجب على المسلم أن يتعبد الله وفق المذهب الفلاني.
الخلط بين المبدأ المقدس ، والشخص الذي قدَّس المبدأ
نتفق على اختلاف مشاربنا على أن تراثنا عظيمٌ، وعندما نتهم كمسلمين بالتطرف والإرهاب والتعصب نتبارى في كيل المديح لديننا المتسامح، وسلوك سلفنا المنصف، كرد فعلٍ لنفي التهمة، لكنا نتفق ثانية أننا نعيش حالة التنافر المزمنة، ونشهد بعمق الفجوات، وكثافة الحواجز، ونئن لبعضنا ونشكوا من الرواسب التاريخية التي فرقت صفوف المسلمين، والجفوة الموروثة الواقفة أمام لَمِّ الشمل، إنا نقول ذلك صادقين.
غير أنا في كوامن نفوسنا لا نتزحزح قيد أنملة عن مواقعنا؛ لأن كلا منا يرى أنه يمثل الحق، وبناءً عليه فمن يريد وحدة المسلمين فعليه أن يكون زيدياً حسب منطقي المذهبي، فهو حسب ثقافتي وعلمي وتربيتي ومستندي مذهب أهل البيت عليهم السلام الحقيقي.
فليكن ذلك صحيحا، لكن غيري في المذاهب الأخرى يختزن نفس ما أختزن، ويزيد عليَّ بأنه قد وفقه الله لمذهب منتظم في سلك “السنة والجماعة”، ونجَّاه من مذهبي المكتوب على لائحة المذاهب الشيعية، فهو مذهب بدعة، وإن كان أقرب المذاهب إلى السنة والجماعة كما يقول من يجاملني ويحاول جبر خاطري.
وهكذا يظل كل منا متمترساً داخل مذهبه، ومكبلاً بالضوابط والقواعد والترهيب من مخالفة إمام المذهب؛ لأن المخالفة تعني خذلان المذهب، ونصرة خصومه، وتفكيكاً لترسانة الدفاع عن العقيدة القديمة التي بنيت بعد القرن الثالث الهجري، وتم خلالها إعلان المذهبية المغلقة، وانطلق الثراء العقلي، والترف الذهني يحلق في سماء حشد الأدلة، وحشر البراهين على صوابية اجتهاد قطب المذهب في الصغيرة و الكبيرة، وشيد العلماء من كل مذهب سدا حول مذهبه وأتباعه،ولسان حال بُناة هذا السد يقول: (فَمَا اسْطَاعُوَاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً )[الكهف:97]، وقد نعاني من التقوقعات داخل المذهب نفسه: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)[فاطر:32].
ويلاحظ أن تعميق الفرقة الدينية، والشتات المذهبي من الهوايات المفضلة للملوك بعد عصر الخلفاء كسياسة ثابتة داخل البيت الإسلامي . أما في عصر الاستعمار فقد كانت خطط التفرقة والتمزيق من أقوى الأسلحة فتكا، ولم يَعْدَمْ أُجَرَاءَ منَّا يثيرون الجدل حول المسائل العقيمة.
فقد نعقد ندوات إسلامية حول صحة حديث الذباب الذي يقول: “إذا سقط الذباب في الإدام فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء”!!!، وأحاديث فضائل اللحية الطويلة، وفضيلة الفقر والزهد، والرضى بالقضاء والقدر، وفضائل الصحابة، وقد يتكرم أحد الأمراء أو الأثرياء بمؤتمر أو ندوة، وتبني طباعة ونشر الأبحاث على المستوى العالمي وتترجم للغات الحية!!! وبهذا العمل الكبير نكون قد قضينا على تخلفنا المزري.
إن مشكلتنا كمتخصصين في بعض فروع الشريعة أننا لا نريد أن نفهم الإسلام كـ(منظومة صالحة لكل زمان ومكان بدون مساس بالنصوص القرآنية التي لا تقبل التغيير)، وحصل عندنا خلط بين المبدأ المقدس، والشخص الذي قدَّس المبدأ، فالمبدأ المقدس لا يدخله الخطأ، لكن الشخص ما يزال بشرا: يصيب ويخطئ.
مثال على ذلك من مذهبي الذي أتحركُ فيه، وقد أكونُ صائبا إن شاء الله أو مُقاربا للصواب، فعندما أدرسُ أولويات المذهب الزيدي الذي أرى أنه يوصف بالتوسط بالاعتدال أضع في اعتباري قداسة وأهمية وهيبة ومكانة أئمة المذهب وقادته ورموزه، وكأن الأئمة رضوان الله عليهم رغم جلالتهم بدون شك هم المبدأ نفسه، ولا أثق في المبدأ إلا لأنهم قالوه، وفي رأيي أن النظر إلى المبدأ بتجرد مفصولا عن الشخص هو من أهم ما نحتاج إليه، لكي نكتسب الثقة بأنفسنا، ونطبق ما أراده الإسلام لنا، من الحرية، والقناعة الذاتية، فهاهي أولويات المذهب الزيدي كالآتي:
- الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والملائكة ..الخ.
