الشيخ عباس النجار
مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”
مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م
مدخل
لقد أرسل الله عزّ وجلّ محمداً(ص) رحمةً للعالمين، انطلاقاً من البلد الأمين، ووصفه في قرآنه الكريم بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)، وقد تجسّدت هذه الصفات في عمله الجاد والدؤوب لبناء الأمة القوية العزيزة المتماسكة في علاقاتها المبنية على أساس الأخوة بعيداً عن النعرات الفئوية والطائفية أو العرقية أو الطبقية، وعلى أساس المساواة -كأسنان المشط- أمام القانون، أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم، أي أكثرهم التزاماً بالأحكام (قوانين العدل والسلام)، ولم يستثنِ من ذلك حتى أقرب المقرّبين إليه حين قال: (لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)[1] لمن جاءه مستشفعاً في تعطيل القانون.
بُعث (ص) إلى قومه وهم على شفا حفرة من النار، نار الفتن والحروب والاقتتال فيما بينهم لأتفه الأسباب، فأنقذهم من هذه الهاوية، ووحّدهم على رسالة واحدة سامية، فكانوا حقّاً خير أمة أخرجت للناس. أليس من حق المسلم اليوم -وهو يرى حال خير أمة يؤول إلى هذا التشظّي والتمزّق والتشرذم والضعف- أن يتساءل عن الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ وهي كثيرة، ومنها إساءة فهم بعض المرويات النبويّة وتوجيهها لخدمة مصالح طائفية أو مذهبية أو فئوية، ولو تمّ إعادة النظر في هذه الفهومات بلحاظ ما أفرزته من نتائج سلبية ومدمّرة على الأمّة لخلصنا إلى سُقمها وبالتالي نبذها، إذ يكفي لاستنتاج الخطأ في الرواية أو في فهمها ما ينتج عنه من فساد، فالفهم الصحيح للرواية الصحيحة يثمر توحيداً وليس فساداً أو تفريقاً بين المؤمنين.
لقد ركزّ علماء الحديث في تصحيح الأحاديث النبوية جلّ اهتمامهم على الرواة (السّند)، بدل التركيز على مضمون الرواية (المتن)، وأسّسوا لذلك علما أسمَوه علم الرجال وعلم الرواية، وصنّفوا الحديث إلى صحيح وحسن ومقبول وضعيف حسب رواته وعددهم ومستوى عدالتهم وضبطهم للتأكّد من صحّة الصدور، رغم ما يكتنف تلك الوسيلة في الحكم بالصحّة أو عدمها من عدم النزاهة أحياناً لغياب المعايير الموضوعية لتحديد العدالة بسبب دخول الميول المذهبية والمصالح السياسية في حيثياته، فمَنْ يُعدّ ثقةً من الرواة عند فريق لأنّه على نفس مذهبهم، لا يُعتدّ به عند الفريق الآخر لمخالفته لهم! ولقد لعبت السياسة دوراً كبيراً في استصدار الكثير من الأحاديث التي تصبّ في صالح تعزيز السلطة القائمة آنذاك! وما أغناهم عن ذلك كلّه لو أنّهم أعملوا العقل في مضمون الحديث، وحاكموه بالقرآن الكريم عملاً بقوله(ص): (أيّها الناس، ما جاءكم عني يُوافق كتاب الله فأنا قلتُه)[2]، والذي يعني في مفهومه كثرة ما سيُنسب إليه من أقوال لم ينطقْ بها، فجعل معيار صحّتها من عدمها موافقتها مع قول الحقّ سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا ما تخطّينا عقبة الرواة وكان الحديثُ ممّا أجمعت عليه فِرِق الأمّة منطوقاً، فلربمالم نسلم من العقبة الكأداء الأخرى وهي فهم مضمونه ومقصوده، فقد يجمع المسلمون على ملفوظ الحديث ولكنهم يذهبون في فهمه وإسقاطه على واقعهم مذاهب شتى، كحال القرآن الكريم المتّفق عليه نصّاً والمختَلف فيه فهماً وحكماً، وذلك لغياب المنهجية الصحيحة والجامعة في التعامل مع النصوص.
إنّ تبنّي رواية فاسدة أو إساءة فهم رواية صحيحة قد ينتج آثاراً كارثية مدمّرة على كيان الأمة واستمرار وجودها في الحياة إذا كان موضوعها يمسّ الشأن العام، ثم يتمّ التسليم لهذا الفهم الخاطئ بشكل لا يقبل النقاش والمراجعة، خصوصًا بعد أن يظهر جلياً تعارض ذلك الفهم مع مبادئ الدين الحنيف ومقاصده الشريفة التي لا يخطئها عاقل!
حديث الفرقة الناجية!
مثال ذلك ما يُسمى بـ (حديث الفرقة الناجية)! والذي يُفترض منطقياً أنه يحذّر ممّا وقع فيه اليهود والنصارى من التفرّقة والانقسامات ويحثُّ على التمسك بالوحدة، هذا الحديث ينقلب في عقول البعض إلى مِعوَل لهدم الوحدة وأداةٍ لنشر الفرقة، وصكّاً لاحتكار الحقّ حسب رأيهم، وبالتالي يتحدّد مصير الآخر تبعاً لموقفه منه، ففي حال الاختلاف سيكون مصيره في الآخرة إلى النار! أما مصيره اليوم فهو الطرد من رحمة الله بتكفيره وتسقيطه، إن لم يكن بتصفيته جسدياً! فهل يُعقل أن تكون هذه النتيجة وما آل إليه حالنا اليوم من الانقسام الطائفي والاحتراب المذهبي هو مراد الرسول(ص) من حديثه؟! أم أنه كان يحذّر بالخصوص من هذا المصير بالذّات؟ وهو الذي كان دأبه توحيد الأمّة ومؤاخاة أفرادها، ومحاربة كلّ أنواع التفرقة البغيضة على أساس العرق أو اللون أو المذهب، ووَضَعَ الكلَّ في مستوى واحدٍ من حيث الأصل (كلُّكم لآدم وآدمُ من تراب)، واعتبر كلّ تفاخر باللون أو العرق رجوعاً إلى الجاهلية بعد الإسلام، إذن فكيف صار هذا الحديث الصادر من النبي(ص) الحريص على أمته، العزيز عليه تفرّق كلمتها وذهاب ريحها وهوانها على الأمم، سلاحاً للتوظيف المذهبي يُشهره كلّ فريق ضدّ الفريق الآخر لتكفيره وإهدار دمه؟! ثم ألا يتناقض هذا السلوك مع ما قرّره القرآن الكريم في آيات كثيرة من الدعوة إلى الاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرّق في الدين، وإلى حسن التعامل مع الفرقاء من الملل الأخرى، فكيف بالمختلفين من أصحاب الملة الواحدة؟
لعلّ ذلك ما جعل البعض من علماء المسلمين يتحفّظ على الرواية جملةً وتفصيلا، فيما وقف البعضُ الآخر منها موقف عدم التصديق أو التكذيب، بينما رفض آخرون الجزءَ منها الذي يشير إلى هلاك الفِرق كلّها إلا واحدة، كالسيد محمد بن إبراهيم الوزير الذي قال (في كتابه العواصم والقواصم 1/186): (وإيّاك والاغترار بـ”كلّها هالكة إلا واحدة” فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة القاعدة، لا يُؤمَن أن تكون من دسيس الملاحدة، وعن ابن حزم: إنها موضوعة غير موقوفة ولا مرفوعة).[3]
الرّواية في ميزان العقل
ونحن قبل أن نرفض الرواية أو نقبل بها لابدّ من عرضها على منطق العقل كأوّل مستقبلٍ لها، ثم بعد ذلك على كتاب الله العزيز، بعيداً عن التحقيق في الأسانيد من الرجال لاختلاف الآراء فيهم، فالرّواية إمّا أن تكون قد صدرت بالفعل عن الرسول(ص) أو لا تكون كذلك، وباعتبار كثرة رُواتها ووُرودها بطرق متعدّدة وبصيَغ مختلفة ولكنها متقاربة في المضمون، فلا يكفي لنفيها القول: ربّ مشهورٍ لا أصل له، وإنما نحن بحاجة في إثبات بطلانها إلى دليل قاطع بفساد مضمونها بشكل لا يحتمل أيّ وجهٍ من وجوه الصحة، وفي المقابل يقتضي القول بصحة صدورها أن تكون قد صدرت في مناسبةٍ ما ولهدفٍ ما ينسجمان مع مضمونها، وإنْ أخطأ المسلمون بعد ذلك فهْمَ ذلك الهدف قصداً أو بدون قصد. وباعتبار –أيضاً- أنّ الواقع صدّق هذه النبوءة وأنّ الافتراق في الأمّة قد حصل بالفعل، فلا معنى للقول بأنّ الرواية في أصلها غير صحيحة، ويبقى أن نحاكم الفهم السائد للرواية، وأن نتساءل عمّا قد يكون طرأ على أصلها من تغيير حسب هذا الفهم عبر التاريخ، أو من أجل توظيفها مذهبياً أو سياسياً، يدفعنا إلى ذلك تعدّد صيغ هذه الرواية حتى أنّك تجد في بعضها من التناقض ما يمنعنا من التسليم بصدورها كلّها عن الرسول(ص)، فلابدّ إذن من البحث عن أصل الرواية ومناسبة صدورها والهدف منه.