- الإيمان بنبوة رسول الله ، ومعجزته الكبرى القرآن الكريم.
- ولاية أمير المؤمنين علي، والزيدية في شأنها قسمان: فمنهم من يراها ثابتة بالنص، ومنهم من يراها ثابتة بالوصف. ودرجة أمير المؤمنين عند أهل المذهب أنه أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والخلافة بعده للحسن ثم الحسين، ثم من تناسل من ذرية الحسن والحسين ممن دعا الناس إلى بيعته ، واستكمل شروط الإمامة: من سلامة البدن، وغزارة العلم، وجودة الرأي، والشجاعة، والسخاء، والرحمة، والتقوى، والورع، إلى آخر الصفات التي لا تكاد توجد إلا في أمثال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
- الزيدية تعتقد أن الله لا يُرى لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فالإيمان بالرؤية يفضي إلى التجسيم، والتشبيه، والتحيز، وندخل في تفنيد روايات الرؤية ونقول: إنها آحادية، وبعض رواتها نواصب، ونقول: إن الحديث الظني لا يثبت به اعتقاد كالرؤية، وهكذا يصبح الحديث عن نفي الرؤية شغلنا الشاغل، وفي المقابل يرى القائل بالرؤية أن ثبوتها من أهم ركائز العقيدة ، حتى نكاد ننسى ما لله من صفات عظمى كخلقه لهذا الكون المذهل، والإبداع الذي يبهر الناظرين ، فانحرفت الأمة عن العقيدة التي لا خلاف حولها وهي: أن الله واحد أحد، فرد صمد، يحيي ويميت، يعز ويذل، القوي القادر، علام الغيوب، الحكيم الكريم، العدل الرحيم، وغرزنا أرجلنا في حفرة لم نستطع الخروج منها، ولم تعد علينا بطائل ، بل صار كل فريق يعتبر مخالفته خدشا لا أقول لعقيدته بل لمقدسه.
- هناك تركيز عند الزيدية على مسألة توحيد الصفات الإلهية مع الذات المقدسة، بمعنى أن صفات الله من العلم والقدرة ..الخ هي عين ذاته؛ لأن القول بغير ذلك يعني أن الله ينقسم إلى: ذات، وصفات، وما دامت الصفة موازية للذات ، فلا تخلو الصفة : إما أن تكون قبل الذات، أو معها، أو بعدها وكل ذلك محال، ويقتضي القول بزيادة الصفات أنها حالَّةٌ في ذات الله، وذلك محال، فكان التفسير السليم هو القول بأن صفة الله هي ذاته. وقد اتُّهموا بأنهم مُعَطِّلَة.
- تقول الزيدية بعدم الشفاعة لأهل الكبائر، إذا قدموا على الله عُصاة بدون توبة، وتنكر حديث: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) لأنه معارض للقرآن ، القائل: وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [البقرة:270]، وما شابهها من الآيات. وهذا نابعٌ من قولهم بوجوب عرض الأحاديث الخطيرة على القرآن ، والعقل، وصحيح السنة، بعد إعمال وسيلة المحدثين المعروفة.
- ومن مبادئهم الكبيرة : القول بالحرية المطلقة للإنسان، في فعل الخير أو الشر، فالله أراد له أن يكون حرا، وهو الذي وهبه الحرية، ومنحه كل وسيلة يحتاج إليها في الفعل وعدمه، وزوده بالعقل، ولو شاء الله أن يُجبره على أي شيء لفعل، لكن ذلك يتنافى مع العدل الإلهي، في الحساب والعقاب، وثواب المحسنين ، وعقاب المسيئين، وقد اتُّهموا بسبب هذا المبدأ بأنهم قَدَريَّة، أي : يُثبتون القدرة لأنفسهم على فعل الخير والشر، ورأى خصوم الزيدية أن مبدأهم هذا منكرٌ من القول وزور. والصواب عند الخصوم أن العبد مُجبر من الله على فعله ، مُسيَّرٌ غير مُخيَّر، فكل شيء بقضاء الله وقدره، وهذا هو مفهوم القدرية عند الزيدية. والقدرية مذمومة عند جميع الطوائف، لكن كل طائفة تفسرها بطريقتها، وتلقي بالائمة على غيرها، ولله في خلقه شؤون.
- ومن عقائد الزيدية : الخروج على الظالم بالسيف إن لم ينفع معه نهي المنكر باللسان، وهذا المبدأ هو الذي قدَّم قوافل من شهداء آل البيت ومناصريهم، وهو الذي سبب لهم النقمة والمطاردة والقمع من قِبَل الملوك والأمراء عبر التاريخ.
وألقي في قلوب المسلمين بُغض الزيدية لا لشيء إلا لمناوئتهم للظالم المستبد؛ ولأن المال والسلطان في يد الملوك، فقد استطاعوا حشد علماء لترسيخ مبدإٍ مضاد لمبدأ الزيدية ألا وهو: وجوب طاعة الحاكم وموالاة الأمير عادلا أو ظالما، ورووا في ذلك الكثير من الروايات مثل: (أطع الأمير وإن جلد ظهرك، أو أخذ مالك) ..الخ، وكلها تحث الأمة على الخضوع والاستكانة، والصبر وتحذر من شق العصا، وتنهى عن الفرقة، وتصور الخارج على الظالم بالمارق، المنابذ لله ولرسوله، وللمسلمين، في أمر يطول شرحه. - ومن مبادئ الزيدية : المنزلة بين المنزلتين، أي: إن العصاة من المسلمين لا هم بكفار فيجري عليهم أحكام الكفار من منع التوارث ، وبينونة نسائهم.. الخ، ولا هم بمؤمنين تجب مودتهم، ومناصرتهم وتجري عليهم جميع أحكام المؤمنين، فَسَمَّوْهُم : فساقا، أي : لا مؤمنين ، ولا كافرين. فهم في منزلة بين المنزلتين، أي بين منزلة الكفر والإيمان.
وبالنسبة لمسائل العبادات: فمن المظاهر المميِّزة للزيدي:
- يقول : حيَّ على خير العمل في الأذان.
- يُسبل يديه في الصلاة .
- يعتبر البسملة آية من أول كل سورة.
- لا يقول : آمين، بعد تمام الفاتحة في الصلاة.
- يقنت في صلاة الفجر والوتر بالقرآن الكريم.
ومع ذلك تُجيز الزيدية الصلاة وراء الإمام من أي مذهب كان، ولديهم قاعدة جميلة، إذ نبذوا أي خلاف يُفرق بين المسلمين في أقدس الواجبات وهي الصلاة، فأجازوا الصلاة خلف المخالف مطلقا، وقالوا: (الإمام حاكم) يقصدون بأنه ولو خالف المؤتم في مذهبه فهو حاكمٌ لا يجوز خلافه. وقد عاش أبناء المذهب الشافعي في ظل حكم المذهب الزيدي قرابة قرونا تقارب الألف السنة أو تزيد في أُلفة، وانسجام، وتعايش، قلَّ نظيره، وأنا شاهد على ذلك بحكم مولدي في منطقة جبلية شامخة سكانها من الزيدية، وفي أسفل الجبل يبدأ سهل تهامة إلى البحر الأحمر، كله شافعية، وبين الطائفتين من العيش المشترك والتمازج والتزاوج ما لا تدرك معه فارقا مطلقا، اللهم إلا في وضع الشافعي يده فوق سرته في الصلاة، وقوله آمين بهدوء ، وما كان أحد يبشر بمذهبه في بلاد الآخر ، ولا يخطر ببال أحد ذلك؛ لأننا لم نتحسس من بعضنا البعض أي خطورة ؛ لأن الأئمة الزيدية ليس لديهم أي نية في تفريق شعبهم، وإثارة الفتن والأحقاد، بل كنا ندرس المذهب الشافعي مع المذاهب الأخرى ضمن دراسة المذهب.
يشهد بذلك كتاب (شرح الأزهار) الموسوعة الفقهية المقارنة، المعمول به في محاكم اليمن، وكتاب (البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)، وقبله كتاب (الانتصار) ، وكلها زاخرة بمذاهب علماء المسلمين، المشهورين والمغمورين، مع أدلتهم، ولم نلحظ أي تحيز، أو عدوانية تجاه الآخر، ما عدا بعض النقد اللاذع لكتب العقيدة تجاه المسائل الخطرة كالجبر، والتشبيه، والرؤية، ونحوها. وكذلك المشاعر الفياضة تجاه أهل البيت مع حفظ مقام الصحابة الكرام بدون تفريط، ولا إفراط.
وأما اليوم فأرسمُ صورة مؤلمة لبلادنا التي أصبحت تمثل كل تناقضات المسلمين ، من أفغانستان إلى الصومال.
نحن في اليمن من أفقر أهل الأرض، ومسئولونا أفسد من دبَّ على وجهها، فالماء الذي نشربه ملوث، ومهددون بالجفاف، وما زلنا نستنزفه في سقي القات، الذي عكف اليمنيون على غرسه، وسقيه، وجلب المبيدات المحرَّمة الملوثة للأرض والإنسان، والشجر والحيوان، وإدخال عشرات الأنواع من السموم دون حسيب ولا رقيب، ثم زحام الكبير والصغير على بيعه ، ومضغه، وتضييع الوقت والمال والجهد بدون مبالاة.
والكهرباء مصابة بنوبات الصرع ليل نهار. والتعليم يقذف بمئات الألوف إلى الجامعات لا يستطيع الطالب أو الطالبة كتابة اسمه على وجه صحيح، فماذا نريد بعد ذلك؟؟؟ إن ظاهرة الغش وشراء الشهادات أصبحت شائعة وعادية وطبيعية!!! والعدل ليس له وجود، إلى آخر المزعجات والمؤلمات.