لقد كان العمل على تعزيز وحدة الأمة يقع ضمن اهتمامات الرسول(ص) القصوى، ويحتل قمّة أولويّاته دوماً، عملاً بقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران:103)، ولذلك قام الرسول(ص) بإرساء الكثير من القواعد الجامعة عبر ممارساته وأقواله الشريفة طوال حياته، خصوصًا مع وجود احتماليّة تراجع البعض بعد وفاته(ص) مباشرةً كما حكاه القرآن الكريم حين قال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)، لقد وعى الرسول(ص) ذلك الخطر المحتمل، وكان وجوده بين ظهرانيهم هو الضمانة القويّة لعدم التفرّق والاقتتال فيما بينهم، ولكنه(ص) خاف عليهم انفراط عقد الوحدة بعد رحيله، فكان من حرصه البالغ عليهم أن حذّرهم من مطبّات الفتن الآتية، ومن كيد الشياطين الساعية للوقيعة بينهم والنيل من وحدتهم وعزّتهم وقوّتهم، متسلّلين لهم عبر ثغرات قلّة الوعي وسوء الفهم لبعض النصوص النبوية، فبالغ (ص) في النهي عن التنابذ والتباغض واختلاق العداوات وإثارة الفتن المفرِِّقة لوحدة الأمة في أحاديث كثيرة ومناسبات عدّة، وبعبارات هي في غاية الوضوح والبيان لا تقبل التأويل ولا التحريف ولا الالتباس كان آخرها قوله (ص) في حجّة الوداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض)[4]، فرواية افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين جاءت ضمن هذا السياق وللغرض نفسه وهو وحدة الأمة لا تمزّقها.
استعراض صيغ الرواية:
لنستعرض بعض صيغ الرواية إذاً كما وردت في كتب الأحاديث، ثم لننظرْ أيّها أقرب إلى المنطق متجرّدين من كلّ ميل سوى ما يحكم به العقل. وردت الرواية في مضمونها بعدة صيغ مختلفة قد تصل في بعضها إلى حدّ التناقض! الأمر الذي يفرض وقفة منطقية لتلمّس حقيقتها ما أمكن، والمشهور منها ما ورد بمثل هذه الصيغة أو قريب منها: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أمّتي على ثلاثٍ وسبعين فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة”[5]
وإليك بعض الصيغ الأخرى للرواية قبل التعليق عليها:
- قال رسول الله(ص): “تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنةً على أمّتي قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيُحلّون الحرام ويُحرّمون الحلال”[6]
- عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنّ بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وان أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعين وتخلص فرقة قالوا يا رسول الله من تلك الفرقة قال الجماعة الجماعة[7]
- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله(ص): ” تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: الزنادقة وهم القدرية”، وفي رواية أخرى: “تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا الزنادقة. قال أنس: كنا نراهم القدرية”[8]
- قال رسول الله (ص): “إنّ بني إسرائيل اختلفوا في بضع وأربعين فرقة ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها كلّ فرقة منها في النار إلا الجماعة”[9]
- عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله (ص): ” ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّهم في النار إلا ملة واحدة، قال من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي”[10]
- عن النبي(ص) قال: ” تفترق أمّتي فرقتين، فتمرق بينهما مارقة، فتقتلها أوْلى الطائفتين بالحقّ”[11]
- عن …، عن …، قال: سمعت أبا ذر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي، قالوا : كنا قعودا عند رسول الله(ص) ما معنا غيرنا، إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين، فقال رسول الله: “تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق، فرقة أهل حق لا يشوبونه بباطل، مثلهم كمثل الذهب كلّما فتنته بالنار ازداد جودة وطيبا، وإمامهم هذا أحد الثلاثة، وهو الذي أمر الله به في كتابه (إماما ورحمة)، وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحق، مثلهم كمثل خبث الحديد، كلما فتنته بالنار ازداد خبثا، وإمامهم هذا أحد الثلاثة، وفرقة أهل ضلالة مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وإمامهم هذا أحد الثلاثة”. قال: فسألته عن أهل الحق وإمامهم. فقال: “هذا علي بن أبي طالب، إمام المتقين”، وأمسك عن الاثنين فجهدت أن يسميهما فلم يفعل.[12]
- واحتج المعتزلة لفضل الاعتزال بأدلّة من القرآن والسنّة، فمن القرآن الكريم احتجوا بقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي). ومن السنة الشريفة بما روي عنه(ص) “من اعتزل من الشر سقط في الخير”، وبما روي عنه(ص) بطريق سفيان الثوري “ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أبرّها وأتقاها الفئة المعتزلة”[13]
- روى عن عبد الله بن بريد الدمشقي قال: حدثني أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع قالوا: “خرج علينا رسول الله(ص) ونحن نتمارى في شئ من الدين، فغضب علينا غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهر فقال: يا أمّة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: بهذا أمرتكم؟ أليس عن هذا نهيتكم؟ أوَليس قد هلك من قبلكم بهذا؟ ثم قال: ذروا المراء لقلّة خيره، ذروا المراء فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان، ذروا المراء فإنّ المراء لا تؤمن فتنته، ذروا المراء فإنّ المراء يورث الشكّ ويحبط العمل، ذروا المراء فإنّ المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإنّ المماري قد تمّت خسارته، ذروا المراء فكفاك إثما أن لا تزال مماريا، ذروا المراء فإنّ المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة بيوت في الجنة في وسطها ورياضها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإنّ أوّل ما نهاني عنه ربى بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر المراء، ذروا المراء فإنّ الشيطان قد أيس أن يعبد ولكنه قد رضى منكم بالتحريش وهو المراء في الدين، ذروا المراء فإنّ بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإنّ أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم على الضلال إلا السواد الأعظم. قالوا: يا رسول الله وما السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي، من لم يمار في دين الله ولم يكفّر أحدًا من أهل التوحيد بذنب. ثم قال: إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء. قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أحدا من أهل التوحيد بذنب”[14].
وبعد القراءة المتأملة لصيغ الرواية المذكورة آنفاً يمكن تسجيل الملاحظات التالية عليها:
- اختلاف عدد الفرق في أمّة محمد(ص)، فإذا ما استثنينا “تفترق أمتي فرقتين” و”تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق” لإمكانية حصول مصاديقها تاريخياً، لأنّ التفرّق يبدأ عادةً بفرقتين أو ثلاث ثم تزداد، فإنّ باقي الصيغ الأخرى تختلف في تحديد عدد الفرق، ففيما ذهبت صيغة واحدة إلى تحديدها ببضع وأربعين فرقة، فقد حدّدتها الباقي بسبعين وإحدى وسبعين واثنتين وسبعين وثلاث وسبعين بل أنّ بعضها تردّدت بين عددين كما في رواية أنس! وهنا نسأل هل كان العدد مقصودا أم مجرّد تعبير عن الكثرة؟ وإذا كان الثاني فلماذا لم يستخدم العدد سبعين فقط؟ ولماذا الزيادة بواقع فرقة واحدة في كلّ أمّة لاحقة (اليهود 71، النصارى 72، المسلمون 73)؟ وهل ينسجم ذلك مع الواقع التاريخي لهذه الأمم الثلاث؟ أعتقد أن الأمر بحاجة إلى دراسة أوسع وأعمق للإجابة على تلك الأسئلة.