ومع ذلك فدنيا الدعاة الجدد مشمرة عن ساقيها، لتعميم : ضم اليدين في الصلاة، في كافة بلاد الزيدية، ورفع الصوت بـ(آمين) بشكل مزعج، وإعادة مسألة خلق القرآن بحرارة، وتأليف الكتب المتضمنة شتم الشيعة، ووصم الزيدية بأنهم روافض، فأصبح لعن الشيعة من الواجبات التي تتلى في المنابر، والمعاهد، والمدارس، والصحف، وفي كل مناسبة، وإثارة النعرات العرقية من : هاشمية، وقحطانية، وما شابه ذلك بصورة تدمي القلب، وتترك الحليم حيران.
ولم يعد هناك أي خجل ، أو إحساس، أو خوف من رب العالمين، وكأن ما يجري في العراق، وأفغانستان، والصومال فتوحات إسلامية، وأخبار سارة، يسعى دعاتنا لنقلها إلى اليمن، أعاذنا الله وكفانا شرها. ومن المؤسف أن أولياء الأمر يجهلون أو يتجاهلون بل يتبنون دعم هذه الكارثة ، ويستجرون أسوأ ما مر في التاريخ، من نكبات، ومصائب، ونرى نفوسنا غرباء في ديارنا، وكأننا نقترب من حالة الهنود الحمر.
الحلول:
أولا: يفترض أن نخجل من مناقشة صفات الله، زائدة أم ناقصة!!؟ يكفي أن نتفق على أنه سبحانه يستحق كل صفات الجلال والكمال، فصفات جلاله وكماله أكثر من ذرات الكون الشاسع، وكل ما في الكون من إبداع، وصنع مدهش، فهو صفة لخالقه العظيم، فهذا والله أجمل بنا، وأليق. ولو بقي لدينا وقت فالأجدر بنا أن نشغله في تعميق مفهوم صفاته سبحانه التي تتعلق بقدرته على أخذ الفراعنة، والظلمة المستبدين الجبابرة، وإنه إذا أخذهم فلا يفلتون من قبضته إن أخذه أليم شديد، فهو جل وعز قاصمٌ لكل جبار، وإنه سميع عليم بما يحاك من دسائس ومؤامرات وخيانات لله ورسوله والمسلمين، وما يجري من متاجرة بالوطن والإنسان. وأنه منتقم من لصوص المال العام، والمستهترين بالمقدسات.
والجدير بنا ألا نناقش مسألة أننا نرى الله، بل نناقش ونتجادل ونتلاطم حول مسألة أن الله السميع البصير يرانا، ويرى ما نفعله من منكرات ، وما نرتكبه من موبقات، وكيف صرنا أرذل الأمم، وأضحوكة بين البشر، وسخرية أمام حفنة من اليهود، تعبث بالعرض والأرض، بعد أن كنا سادة الدنيا وقادتها! لماذا لم نعد نخجل لا من الله ولا من الناس، ولم يعد لدى الجماهير إحساس بفداحة الاستخفاف بعقولهم، فقد يجلسون لسماع خطبةَ فارغٍ، قليل العقل، عريض اللحية، نحيف الفقه، قصير النظر، يشتم لمدة ساعة شيعة اليمن ولبنان، والعراق وإيران، ويؤكد في كل جمعة، ويحلف بالله العلي العظيم إنهم أي: الشيعة، أخطر من إسرائيل!! ولا يجد من جمهور المصلين من يتبرع بطلاء وجهه بالقطران، أو نتف لحيته، أو على الأقل الخروج من المسجد وتركه ينهق لنفسه! كيف لا نخجل من مناقشة خلق القرآن، والقرآن بيننا ميت، وهديه مهجور، حَفَظَتُهُ كثير، ورعاتهُ قليل، بدون وعي ولا عقل!! ألا نستر عورة فتنة خلق القرآن، وندفن نهائيا سخافتها، وعبثيتها، ونلتفت إلى هدي القرآن؟
ومن الحلول العملية التي أقترحها لأهل العقول ، ومن في قلبه رحمة، من كبار هذه الأمة، وحكمائها، وبقية أهل الله فيها، ما يأتي:
1- إستشعار عظمة الله في نفوسنا لكي نترفق بنفوسنا أولا، وبعباد الله ثانيا، ومن أجل الله ينبغي أن نتوقف عن الجدال في المسائل التي شبعنا فيها جدلا ونقاشا، فنكتفي فيما يتعلق بجانب العقيدة: أن نعتقد بأن الله خالق الكون، لا إله إلا هو، ليس له شبيه، ولا مثيل، له كل صفات الجلال والكمال، ونترك مسألة زيادة الصفات وعدم زيادتها؛ لأنها ليست من صميم العقيدة، ولم يتحدث عنها الرسول صلى الله عليه وآله ولا صحابته رضوان الله عليهم، بل هي مبتدعة. ونتوقف عن مناقشة مسألة رؤية الله، ونترك الأمر ليوم القيامة، فإن أراد الله لنا أن نراه رأيناه، وإن حجب عنا رؤيته فله الملك وحده. فما هي الفائدة من استعجال وجع الدماغ، وتكسير الرؤوس، بجدل ممل. ويجب أن نقبل بأن يعتقد كل منا ما يشاء لنفسه دون عدوانية التبشير، وإكراه الناس على خلاف ما يريدون، فأنا حر أعتقد بأن الله لا يُرى ، ويستحيل أن يُرى، ترسخ ذلك في لحمي ودمي ووجداني، بأدلتي العقلية والنقلية التي أنا مقتنع بها. وغيري حرٌّ فيما يعتقد ، بأدلته التي هو مقتنع بها.