- لم تتّفق الروايات السابقة على تحديد مادة الافتراق بشكل واضح، بل تفاوتت في ذكر الأسباب التي تؤدي إلى دخول جميع الفرق الإسلامية النار ماعدا فرقة واحدة ناجية! فهل السبب هو القياس بالرأي، أم الزندقة، أم ترك الجماعة، أم المروق من الدين، أم عدم اتّباع الوصيّ بعد رسول الله(ص)؟ إنّ كل هذه الأسباب قابلة للتأويل والتوجيه والاستخدام ضد الآخر المختلف، فمثلاً ما المقصود من كلمة (الجماعة)؟ هل هم أهل السنة بمصطلح اليوم ولم يكن هذا المصطلح موجودا أيّام الرسول(ص)؟ أم هي الجماعة من الاجتماع ونبذ التفرّق؟! وكذلك كلمة (المعتزلة) هل قُصد بها فرقة المعتزلة وهي لم تظهر إلا في أواخر العصر الأموي على يد شيخها واصل بن عطاء أم هي من اعتزال الشرّ كما جاء في الحديث الآنف: (من اعتزل من الشرّ سقط في الخير)[15]؟
- اختلاف عدد الناجين منهم، فبينما ذهبت أغلب الصيغ إلى نجاة فرقة واحدة فقط، نجد في إحدى الصيغ الواردة عن أنس أنّ الناجين هم كلّ الفرق ماعدا فرقة واحدة فقط وهم الزنادقة.
- التوظيف المذهبي للحديث، فكلّ فريق يعتمد الصيغة التي تصبّ في صالحه أو في غير صالح خصمه مباشرة أو تفسيراً كتعليق أحد علماء الشيعة الماضين على صيغة: (والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة) بقوله: (فإنّ ظاهره السؤال عن الفرق التي تكون في النار فقال: الجماعة)!![16] وربما أوضح توظيف للرواية نجده في رواية سفيان الثوري عن المعتزلة، وكذلك اعتماد الشيعة صيغة (أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم) لأنهم -أي الشيعة- لا يعتمدون القياس مصدراً للأحكام، بينما لا يرى السنة صحّة هذه الصيغة من الحديث أصلاً.
- تضمين فهم الراوي للحديث أو كلامه كجزء من الحديث المروي أحياناً! كما يبدو واضحاً في حديث أنس حين قال: (كنا نراهم القدرية)، بينما الصيغة الأخرى جاءت هكذا: (…قالوا يا رسول الله من هم؟ قال: الزنادقة وهم القدرية)، فكيف نضمن ألا تكون بعض العبارات أو الكلمات في الروايات هي من إضافة الراوي للتوضيح حسب فهمه؟!
- أنّ بعض الأحاديث لم تذكر الجنة أو النار، أيْ لم تحسم أمر هؤلاء أُخروياً، وإنما اكتفت بوصفهم أنّهم (على ضلالة) أو أنّهم أعظم فتنة على الأمة، بل إنّ حديث المعتزلة لا يُفهم منه دخول أيّ فرقة النار بقدر ما يُفهم منه أنّ المعتزلة هم أبرّ وأتقى الفِرَق! وعلى فرض ورود كلمة (النار) في بعض الصيغ فما الدليل على أنّ المقصود بها نار الآخرة؟ ولماذا لا تكون نار الاحتراب والاقتتال والنزاع والحسد نتيجة التفرّق في الدين حسب سياق الحديث كما هو واضح، أي كالتي وردت في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)، فالنار في هذه الآية ليست نار الآخرة بل نار الفتن والحروب والتقاتل فيما بينهم، أنقذهم الله منها بمحمد(ص) فأصبحوا بنعمته إخوانا.
- الصيغة الوحيدة التي يقبلها المنطق، ولا يُشمّ منها رائحة توظيف مذهبي، وقد جاءت منسجمة مع المناسبة التي قيلت فيها هي الرواية الأخيرة، حيث تصدّر الرواية سببُ صدورها وهو (المراء في الدين)، مما يساعد على فهمها في سياقها بشكل صحيح دون التواء في التفسير أو توظيف لمذهب دون آخر.
تناقضٌ يُدين الفهم
لابدّ من التأكيد على أنّه من الطبيعي أن يختلف المسلمون في فهم النصوص الواردة عن الرسول(ص) وهم الذين اختلفوا في فهم القرآن الكريم، بناءً على اختلاف مستويات عقولهم، ومناهج بحثهم وقدراتهم الفكرية وأرضيتهم الثقافية، ولا بأس في ذلك، فالاختلاف أمرٌ فطري ولكلٍّ فهمُه، ولكن أن يصل الفهم لبعض النصوص إلى حدّ التعارض مع نصوص أخرى واضحة الدلالة ويمثّل تجاهلها اختراقاً للخطّ الأحمر الذي رسمه الرسول(ص) لأمّته، فهذا يعني إمّا عدم صحة تلك النصوص، أو عدم صحة فهمها، فالتوجيهات النبوية لا يمكن أن تتناقض، فإذا ما ثبّتنا أوّلاً الأحجار الكبيرة والأساسية من الالتزامات والعلاقات الأخويّة بين المسلمين في موقعها الصحيح، فلن تحتل تلك الحجيرات الصغيرة من الاختلافات المذهبية في عقولنا أكبر من مساحتها، بل ستكون ضمن المنظومة منسجمة في موقعها مع أخواتها الكبيرة في بنية المجتمع الإسلامي.
إنّ الفهم السائد للرواية القائم على توظيفها لصالح فئة من المسلمين تمثّل هذا المذهب أو ذاك واعتبارها هي الفرقة الناجية فقط، وما ترتّب عليه من نظرة استعلائية وازدراء للآخر المختلف، والنفرة منه، والعداء له، ومحاربته! هذا الفهم لا ينسجم مع الكثير من الروايات الأخرى التي صحّت عن الرسول(ص) ولا يمكن بحال الجمع بينها، وهو القائل: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)[17]، والقائل: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)[18]، والقائل أيضاً: (كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، وفي خطبته المشهودة أواخر أيام حياته أعلنها بوضوح تامّ لا يساوره لبس: (إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا…)، وفيها يقول: (لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس..)، بل مثّل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، فعجباً للمسلمين! أن تكون تعاليمه -صلوات الله وسلامه عليه- وتوجيهاته بهذا المقدار من الوضوح في حرمة الدّم والعرض والمال وإيذاء المسلم، ثم نأتي اليوم وباسم الإسلام لنستبيح ما حرّم الله ورسوله! فبعد أن كانت مواقفه(ص) وأحاديثه تُلهم المسلمين وتدفعهم نحو وحدتهم وعزتهم ومنعتهم، أضْحَت اليوم وبسبب تفسيرنا الأعوج لها أداة فرقة وتمزّق!
ثم إنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- قد سمعوا هذا الحديث بشكل مباشر أو غير مباشر، فهم على وعيٍ به ولكنهم لم يفهموه كما فهمه البعضُ اليوم، ولم نرَ له أثراً على سلوكهم بعد وفاة الرسول(ص)، فلم يتعامل معه الصحابة بالمعنى الذي يتعامل به بعض المسلمين اليوم رغم الخلافات التي دبّت بينهم والتي وصلت في بعض فصولها إلى حد المواجهة والقتال كما في الجمل وصفّين، ومع ذلك لم يكفّر طرفٌ منهم طرفاً آخر أو يُدخله النار أو يُخرجه من الجنة، فذلك موكلٌ إلى ربّ الجنة والنار عزّ وجلّ، وحينما سُئل الإمام علي(ع) عن أهل النهروان المقاتلين له أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، فقيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
المراء سبب التفرّق
لقد غضب الرسول(ص) غضباً شديداً وهو يرى جماعة من المسلمين يتمارَوْن في شيء من الدين، فابتدرهم زاجراً بكلمةٍ جامعةٍ قائلاً: (يا أمّة محمد…)، وهي نفس عبارته وهو يختتم الحديث (إنّ أمتي ستفترق…) فهو يتكلّم عن الأمّة الأصل الواحدة المتّحدة، يخاف عليها التمزّق ويدعوها إلى التمسك بهذا الأصل (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)، محذراً -بأسلوب الناصح الأمين- من إشعال نار الفتن والعداوات: (لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار) فالكلام هنا عن نار الدنيا لا نار الآخرة، مبيناً خطورة المراء في الدين –بحسب مناسبة الحديث- ونتائجه السلبية (ذروا المراء فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان)، معاوداً التحذير منه مراراً، فاضحاً أسلوب الشيطان اللعين سواء أكان من شياطين الجن أم الإنس الذي يعمل على خداعنا، فباسم الدفاع عن الدين نمحق الدين ونشوّه صورته، مستحضراً نموذجين من التاريخ (اليهود والنصارى) افترقوا على ما يبدو للسبب ذاته، دون أن يذكر عدد الناجين أو الهالكين منهم أو دخولهم الجنة أو النار، ثم يذكر ما ستؤول إليه هذه الأمة من التفرّق نتيجة المراء في الدين حسب سياق الرواية وليس لأيّ سبب آخر كما هو واضح فالمراء هو سبب التفرّق.
والمراء هنا ليس المقصود به الجدال من أجل إظهار الحقّ أو الوصول إلى معرفة الحقيقة للأخذ بها، وهو ما دعا إليه القرآن الكريم شرطَ أن يكون بالتي هي أحسن، وإنّما المقصود به الجدال بالباطل والمحاججة بغية مغالبة الطرف الآخر وإسقاط براهينه بعيداً عن المنطق[19]، هذا هو المراء الذي يؤدّي بنا إلى التفرّق كلّ حزب بما لديهم فرحون، والذي نهانا عنه تعالى بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى:13)، فالمماري يتعصّب لآرائه ويرى أنه على الحقّ وقوله في الدّين هو الفصل وما سواه فهو خارج دائرة الدين! وكأنّ دين الله سبحانه قد فُصّل على مقاسه هو بحيث لا يشاركه فيه أحد، ولعلّ مضمون الحديث الوارد الذي مؤداه (منْ كفّر مسلماً فقد كفر) أراد أن يقلب المعادلة على أمثال هؤلاء التكفيريين.
ثم إنّ الرواية تصف الذين يمارون في الدين بالضلال، وليس بحتمية دخولهم النار في الآخرة، فربما تاب البعض وتراجع عمّا هو عليه من المماراة في الدين وتكفير الآخر من المسلمين لاختلافه معه، فيعود إلى سنة الرسول(ص) وأصحابه أيام حياته في تلاحمهم وتآلفهم وتواصلهم رغم الاختلاف في الآراء بين بعض الصحابة، فالاختلاف في الأحكام الفقهية ليس من التفرّق في الدين، بل هو إثراء للفقه، ودليل سعة، ونفي للحرج، وتلبية طبيعية لمتطلبات الإنسان المسلم في واقع الحياة المتغيرة، فهي من سمات الدين العالمي الخاتم الذي يقوم على أساس فقه الواقع لا فقه الضرورات.
وحيث أنّ المراء في الدين ليس من طبيعة الأكثرية من المسلمين الذين تعاملوا مع دين الله عزّ وجلّ بإيمانهم الفطري وببساطتهم دون تطرّف أو تعقيد، وإنما ابتُلي به مَنْ عنده شيءٌ من علمٍ قليل يظنّ به أنه قد امتلك الحقيقة كلها! فالواقع يثبت أنّ الفِرق والمذاهب تتكوّن نتيجة رأي فكريّ أو فقهيّ مختلف يطرحه شخص واحد، ثم يتبنّاه المريدون والأتباع لتكون بعد ذلك فرقة أو مذهباً جديداً، ولا ضيْر، طالما كان هذا الرأي الجديد لا يتعارض مع مرتكزات الدين الأساسية ومقاصده الإنسانية، وطالما أنّه يطرح معه أدلّته القابلة للأخذ أو الردّ، ولكن المشكلة تبرز حينما يكون القصد منه هو مماحكة الآراء الأخرى وإثبات بطلانها دون برهان (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ثمّ يتطرّف ويحكم على الآخرين بالضلال والتكفير والنار ووجوب الزوال[20]، لذلك استثنى الحديث من هذا الضلال السوادَ الأعظم أيْ الأكثرية من الناس، لأنّهم يلزمون الجادة بفطرتهم ولا يجاوزونها إلى التطرّف بطبيعتهم، فالدين المعاملة، دون أن تشغلَ بالهَم المعاركُ الفقهية والعقائدية الدائرة بين أرباب العلم والتشدّد في التفاصيل إلا أن يُهيّجوا بها، وما عسى أن يؤثّر الاختلاف في القول بإمكانية رؤية الله سبحانه يوم القيامة من عدمها في حياة المسلمين اليوم لتكون هذه المسألة من محدّدات البقاء في الدين أو الخروج منه؟! وكيف لإنسان أن يحدّد ما في قلب إنسان آخر من عقائد، فضلا عن كونها صحيحة أم خاطئة إلا أن يشقّوا صدورهم ليطّلعوا على ما فيها! أليس هذا ما أنكره النبي(ص) على أسامة حينما قتل الراعي رغم تلفظه بالشهادتين بزعم أنّه قالها خوف القتل، فقال له: هلاّ شققت قلبه؟! أليس هو القائل: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)[21]؟ فالمهمّ هو المفرزات السلوكية لهذه العقيدة فهي تُنبئ عمّا تكّنُ الصدور، ولذلك حينما سئل عن السواد الأعظم لم يذكر أسماء لأشخاص وإنما صفات أفعالٍ يتحلَوْن بها موضّحاً أنهم مَنْ كان على طريقة الرسول(ص) وأصحابه في التعاطي مع دين الله الذي جاء رحمة للعالمين لا لفِرقة دون أخرى، وأنّهم لا ينشغلون بالجدل العقيم (وهو المراء) فيما لا يعود على المسلمين بالنفع سوى إثارة الشقاق والخلاف وتمزيق الصف، ولا يرمون من اختلف معهم بالطعن في إيمانه وتكفيره لارتكابه ذنباً، فإن الناس ليسوا بمعصومين وخير الخطّائين التوابون.
التفرّق يقود إلى الاقتتال
إنّ النهي عن المراء في الدين والتأكيد على تركه إنّما جاء لما يسبّبه من إيغار الصدور بالعداوة بالتركيز والنفخ في أمور الخلاف الهامشية وتضخيمها، كما قال(ص): (ذروا المراء فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان)، ذلك أنّ المماري لا يهدف من جداله معرفة الحقّ بقدر ما يهدف إلى تسقيط الآخر وتخطئته، وبدل أن تجول العقول في ميادين الفكر لتلقّف الحكمة والحقّ، تتصاول النفوس لاقتناص الفرصة لطعن الآخر، ويتخندق الكلّ وراء آرائه أو آراء أشياخه بعد أن يُكسبها مسحةً دينية، ويصبح الدفاع عنها دفاعاً عن الإسلام، وتصير الحرب لأجلها حرباً مقدّسة! الأمر الذي يؤدي بعد ذلك إلى الاقتتال. وهذا ما تعنيه تماماً كلمة (التحريش) في قوله(ص): (…فإن الشيطان قد أيس أن يُعبد ولكنه قد رضى منكم بالتحريش…)، فالفعل (حرّش بينهم)[22]يعني ألقى العداوة وأَغْرى بعضَهم ببَعض باستثارتهم وإخراجهم من حالة السلم وجرّهم إلى حالة المواجهة والقتال لاستفراغ طاقاتهم وجهدهم في التخريب والدمار بدل البناء والتطوير.
لقد أفاضت السيرة النبوية قولاً وعملاً في التركيز على سلمية العلاقة بين المسلمين (فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وأوجبت إصلاح الخلل الطارئ في هذه العلاقة بالمبادرة إلى السلام (لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)[23] وأكّدت أنّ: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)[24]، فإذا كانت الرغبة من كليهما في قتل الآخر (فالقاتل والمقتول في النار)[25]، فالقتل والاستئصال خطّ أحمر لا يبرّره أيّ اختلاف في الرأي، فضلاً عن خلاف على حطام الدنيا.