2- وفي مسألة الجبر والشفاعة لأهل الكبائر ، ألحظ أن القائلين بذلك لا يفعلون المنكرات، وهم من أهل الورع والتقوى، وإنما هي مجرد عقيدة ميتة في بطون الكتب، نغذيها باللجاجة والنبش للمواجع، فيمكن السكوت عنها؛ لأن الواقع لم يقبلها أصلا.
3- وبالنسبة لخلق القرآن فقد جاءت نتيجة زلة ارتكبتها المعتزلة واستعانت بقوة الدولة أيام المأمون ومن أتى بعده وأساءوا إلى غيرهم ولا سيما إلى الإمام أحمد بن حنبل، فولَّد لديه رَدَّة فعل عنيفة ما كانت تليق بجلالة قدره وعلمه، إلا أني ألتمس له العذر؛ لأنه ظُلِمَ، لكنه للأسف مع أصحابه بالغوا مبالغة فاقت الوصف، وأدت إلى محو المعتزلة من الوجود بالاستعانة بالمتوكل العباسي الذي انحاز إلى الحنابلة ، وحمل شعار السنة والجماعة. وكان المنطق بالنسبة لنا في هذا العصر بالذات يقضي بأن نجعل من هذه النكبة والسوأة عِبْرَةً نذرف لها الدمع، ونعض على الأنامل حسرة وغيظا، لما سببت من أثر سيء على الحديث والمحدثين، والتصدع الشديد في الصف الإسلامي، وزرع العداوة والحقد ، لا أن نجعل منها وجبة مسمومة لجسد منهك.
وقد شبَّهتُ اختلاف المسلمين في هذه المسألة بقوم جياع دعوا إلى مائدة حافلة بألذ الأطعمة وأشهاها، وبينما هم متحلقون حول المائدة ، سأل سائل عن صانع الطعام أهو عجوز مجربة ماهرة أم شابة غضة بضة طرية؟؟ فانقسموا قسمين، وتنازعوا واشتد صراخهم وشهروا السلاح ودخلوا في معركة أسالت دماؤهم وفتقت أمعاءهم واختلط الطعام بالفرث والدم فلا طعاما أكلوا ولا دما حقنوا.
وللخروج من هذا المنزلق الخطير أقول: ماذا لو اجتمعنا حول مائدة القرآن لنهتدي بهديه، ونرتع في حماه، ونعالج به أمراضنا المستعصية، ونُسعد به العالم، وليكن بعد ذلك ما شاء: مخلوقا منزلا، نزل في ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، كل ذلك ليس فيه كبير فائدة، كالبحث عن نوع الشجرة التي أكل منها آدم وحواء. وقد كان الناس متفقين قبل ذلك على أن القرآن كلام الله ويسكتون، ويا ليت من بعدهم أصيبوا بالبكم والخرس ولم ينطقوا لا بمخلوق ولا بقديم، وكانت الأمة تسلم من جرح نازف وجهد ضائع.
وكان من المريح والمربح للأمة أن تركز على العمل الصالح لتظفر برضا الله والجنة، وتتجنب القبائح لتسلم من النار، وتدق باب التوبة على الدوام، فذاك أجدى من الحجاج واللجاج في مسألة الخلود في النار والخروج منها، فلنتفق على ألا ندخلها، وذلك لا يكون بالتمني ولكن بامتثال قوله تعالى: ((إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً))[الكهف:107] ، ((وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الزخرف:72].
4- أما النزاع حول الإمامة،ومن أحق بها آل البيت أو غيرهم، فأرى أن التناحر ينصب حول ماض قد انتهى، فلا نستطيع إحياء علي بن أبي طالب عليه السلام لنبايعه إماما، ولا استقر له عليه السلام في حياته حال، وقد ارتاح بجوار ربه، فلنتركه ولنترك دماء أبنائه لعدالة رب العالمين، فلا محبوهم ولا مبغضوهم يقدمون لهم شيئا، ونلتفت إلى أحوالنا واستبداد الطغاة بنا، ولا ينفعنا في ذلك القول بأن الطغيان تأسس منذ القدم، ولولا فلان لما حدث كذا، كل ذلك لا يجدي، الذي ينفع : ماذا نعمل نحن؟ فهاهو السواد الأعظم من شيعي وسني في العالم العربي المنكوب يلطم صدره، هاتفا للمستبدين: بالروح بالدم، ومن سعادة هؤلاء المستبدين ، وتمام راحتهم أن نظل نذرف الدمع على أسلافنا.