عودٌ على بدء
وكما بدأ الإسلام بالأمس البعيد غريباً فيمن خوطبوا به ودُعوا إليه فحاربوه حرباً لا هوادة فيها، عاد اليومَ -كما تنبأ النبيّ(ص)- غريباً مُحَارباً بين أهله ومعتنقيه، وأصبحت تعاليمه الأصيلة مغيّبة وغريبة على المسلمين نتيجة ما لحقه من تشويهٍ في معانيه وقيمه السامية ويسره وسعة أفقه ورحمته بالناس! لأنّها لم تصلْهم نقية بيضاء صافية كما جاءت بل كانت تُزقّ إليهم عبر مرشّحات المذاهب وميول الرجال! ورغم ما يعتري الأفق من قتامة، إلا أنّ المؤمّل أن لا تعقم هذه الأمة عن أن تلد رجالا صالحين -كما عودتنا- يحملون لواء الإصلاح من جديد، قد ينكرهم الناس ابتداءً، سماهم الرسول(ص) بالغرباء ودعا لهم فقال: (طوبى للغرباء)، ووصفهم بأنّهم (الذين يصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله، ولا يكفّرون أحدا من أهل التوحيد بذنب)، فطوبى للمتمسكين بأصول الإسلام الصحيحة كما أرساها الرسول(ص) وأصحابه معه أوّل مرة، فالذين هم على هذا الوصف هم الناجون حقاً من الضلال ومن هلكة الاحتراب ونار الفتنة سواء أكانوا من الشيعة أم السنة أو غيرهم، تلك هي مواصفات الناجين، فأين هي ممن يدعي اليوم أنّه الفرقة الناجية وهو يكفّر الآخر بل لا يرى له حقاً في الوجود؟!
وقد ذكر هذه الرواية الأخيرة علماء من السنة وآخرون من الشيعة بنفس الصيغة والإسناد لانسجام منطقها مع منطق العقل والشرع في موضوع المراء، إلا أنّ علماء الشيعة اقتصروا فيها على موضوع المراء دون المقطع الذي يتحدّث عن افتراق الأمة!
فقد أخرج الحديث من علماء السُنّة الطبراني في المعجم الكبير[26]، وابن حبّان في كتاب المجروحين[27]، والمتقي الهندي في كنز العمال[28]، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق[29]، ومن علماء الشيعة ذكره العلامة المجلسي في بحار الأنوار[30]، والشهيد الثاني في منية المريد[31] مقتصرَيْن على موضوع المراء دون الموضوع الذي يتعلّق بافتراق الأمّة بسبب تضمّن الأخير الإشادة بالصحابة في قوله: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) لموقف أكثر الشيعة السلبي من بعض الصحابة، وإشكالهم في ذلك أنّ الصحابة اختلفوا من بعده اختلافا شديدا لدرجة التقاتل فيما بينهم كما في حرب الجمل وصفين، فكيف يذكرهم الرسول(ص) كمرجعيّة صالحة للاقتداء فيما يوحّد الأمة؟ والجواب أنّ التفرّق إنما حصل بعد وفاة الرسول(ص) وهذا ما كان يحذّر منه، وأنّ المثال الصالح للصحابة والمطلوب الاقتداء به إنما كان أيام حياته، هذا ما تؤكّده بعض الصيغ التي حدّدت ظرف الزمان المقصود فقالت: (من كان على ما أنا عليه اليومَ وأصحابي)[32] أراد(ص) لهذا النموذج الجامع للكلمة أن يُحتذى، النموذج الذي ذكره الله سبحانه في كتابه بقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(الفتح:29) فالرحمة هي أساس العلاقة فيما بينهم لا إزهاق الأرواح واستباحة الحرمات! وبأسهم الشديد موجهٌ ضد الأعداء المحاربين لا تجاه المسالمين من الناس وإن كانوا من غير المسلمين.
خلاصة ما سبق أنّ رواية افتراق الأمّة جاءت ضمن سياق رواية طويلة تنهى عن اتّباع أسلوب المماراة في الدين، وهي المجادلة بالباطل لإثبات حقّ مزعوم أو إبطال حقّ ثابت، تلك التي تمزّق الدّين وتصطنع قضايا تثير الضغائن من تفاصيل وآراء، ولو كانت أمراً مهمّا لسأل المتمارون نبيّ الله فيها ولأجابهم عنها بدل أن ينهاهم عن المراء، لأنّه يؤدي إلى التفرّق لا على مستوى الآراء فحسب بل يمتد إلى مستوى الشعور النفسي سلباً تجاه الآخر فينعكس سلوكاً عدوانياً، فهي رواية تعليمية وليست إعلامية فقط.
- الرواية في ميزان القرآن
ثمة جانبان لعرض الرواية على القرآن، الأول: مدى مصداقية الرواية من المنظور القرآني، أيْ هل يتفق القرآن مع ما جاء في هذه النبوءة من تفرّق الأمة وتمزّقها إلى مذاهب متناحرة؟ والثاني: مدى انسجام الفهم السائد للرواية القائل بـ “اختصاص فرقة واحدة من المسلمين بالحقّ والبصيرة والباقي على الضلال ومصيرهم إلى النار” مع حقائق القرآن وتعاليمه.
الوحدة مطلب قرآني
الحقيقة أنّ رواية افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ليست الوحيدة التي تنبأت بمستقبل هذه الأمة وتمزقها، فقد جاء مثلها في قوله(ص) لثوبان: (كيف أنت يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام تصيبون منه؟ قال ثوبان: بأبي وأمي يارسول الله، أمن قلّة بنا؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير، ولكن يلقى في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبّكم الدنيا وكراهيتكم القتال)[33]، وقوله(ص) أيضاً: (سألت الله أن لا يعذبكم بعذاب عذّب به من كان قبلكم فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط على عامّتكم عدواً يستبيحها فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسكم بينكم فردّها علي)[34]، فهل في القرآن ما يصدق هذه النبوءة ويدعمها؟
إنّ الاهتمام البالغ الذي أولاه القرآن الكريم لموضوع وحدة الأمة الإسلامية يُنبئ بما يؤول إليه حالها في المستقبل، فالمتكلّم هو خالق هذا الإنسان والعالم بطبيعته النفسية التي ألهمها فجورها وتقواها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، فالدعوة للاعتصام بحبل الله جميعاً لم تأتِ اعتباطا وإنما للتذكير بنعمة الأخوة وتأليف القلوب بعد أن كانوا أعداء متناحرين حتى لا يعودوا لمثلها بعد أن نجّاهم الله منها، الأمر الذي يتطلب قيام أمة من الناس بواجب الحفاظ على حالة السلم ووأد أسباب العداء في مهدها حتى لا نكون كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وقد كان رسول الله(ص) يمثّل حبل الإنقاذ الممدود بين السماء والأرض، والراعي الأكبر لهذه الوحدة، ومع انقطاع هذه الصلة برز التحدي الأكبر في استمرارية الحفاظ على وحدة الأمة، خصوصا وأن القرآن أشار محذراً إلى انقلاب البعض عليها بعد وفاته فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144) في إشارة واضحة إلى أن ذلك سيحصل، وهناك من الآيات ما أفصحت عن تفرّق أصحاب الملل السابقة في عهد الخلائف الذين ضيّعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات واختلفت أحزابهم، وكلّها مسوقة لتنذر المؤمنين من المصير إلى هذا المآل، وإن كانت أحاديث النبوّة تُؤكّد أنّ المسلمين سيركبون سنن اليهود والنصارى.
وفي هذا السياق تأتي تأكيدات القرآن الكريم على وحدة الأمة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، وذمه تمزيقها بالاختلاف في الدين وتحويله إلى مذاهب وفرق: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159)، وقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 31-32) ونهى عن التنازع الفئوي (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال:46)، بل أكّد على أنّ دين الله واحد بعث به أنبياءه إلى عباده ليقيموه ولا يتفرّقوا فيه (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13).