ومن المعلوم أن القاعدة السنية المتواترة (بأن الأئمة من قريش) ليست مطبقة، وبإزائها حصر الزيدية للإمامة في البطنين. والإمامية في الإثني عشر، ليس لها تطبيق أيضا، فها نحن نتجرع المر بانتظار المخلص، إما المهدي عليه السلام، وإما عيسى بن مريم عليه السلام.
وفي رأيي: أنه يجب شرعا أن تنهض الأمة بأولويتها في مناهضة الطغيان والظلم بما أتيح لها من وسائل سلمية ومدنية، لتستطيع تولية وعزل حكامها، عبر صندوق انتخابي حر، بعيدا عن الآيات والأحاديث ، وبعيدا عن الدبابات والهراوات.
5- أما مسألة التفضيل بين الصحابة فهي من صناعة الملك العضوض كما أرجح، لشغل الناس بالتأليف في من هو أفضل: أبو بكر أو علي؟ وجعلنا من الحبة قبة، وأدخلنا ذلك في صميم أصول الدين، حتى صارت الأحاديث مُرَتَّبَةً على نمط مصنوع، حيث لا تخلو رواية في الفضائل عن صناعة الترتيب؛ إذ يقول الراوي: كان النبي جالسا فدخل عليه أبو بكر وعمر وعثمان وأحيانا وعلي، وكأن الترتيب بقضاء وقدر حتى على لسان الراوي!! فلا يحل له أن يقول: فدخل عليه عثمان وعمر مثلا، أو علي وعثمان، فماذا لو تركنا عليا وأبا بكر لله، فأنا أجزم أن حجم العمل الذي قدمه كل منهم هو الذي يؤهله للدرجة المستحقة، وليس ما نصنعه نحن. فإن كان ولا بد من الاستمرار في تضييع الوقت، فينبغي أن يقتنع كل طرف بأن للطرف الآخر الحق في عقيدته وشعوره، ولا يجوز رد رواية من فضل عليا على أبي بكر أو عمر ، ورميه بالرفض، والاحتراق، والخبث، فهذا لا يحل، فعلي من رسول الله بمثابة بياض العين من سوادها، كما لا يجوز تفسير أو تجريح من يقدم أبا بكر، فهو صحابي كبير، وله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة، ولنضغط على مشاعرنا عند هذا الحد، فلو أن عليا وأبا بكر شاهدا ما نحن فيه لأقاما حد الجلد على من يخوض في مسألة التفضيل، لأن القدس والمقدسات المغتصبة والحقوق الضائعة، والكرامات المهدرة والإسلام الغريب أجدر وأجدى باهتمامنا .
6- أما بالنسبة للعبادات: فلا أجد مبررا ولا عذرا لمن يثير الخلافات في مسائل لا بد أن نختلف فيها، بطبيعتها، وبطبيعة النصوص الواردة فيها، وبطبيعة تفاوت الأفهام ، واختلاف الأنظار، وتفاوت العقول، فأي سخافة وقلة دين، وقلة مروءة وثقالة دم وقع فيها من يحملون اسم الإسلام وراية الدعوة، واللحى العريضة ، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل الضم والسربلة، ومن أجل (آمين) أو عدم (آمين)، ومن أجل : حي على خير العمل أو الصلاة خير من النوم!! ألم يعرف هؤلاء أن الغرض من الصلاة إنما هو تعظيم الله، والاعتراف بجلاله، وتمريغ الخدود لجبروته سبحانه وتعالى، وعزته وكبريائه، والتقرب إليه ، وطلب رضوانه، والشكر له على نعمائه، ثم لترويض المسلم المصلي على الخير، والبعد عن الفحش، قال تعالى: ((إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ))[العنكبوت:45] وقال تعالى: ((وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ)) [البقرة:45].
فما الذي جرى لهؤلاء ؟ وأي قسوة انطوت عليها جوانحهم؟ هل هم ينبضون فعلا باسم الإسلام؟ فهذا ما لا يرضاه الإسلام، ولم يقل به إمام من أئمة المسلمين، بل اختلفت اجتهادات الأئمة ، واحترم بعضهم بعضا، ودرس بعضهم على يد بعض، وهم من هم في جلالة القدر ، وعمق المعرفة، والرسوخ في العلم، فمن يردع هذه الزعانف عن الحماقات التي سببت الفتن والأحقاد، وأريق بسببها الدم، وخربت البيوت؟؟ إي والله بهذه الهامشيات زُرعت العداوات ، وغُرست الأحقاد، وتمت فهرسة الناس وفرزهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
7- من المهم جدا لمن يريد إبراء الذمة من أبناء المذاهب المختلفة أن يتعرفوا على بعضهم البعض، من خلال عقلاء كل مذهب، وأن ندخل إلى المذهب الذي نريد معرفته من خلالهم، لا من خلال خصومهم، لنستفيد من وجهة نظر محايدة وعارفة ، ونتجنب تبييت سوء النية ، والانطواء على سوء الظن، واستشعار الغرور بامتلاك الحقيقة، فالعلم لله وحده.