إنّ دعوة القرآن إلى الوحدة لم تنحصر في المطالبة بها ضمن إطار خطابه العام، بل تجلّت أكثر في آياته التي تحثّ على تمثّل السلوكيات الفردية المؤلفة للقلوب والجامعة للكلمة من التعاون على البرّ والتقوى، والتخاطب بالتي هي أحسن، ورد التحيّة بأحسن منها، والتصالح والعفو والصفح وإفشاء السلام ونصرة المظلوم ومؤازرة اليتيم والتصدّق على الفقير وغيرها من أعمال البرّ والإحسان، وتنهى في الوقت نفسه عن كلّ ما يؤدي إلى التفرقة والنزاع من الحسد والغيبة وسوء الظن والهمز واللمز والسخرية والتنابز بالألقاب والخوض في أعراض الناس، لما لكلّ ذلك من آثار سلبية ومدمّرة تعصف بوحدة الأمة وتهزّ كيانها وتماسكه.
حصر الحقّ بفرقة لا يقرّه القرآن
إنّ التبشير بفرقة أنّها تمثّل (الدين) و(الأمّة) كما تقول المذاهب وفرقها بتسمياتها (السنّة والجماعة) و(الطائفة المحقّة) هو نقيض دعوة القرآن في تلك هي الجماعة، وفي هذه أنّها المحقّة، فليس في الفرق والمذاهب “جماعة” تساوي (الأمّة)، ولا “محقّة” تساوي (الدّين)، وليس من فئة أو فرقة (اللّهم إلاّ بمعنى أناس متفرّقين من كلّ ملّة ومذهب)، أو حزب (إلاّ حزب الله وهو عالميّ يسع أفراد الإنسانية من كلّ ملّة ومن كلّ الصوامع أو البيَع أو المساجد والكنائس ودور العبادة التي يُذكر فيها اسم الله كثيراً)، فليس من فرقةٍ أو مذهب أو ملّة أو ديانة، ستأتي يوم القيامة لتدخل الجنة ويُهال الآخرون في النار، هذا ما ادّعاه من ادّعى نسباً مع الله، وقد أسقط الإسلام هذه الترّهات فليس بين الله وبين الجِنّة نسبٌ وليس بينه وبين الإنس نسبٌ إلاّ العمل الصالح، ولا يجوز لأحد تمثيل الذّات الإلهية أو تمثّلها، بل وليس بين رسوله الكريم وبين الآخرين نسبٌ، وليس هو أبا أحدٍ بالخصوص دون الآخرين، وإنّما النسبة إليه وأولى الناس به هم مَنْ أحسن اتّباعه وطاعته وأحيى سنّته القويمة وحمل لواءه لكلّ البشرية.
لقد أزرى الله سبحانه بادّعاء اليهود أنّ لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس[35]، وادّعاء الصفوة والفرقة الناجية حين جاءت كمثالٍ على لسان بعض اليهود وبعض النصارى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) فأجاب سبحانه (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين* بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:111-112) فأثبت سبحانه أنّه سيدخل من اليهود والنصارى الجنّة كما سيدخل من غير ملّتهم كلُّ من يُسلم وجهه لله ويُحسن العمل، وقالوا أيضاً (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فردّ سبحانه (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (المائدة:18) فأثبت عدم انتساب الخلق إليه، وأنّ العذاب على الذنوب يلزم كلّ الملل والطوائف والمغفرة كذلك للجميع، (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) فردّ سبحانه (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ* بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:80-81) فأثبت دخول أفراد منهم الجنة وأفراد النار، وأولى بهذه العقيدة الفئوية عقيدة الفرقة الناجية أو الملّة المحقّة أو الطائفة المصطفاة أن تُسمّى بعقيدة الأماني، أو عقدة الأماني، والتي خطّأها سبحانه من ناحية أنّ الكون في فرقة أو جماعة معيّنة هو منجي، وأنّ الظنّ هذا ما هو إلاّ أماني وغرور فقال عز وجل: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (الحديد:14).
كلّ هذه المزاعم وغيرها ردّها سبحانه وبضمنها المزاعم التي يقولها بعضُ أصحاب الفرق من الملّة المحمّدية المسلمة أنّهم الفرقة الناجية والفرقة المحقّة وغيرها وتكفيرهم الآخرين وتبديعهم وإدخالهم النار، يُضاهئون بها قول أسلافهم ممن ظنّوا أنّهم امتلكوا الحقّ كلّه وما للآخرين فيه من نصيب، متهافتين إلى شعار (ليست اليهود على شيء، ليست النصارى على شيء).
الحساب فرديّ وليس جماعياً
إنّ الحقيقة الغائبة عن تنظير أولئك في تعاملهم واعتقادهم بربّ العالمين جميعاً، والذي هو ليس بالطائفي ولا بالقومي ولا يشغله سمعٌ عن سمع ولا لسانٌ عن لسان، وهذا ما نحن ندعو به! مع الأسف، جعلتهم بهذا الضيق، في حين أنّ حملة الأمر الإلهي من ملائكته يشهدون أنّ الله قائمٌ بالقسط، ويقولون ربّنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً، فغاب عن حُذّاق الطوائف أنّ حساب الله في مملكته الأخروية ليس قائماً بالجملة والحشد بل على التفصيل والإفراد، والخطأ الذي وقع فيه الفرقيّون هو تأسيس الحساب الأخروي على الجماعات والفِرَق والانتماء إليها، لا على الانتماء لله ولقيم الخير المعيارية المودعة والأخرى المكتسبة، فليس سبحانه بالملول ليُدين عباده يوم القيامة بالجملة، ولا يُحابي أحداً أو طائفة، ولا يُمكن لأحدٍ الفرار من حكومته عزّ وجلّ ولو دخل تحت عباءة حبيبه محمّد(ص) لا فقط في أمّته وجماعته، وأنّه لا يفوته الفوت، ولا يُخدع عن جنّته، ولا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا يظلم ربّك أحداً ولا مثقال ذرة، ولا أوكل نفساً تجزي عن نفس ما كسبت، فليس من حساب بالفئة أو بالجماعة أو بالملّة أو بالكيْل.
فلا ينبغي أن ننظر في الفرقة المحقّة والطائفة المستبصرة وأهل الفترة وأطفال المشركين وما شابه، وإنّما يُؤتى بنبيّ كلّ جماعة أو إمامها أو بكتابها وتجثو تلكم الأمم لحسابها الخاصّ بها دون الأمم الأخرى، فيُلزم كلّ فرد بالمنظومة القيمية التي وصلته أو بلغته وقصّر في الوصول إليها من أمّته أو جماعته أو مهما كانت، فيُحاسب الله الناس على قدر ما أُوتوا شخصياً فرداً فرداً، لا له علاقة بأخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه ولا بأيّ فرد في الأرض، فلكلّ منهم كتابه الخاص به، معياره علم الشخص بالخطأ والصواب أو تيسّر حصوله على ذلك العلم، فلا يُحاسب على ما جهل بقصوره، ولربّما سُجلّ له فيه العمل الحسن وسُجّل لدى آخر نفس العمل سيّئاً لتفاوت الثقافتين والبيئتين لديهما، وآيات الله الناطقة بهذا لا يصعب على قارئ القرآن أن يراها مبثوثة في الكتاب من أقصاه إلى أقصاه كثيراً حتى ليصعب استقصاؤها (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:21)، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء:13-14)، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37)، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (الأنعام:94)، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (النجم:39-41)، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (فاطر:18)، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر:17)، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) (آل عمران: 30)، والكثير مما لا يُستقصى من آيات، وجامعها أنّ موازين الحساب وإدخال النار أو الجنة هو شأن ربوبيّ خاصّ فرديّ العلاقة بين الله وعبده (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:95)، فليس من حسابٍ للأمم وللفرَق بالجملة وإنّما للأفراد، بل أنّ حساب كلّ فرد إنّما يُوكل به نفسُه، فآيات القرآن الكريم تُدلّل أنه حسابٌ ذاتي، أيْ أن كلّ إنسانٍ سيحاسب نفسه ويواجه شريط أعماله وسلوكياته وأفكاره مسجلة عليه من المخّ (أو الكتاب والغلاف) الخاصّ به عاكسا حياة الفرد في الدنيا (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء:14).