8- الحذر من تصديق الإشاعات، والحذر من الاندفاع في القدح والتسرع في الحكم، والحذر من التقليد، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يهضمه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
9- نجد سندا قاطعا وواضحا إن نحن عظمنا أهل (لا إله إلا الله) المستقبلين لكعبة الله، المقيمين لفروض الإسلام الخمسة، الآكلين لذبيحة المسلمين، ولا نجد سندا لما نرتكبه من إثم في حق بعضنا، فهاهي الأمة تتقاذف بالشتائم: هذا كافر، وهذا فاسق، وهذا أخطر من اليهودي، وألعن من المجوسي، حتى سمعنا من عجائب الزمان من يقدم اليهود الغاصبين لفلسطين على مجاهدي حزب الله المسلم. فهل يصدق عقل هذا؟؟؟ وأي قلب يتحمل هذا الوجع؟
فمن المفترض أن إنكار بعضنا على بعض في شئون الدين إنما هو من أجل الله، وما دام كذلك فليس من المقبول أن نتجاوز حدود ما أمر الله ، فالاختلاف له آداب وضوابط :
منها: أن نحسن الظن . ومنها: أن نعرف طبيعة الخلق الذي جبله الله على التنوع، واختلاف المدارك، قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ**إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [يوسف:119]. ومنها: أن الله أمرنا بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، وهم غير مؤمنين بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته، فما بالنا نتجادل كمسلمين بغلظة، وفظاظة، هل اليهودي والنصراني أرفع قدرا من المسلم لدى المسلم؟؟؟ نستطيع أن نتعلم من الأمم حولنا فهذه أوروبا نجحت في لملمة شتاتها، وكان بين شعوبها من العداء ، والدماء ما لم يقدر عليه الحصر، ولا يستطيعه الوصف، وقتل بين النصارى البروتستانت والنصارى الكاثوليك حوالي عشرة ملايين خلال قرنين، وقتل على يد الشيوعيين ونابليون وهتلر وموسليني وأباطرة الرومان ما يفوق المائة مليون إنسان بكثير، فاستطاعوا تجاوز الماضي ، وأن يعيشوا مستقبلهم .
فلنترك الشيعي الإثنى عشري يرى في الأئمة الاثنى عشر أنهم نظام الكون، وحجج الله على خلقه، ويرى في المهدي المنتظر خصوصا ما لا يراه من لم يختزن عبر السنين هذه الثقافة.
قال عبد الملك بن مروان لعزة معشوقة كُثَير الشاعر الشهير: ماذا رأى فيك كُثَيِّرٌ حتى هام بك ، وشَرَّقَتْ أشعاره في الهيام بك وغَرَّبَتْ؟؟ فقالت: إنه كان ينظر إلي بغير العينين اللتين في رأسك. فأفحمته بجوابها.
وحين تصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قريش أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام كاتب وثيقة الصلح أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل بن عمرو وافد قريش وممثلها في المصالحة، وقال: لا أعرفها، فاكتب : باسمك اللهم، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا فكتب كما أراد عمرو.
وعندما كتب: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، اعترض سهيل وقال: لو كنت أعرف أنك رسول الله لما قاتلتك، فاكتب اسمك، واسم أبيك، فأمر عليا بمحو كلمة رسول الله، وكتابة : محمد بن عبدالله، فامتنع علي عليه السلام ولم تطاوعه نفسه على محو نبوة رسول الله؛ لأنه شديد الإيمان بها، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : أرني مكانها، فأراه ، فمحاها بأصبعه الشريفة.
فمن يتأمل توتر الإمام علي تجاه صنيع سهيل بن عمرو نجده نابعا من قناعته وعقيدته ورسوخ إيمانه الممتزج بروحه وعقله وكل ذرة في كيانه؛ فلم يطق تصرف سهيل، وعلي من أرفع الناس قدرا، وعلما وبعد نظر، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرفع قدرا منه، وأقرب إلى الله وأكثر إيمانا ورسوخا وأعمق عقيدة، لا يدانيه أحد؛ لذلك نظر إلى تصرف سهيل على أنه طبيعي لمن هو في مثل حاله من الجهل والعناد؛ لذلك فهو محتاج لطول بال، وحلم وأناة، وسعة صدر ورفق، وسيأتي يوم ما يتغير موقف سهيل جذريا، ويكون له موقف مشرف في نصرة الدين، وقد حدث ذلك بالفعل حين همت قريش بالردة عن الدين بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقام سهيل خطيبا وقال: يا معشر قريش أعيذكم بالله من أن تكونوا أخر الناس إسلاما، وأولهم ارتدادا، وإلا سقطتم أبد الدهر، فثبتوا على الإسلام بعد سماع قوله. فحين استوعب علي رضوان الله عليه الدرس ، وهمس في أذنه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما إنك ستسام بمثلها. كان ذلك الموقف الرائع في مواجهة الخوارج، الذين جاءت أحداثهم بعد تحكيم أبي موسى ، وعمرو بن العاص، وقد رفض عمرو الاعتراف بأن عليا أمير المؤمنين كرفض سهيل نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما خُدِع أبو موسى طار صواب بعض أصحاب علي عليه السلام فحكموا على أنفسهم بالكفر ؛ لقبولهم التحكيم أي تحكيم الرجال في دين الله، وكان الصواب قتال معاوية حتى استئصاله، وكفَّروا عليا والمسلمين جميعا. وكانوا يخاطبون الإمام علي بالكافر في المسجد أمام الملأ. فلم يعجل عليهم، ولم يبطش بهم عقابا لهم على تكفيره، بل صبر وحلم وترفق بهم وحاورهم وبيَّن لهم أن هذا خطأ لا يوجب الكفر، وقد كان حذرهم من الخديعة، ونهاهم عن الانصياع لنداء معاوية وأصحابه، بطلب تحكيم القرآن، وصرخ علي حتى بَحَّ صوته، بأن دعوة معاوية إلى تحكيم القرآن كلمة حق يراد بها باطل، فذهب صوته ونصحه أدراج الرياح:
قد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في الرماد
ولكن الخوارج تمادوا في غيهم وعنادهم، وتمادى علي عليه السلام في حسن معاملتهم ، ودفع مستحقاتهم ما داموا في صف رعيته، حتى وإن سمَّوه كافرا، ونادوه بذلك. فلما خرجوا على النظام وأعلنوا التمرد، وأخافوا الطرق، وافزعوا الناس، وسفكوا الدم، ويئس من مداواتهم قام بواجبه الدستوري وحسم أمرهم وأبيدوا جميعا، وذلك أوضح دليل على شراستهم ، وتمكن العناد منهم، وكيف ارتدوا بعنفهم على إمام الهدى. وكان الصواب أن يصوبوا حرابهم تجاه قائد البغاة معاوية.
وقد قرأت من عجائبهم المتلاحقة أن قافلة مسافرة فيها واصل بن عطاء رأس المعتزلة وقعوا في يد خوارج أمثال هؤلاء فأيقنت القافلة بالهلاك، فقال واصل : دعوني وإياهم ولا يكلمهم غيري، فانبرى لهم وقال: ما تريدون منا؟ فقالوا: من أنتم؟ فقال: قوم مشركون نطلب جواركم، فنحن خائفون ، فقالوا: مروا بسلام، فقال: ليس ذلك لكم، وقد قال قرآنكم: ((وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ))[التوبة:6]، فلما سمعوا ذلك ذهبوا بأجمعهم لحراسة القافلة حتى أوصلوهم منازلهم!!!!
هل سمعتم برئيس أو ملك يوصي بخصوم شرسين كالخوارج ، كانوا سبب متاعبه وفشله في القضاء على تمرد معاوية، وتمزيق جيشه، وإنهاك قواه، لكنه يقول: لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه- يعني الخوارج – كمن طلب الباطل فأدركه – يعني معاوية-.
إني وأنا امقت مسلك هؤلاء تجاه علي؛ لِيقيني بعدالة علي أُحَمِّلُ معاوية المسئولية كاملة، فهو السبب في جعل هؤلاء يفقدون صوابهم، وأحسوا أنهم قد انتقصت رجولتهم، واهتز دينهم، إثر تلك الخديعة المذلة ، كيف يُلعب بالمصحف الشريف؟؟ كيف يصبح القرآن الذي حمل عليٌّ لواءه وقاتل المشركين من أجله من أول يوم مع رسول الله سببا في هزيمة علي وتمزيق جيشه؟؟
ألا يحق لنا أن نعيد سبب الحركات المتطرفة إلى آلاعيب السياسيين، وسذاجة المتدينين المغفلين،وكيد ومكر أصحاب الأهواء والطامحين للشهرة،والصدارة والمجد؟!
وأنصح الشيعي أن يعترف لأخيه السني بأن يعتقد ما يشاء ، وأن يعيش دينه كما يحلو له، ويجب على كل طرف احترام مقدسات الآخر، فلا يليق ولا يجوز جرح مقدس هو في الغالب مقدس عند الطرفين، والله سبحانه يقول لنا: ((وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[العنكبوت:46] أي: لا نجرح مقدسهم، وقال لنا: ((وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:108] فإن لم نهتد بهذا الهدي فإنما ننفذ رغباتنا، ونسبح في بحر أهوائنا، وامزجتنا، ولسنا من الله في قليل ولا كثير، وفق الله الأمة لما يحب ويرضى، وجعل الله من هذا المؤتمر وغيره، ومن جهد أصحابه الميامين ، ومن جهد غيرهم، بداية الطريق الصحيح، ومعالجة أمراض الأمة، جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
استجابات