الإيمان والعمل الصالح
إنّ ضابط هذه الموازين الحسابية العامّ على كلّ فرد هو ما قدّمه أو أخّره من الخير والشر بأدقّ الوحدات الوزنية وهو الوزن الذرّي (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8)، والخير والشرّ إشارة إلى الطبيعة النفسانية التي صدرت عنها الأعمال كمُبتدأ داخلي، إذ أنّ الخير والشرّ لا يُوجدان إلاّ في النفس فقط، وينعكسان بالإرادة إلى الخارج إما إساءة أو إحساناً، لذلك يُمكن القول بعبارة أخرى أيضاً أنّ الميزان هو الحسنات والسيّئات كمنتهى خارجي وكنتيجة لشرّ النفس أو خيريّتها، فميزان الأعمال هو نفسُه كتاب الأعمال (كتاب الحسنات والسيّئات) المطبوع فيه كلّ شيء سواءً كان الكتاب هذا هو الدماغ نفسه وهو آلة تسجيل البواعث وتصوير النتائج، أم هو كتاب آخر ملائكي يُستنسخ فيه ما نعمل بوسيلةٍ وبشفرةٍ لا نعرفها، أم هو غلاف هاليّ لا مرئيّ يُحيط بالمرء كمدوّنة وسجلّ لأعماله تنطبع عليه كلّ الآثار رقيقها وغليظها صغيرها وكبيرها، لرهافته وحساسيّته.
وقد يُدمج طرفا الميزانين أحياناً (ميزان الخير والشرّ كنيّة، وميزان الحسنات والسيّئات كأعمال) فيُذكران كميزانٍ واحدٍ جامع بمبتداه النفسي ومنتهاه العملي، فيقال عنه ميزان(الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، إذ الإيمان هو ذلك الشعور الداخلي بحبّ الخير والكمال وبرقابة داخلية قوية عليا تخوّف من تنكّب الخير إلى الشرّ والفساد، وتظلّ دائماً معلّقة صاحبها بتلك القوّة المطلقة المهيمنة الغائبة الحاضرة تمسّكاً واستلهاماً وانجذاباً، وهي المعروفة لدينا بالإله والربّ، وكلّ قوم يعرفونها حسب ثقافتهم ومداركهم وبيئتهم، هذا الإيمان هو المحرّك للعمل الصالح، وانعدامه هو الذي يُطلق العقال لشرور النفس بالسيّئات والظلم والمفاسد لأنّها نفسٌ لم تُؤمن بموئليّة مثوبةٍ ولم تخفْ من مرجعية عقاب، إنّه الإيمان بالإياب للحساب الذي قال تعالى أنّ ذلك له وعليه فقط (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (الغاشية:25-26).
لاحظ أنّنا نتكلّم هنا عن ميزان النجاة في الآخرة، لا مقاييس التفاضل والدرجات في القرب والجنّة وغيرها، فقد أكّد سبحانه أنّ ميزان (الإيمان والعمل الصالح) فقط هو ميزان النجاة في الآخرة لا غيره من موازين الأحزاب والفرق، فقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)، فهي موازين لأنّ لكلّ فرد ميزاناً خاصّاً به، و لكلّ نفسٍ على حدة، ولأنّ النفس فقط مبعث الخير أو الشرّ، ومنها مصدر السوء أو الإحسان، الذي قُلنا أنّهما مدمجان في عبارة (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فالحساب للنجاة من الخوف والحزن وحسن العاقبة إنّما هو على الإيمان كعقيدة تستدعي الخير، وعلى ما صدر عنها من عمل حسن أو عكس ذلك، وهذا هو ميزان القسط المناسب لكلّ الأمم والأديان والملل والمذاهب، وإلاّ سيدخل أناس الجنّة لأنّهم ورثوا الدين الصحيح المفترض مع كونهم أشراراً! وسيدخل أناس النار لأنّهم ورثوا عقائدهم الناقصة أو الخاطئة عن آبائهم مع كونهم أخياراً! وهذا عين الظلم وأحد تمظهرات العلاقة النسبية المنفية بين الله والبشر، بل الإيمان بالربّ كمُبدئ ومعيد ليُجازي على الخير والشرّ، ثمّ عمل الصالح والحسن من الأعمال، ذلك هو الميزان القسط لكلّ نفس بحسب ما فهمَتْ وأدركتْ من خير أو شرّ، وهذا يستبين في قوله تعالى في أوّل سورة (يونس) هذا النبي المخلص بالخصوص الذي من حرصه تشدّد لطلب العذاب على عباد الله لكن الله رحمهم وخفّف عنهم وصرف عنهم العذاب، قلنا أنّه الإيمان بالله مبدئاً ومعيداً ليتترجم في الواقع الحياتي إلى عملٍ صالح (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) (يونس:4)، فالقسط أو ميزان القسط ينصبّ على قراءة بواعث الخير النابعة لا محالة عن إيمان الفرد بمخلوقيته بدءاً والإعادة للمجازاة آخراً، ثمّ يتّجه لقراءة مقدار مخرجاتها من السعي الإنساني في العمل الصالح المتنوّع.
ما السبب في دخول النار؟
رغم أنّ رواية افتراق الأمّة التي رجّحنا صحّتها –منطقياً- لم تُدخل أحداً النّار صراحةً، وإنّما أشارت إلى ضلال الفِرق التي حادت عن سمت الرسول(ص) وأصحابه في التآلف والتراحم، ولكن ما ترشّح عن مجموع صيغ الرواية من فهمٍ عند البعض بدخول جميع الفرق النار إلا فرقة واحدة، يفرض علينا البحث عن إجابة للسؤال السابق في كلام الله عز وجل خالق الجنة والنار معاً ومالك مفاتيحهما، فما الذي يُدخل المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله النار؟ أي ما هي الأعمال التي توعّد الله سبحانه بها أصحابها من المسلمين دخول النار؟
من خلال استقراء الآيات القرآنية نجد أنّ النار أُعدت أساساً للكافرين برسالات رسل الله (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (آل عمران:131)، وقد حُسم أمر هؤلاء فلا تراجع فيه (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (غافر:6)، ولكن الله سبحانه توعّد المسلم أيضا بإدخاله النار في حالات أربع:
- النفاق، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء:140)، ألحقهم بالكافرين لأنّهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وقال فيهم أيضاً: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا) (النساء:145).
- الظلم وذلك لأنّه يترشّح عن كفرٍ بالدين والقيم لذلك قال سبحانه: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة:254)، ومنه أكل مال اليتيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10)، ومن قبيلِه أيضاً الركون إلى الظَلَمة (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113).
- الفرار من زحف العدوّ لأنّه إعانة للكافر المحارب على المسلمين (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16).
- قتل المؤمن عمداً (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93).
فإذا ما طبّقنا هذا المعيار القرآني على سلوك الفرق الإسلامية، فإنّك لا تجد فيها مَنْ توجب النفاق أو تقرّ به، ولا مَنْ تفرّ من الزحف الاستعماري -مثلا- ولا تدافع عن شرفها وأعراضها وأوطانها، ولا مَنْ تُجيز الركون إلى الظالمين المناهضين للدين وللقيَم وتستحلّ أموال اليتامى وتظلمهم، فلا يبقى لدينا إلا السبب الأخير وهو (قتل المؤمن عمداً)، وهذا الفعل معظم الفرق تُجيزه بل أحيانا تُوجبه، لأنّها تفسّق وتكفّر وتُحارب بعضها بعضاً، وتعتقد بدخول بعضها بعضاً النار، يُفسِّر هذا قول النبيّ (ص) وهو ترجمان القرآن: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنّه أراد قتل صاحبه)[36]، وهو يفسّر آية عمدة في موضوعنا عن معنى الاختلاف المُفرِّق والكفر والجماعة هي: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران:103-107) السياق يُري أنّ ثمّة مؤمنين (سيكفرون) بوصية الاعتصام الجمعي ويتفرّقون ويُمارسون ثقافة وسلوكيّات الفِرقة وسيتحوّلون (لعداء) إخوانهم المؤمنين، (يتقاتلون) باللسان واللجاج والهجاء والسباب والسيف، كما كانوا في الجاهلية على شفا النار، وهؤلاء –بشكل جماعيّ- لهم عذاب عظيم وسواد الوجه كما اسودّت قلوبهم ووجوهم تجاه سائر إخوتهم المؤمنين في الدنيا.
فالمسوّغ الوحيد لدخول فئة من المسلمين النار بشكلٍ جماعيّ، في الوقت الذي يكون فيه الحساب فرديّا، هو البرمجة الجماعية التي تُرسل فرقةً بأشياعها إلى النار -بغضّ النظر عن مدّة لبثها فيها- حين تُجيز تكفير المسلم وقتاله، سواء مارسته أو رضيت به، فهي جريمةٌ جماعية ترتكبها فرَقٌ مسلمةٌ تشهد بالوحدانية والنبوّة والأركان والقيم، ولهذا تستحقّ كلّ هذه الفرق دخول النار بحكم العقل والقرآن، إلا واحدة وهي التي لا يخضع أفرادها لهذه البرمجة الجماعية، بل يكون شأنهم الإصلاح لا المماراة، وقبول الآخر لا تكفيره، فمن كان كذلك فهو من الفرقة الناجية من نار الكراهية والحسد والاقتتال في الدنيا، وبالتالي من نار العذاب في الآخرة مهما كانت شاكلة دينه أو مذهبه.
خاتمة
إنّ النبيّ(ص) الذي لم يألُ جهداً في ترسيخ وحدة الأمّة، ولم يفرّط في تعزيز تماسكها وترابط أفرادها حتى شبّههم بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى، هذا النبيّ العظيم الذي لم يقبل أن يسفك دماً لمنافقٍ تطاول عليه وآذاه في نفسه وأهله، خشيةَ أن يُحدث ذلك شرخًا في الأمة ينفذ منه الأعداء، لا يمكن أن يكون مؤدّى قوله في تفرّق الأمّة من بعده دعوةً للتمايز بين الفرق وتفضيل فرقة على أخرى، فالرّواية جاءت محكمة المعنى في صياغتها، بيّنة الأهداف ضمن سياقها، وإنْ حاول البعض استغلالها وجرّها إلى قرصه لقلة إدراكٍ منه بحقيقة الدين ورسالته الإنسانية السامية، فلأنّ هؤلاء لا يرون متّسعاً في الدّين لمن يخالفونهم الرأي، وكأنّ دين الله الواسع ضاق بالمختلفين فيه من معتنقيه، وهو الذي وسع الكافرين ضمن عيش مشترك لا اعتداء فيه (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون:6).
إنّ عطاء الله عز وجل لم يقتصر في هذه الحياة الدنيا على المطيعين له، وإنما شمل العاصين وغير المؤمنين أيضاً وهو القائل: (كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء:20)، فمن كانت هذه سنّته في تكوينه فكيف يضيق تشريعه عن استيعابهم، وهو الذي كرّمهم ومنحهم الحرية (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)، ومرجعهم إليه غداً وحسابهم عليه عزّ وجل؟!
ألم يأنِ للمسلمين أن يحكّموا العقل في موروثهم الثقافي الديني لفرز الصالح من السقيم، وللوصول إلى فهم صحيح وفق منهجيّة علميّة مستقاة من القرآن الكريم باعتباره المرجع الوحيد المتفق عليه؟ وأن يُغلّبوا مصلحة الإسلام والمسلمين العامّة على مصالح طوائفهم ومذاهبهم الخاصة؟ وأن يعوا مخططات الأعداء لتكريس التمزّق الحاصل وتوسيعه، وأن لا خلاص لهم من هذه الحالة المزرية إلا باستلهام الرحمة من نبيّ الرحمة، عبر الاقتداء بسيرته العطرة في تأليف القلوب وتوحيد الكلمة، والترفّع عن التأثر بالصراعات الطائفيّة والمذهبيّة التاريخيّة منها والحاليّة، ووضع كل ذلك تحت الأقدام والسير قُدما, كما فعل الرسول(ص) حين فتح مكة فوضع كلّ دم ومال في الجاهلية تحت قدميه, ورسم للأمة بداية مشوارها الصحيح نحو أداء رسالتها الإنسانية العالمية؟ نأمل ذلك.
الهوامش:
1 صحيح البخاري – البخاري – ج5 – ص97.
[2] الانتصار – العاملي – ج3 – ص361.
[3] الإرشاد إلى سبيل الرشاد – المنصور بالله القاسم – هامش ص59.
[4] صحيح البخاري – البخاري – ج8 – ص91.
[5] الدر المنثور – جلال الدين السيوطي – ج 2 – ص 62.
[6] الاحكام – ابن حزم – ج 8 – ص 1067 – 1068.
[7] مسند احمد – الإمام احمد بن حنبل – ج 3 – ص 145.
[8] الموضوعات – ابن الجوزي – ج 1 – ص 267 – 268.
[9] ذيل تاريخ بغداد – ابن النجار البغدادي – ج 4 – ص 126.
[10] سنن الترمذي – الترمذي – ج 4 – ص 135.
[11] سير أعلام النبلاء – الذهبي – ج 6 – ص 378 – 379.
[12] مناقب علي بن أبي طالب (ع) وما نزل من القرآن في علي (ع) – أبي بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الأصفهاني – ص 124 – 125.
[13] دراسات في العقيدة الإسلامية – محمد جعفر شمس الدين – ص 44.
[14] كتاب المجروحين – ابن حبان – ج 2 – ص 225 – 226.
[15] دراسات في العقيدة الإسلامية – محمد جعفر شمس الدين – ص44.
[16] مجموعة الرسائل – الشيخ لطف الله الصافي – ج2 – ص330.
[17] سنن أبي داود – ابن الأشعث السجستاني – ج2 – ص458.
[18] صحيح البخاري – البخاري – ج1 – ص8.
[19] (.. وروي عن النبي(ص) أنه قال: “لا تماروا في القرآن فإنّ مراءً فيه كفر”، المراء: الجدال. والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة، ويُقال للمناظرة مُماراة لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه به كما يمتري الحالب اللبن من الضرع) لسان العرب – ابن منظور – ج15 – ص278.
[20] ومثالهم في التاريخ الخوارج الذين تطرّفوا في الحكم على الإمام علي(ع)، لاختلافهم معه في مسألة التحكيم فكفّروه واستحلوا دم أتباعه، ولذلك حين خاطبهم دعاهم إلى التزام الجادة ونبذ ما هم عليه من تطرّف فقال: (والزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة! فإنّ الشاذ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب) نهج البلاغة- صبحي الصالح- ص184.
[21] سنن النسائي – النسائي – ج7 – ص77.
[22] (وحَرَّش بينهم: أَفْسد وأَغْرى بعضَهم ببَعض. قال الجوهري: التحريش الإِغراء بين القوم وكذلك بين الكلاب. وفي الحديث: أَنه نهى عن التحْريش بين البهائم، هو الإِغراء وتهييج بعضها على بعض كما يُفْعل بين الجمال والكِباش والدُّيُوك وغيرها. وقيل: حَرْشُ الضب صَيْدُه وهو أَن يُحَكَّ الجُحْر الذي هو فيه يُتَحرَّشُ به، فإِذا أَحسَّه الضبّ حَسِبَه ثُعْباناً، فأَخْرَج إِليه ذنبَه فيُصاد حينئذ) لسان العرب
[23] صحيح مسلم – مسلم النيسابوري – ج8 – ص9.
[24] صحيح البخاري – البخاري – ج8 – ص91.
[25] (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يارسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال إنه أراد قتل صاحبه) مسند أحمد – الإمام أحمد بن حنبل – ج4 ص401.
[26] الجزء الثامن، ص152-153.
[27] الجزء الثاني، ص225-226.
[28] الجزء الثالث، ص882-883.
[29] الجزء الثالث والثلاثون، ص368.
[30] الجزء الثاني، ص138-139.
[31] صفحة316.
[32] كنز العمال – المتقي الهندي – ج3 – ص883.
[33] مسند أحمد – الإمام أحمد بن حنبل – ج2 – ص359.
[34] أسد الغابة – ابن الأثير – ج2 – ص92.
[35] حين قال لليهود: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:94)
[36] مسند أحمد – الإمام أحمد بن حنبل – ج4 ص401.
استجابات