كيف نؤسّس لإعلام يسهم في معالجة واقع الأمة المحتقن؟

أ.رابحة الزيرة

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل:

يتبنّى رئيس مركز السياسة الأمنية الأمريكية “فرانك جفني” الذي يرفع شعار “فرض السلام بالقوة” مقولة ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية التي يقول فيها: “إن الحقيقة ثمينة جداً إلى درجة أنه يجب حمايتها بموكب من الأكاذيب”!!

ويذكر المفكر الأمريكي “نعومي تشومسكي”[1] أن وسائل الاتصال الحديثة أصبحت أداة أساسية للسيطرة والحكم في الدول الديمقراطية كما كانت الإشاعة أداة للحكم في الدول الديكتاتورية (!)، وإن بعض الصحف تُشترى من قبل الأثرياء ليطوّعوا الحقيقة لصالحهم, وقد تمّ التحوّل في أجواء الديمقراطية إلى تكنولوجيات صناعة الموافقةmanufacturing consent) ) “فمصانع العلاقات العامة تنتج وبالمعنى الحقيقي للكلمة (الموافقة والطواعية والخضوع) وهي تراقب الآراء والأفكار والأذهان”[2]، ويضيف “إن هذا يعتبر تطوراً كبيراً بالنسبة للأنظمة الشمولية فمن المريح جدّاً أن يتلقى المرء الدعاية بدلاً من أن يجد نفسه في غرفة التعذيب”[3]، ما يعني أن ما كان يتمّ الحصول عليه سابقاً من خلال التعذيب في السجون أصبح يتحقق الآن من خلال الدعاية والإعلان!!

وعليه فإن تقنيات الهيمنة الإعلامية ليست موجّهة للعالم الثالث فقط، أو للأنظمة الشمولية فحسب، بل تفتّقت عقول مهندسي التضليل الإعلامي عن  مفاهيم جديدة لممارسة الرقابة على الفكر في الدول الديمقراطية في منظومة أخطبوطية متقنة الحبكة بحيث لا يشعر الإعلاميّون أنهم يتعرّضون لأي نوع من الرقابة، أو التوجيه الإعلامي الخفي، ولو سُئل أحدهم لأجاب بثقة تامّة بأنه “حرّ .. ويكتب ما يشاء”.

باستعراض سريع لبعض المصطلحات ذات العلاقة بما تعارف عليه بوسائط الاتصال (Media Communication)  من قبيل:

التلاعب بالعقول، قصف العقول، تخدير العقل، كيّ الوعي، تعليب الوعي، اغتصاب الوعي، الكذبة الصادقة، الأكاذيب المنطقية، الأكاذيب الرسمية، اجتزاء الحقيقة، فنون الدعاية والإعلان، التلاعب الإعلامي، الإعلام المتحيّز، احتكار وسائل الإعلام، تقنيات نشر الإشاعة، غسيل المخ، مقص الرقيب، الرقابة الذاتية، الأمّية الإعلامية، التعتيم الإعلامي، تكتيكات الإلهاء الإعلامي، صناعة الموافقة، فبركة الرأي العام، وغيرها الكثير من المصطلحات تنكشف لنا البنية التحتية التي قامت عليها قواعد وسائل الإعلام العالمي، وتبيّن الانحراف في الوجهة الذي طرأ عليها فتحوّلت من (وسيلة اتصال) إلى (وسيلة تحايل ودجل) ولكنّه مقنّن ومبرَّر له.

فصناعة الإعلام الحديث إذاً صناعة غربية بجدارة، فهو من أسّس لهذا العلم وطوّره إلى (صناعة) وظّف فيها وسائل الاتصال الصناعية والتكنولوجية، السمعية منها والبصرية، وتعارف على مصطلحاته، واستحدث المزيد منها وتوسّع فيها وتعمّق في فهمها وتطبيقها فأصبح كلُ مصطلحٍ علماً قائماً بذاته له مناهجه وقواعده ونظرياته السيكولوجية والاجتماعية والسياسية، هذا إلى جانب الفلسفة التي تحرّك القائمين على وسائل الإعلام العالمي كما يلخّص أحد جوانبها رتشارد سالنت – الرئيس السابق لشبكة سي بي إس الإخبارية حيث يقول: “إن مهمتنا هو إعطاء الناس ليس ما يطلبون، ولكن ما نقرر نحن أنهم يجب أن يحصلوا عليه”.[4]

ولقد تطوّرت آلة الإعلام الجبارة تطوّراً رهيباً ولم تدع نظرية من نظريات العلوم الإنسانية أو وسيلة من وسائل العلوم التجريبية والتقنية إلاّ وظّفتها لصالحها بمهنية تامة، لذا فإن تجاهلها أو الجهل بقواعد لعبتها لا يعني أننا سنكون في مأمن من تأثيراتها، بل إننا إذا لم نتقن استخدام الوسائل الإعلامية الحديثة فنحن في مأزق وتخلّف.

        كما أن بحر وسائل التضليل والتلاعب الإعلامي لا ساحل له، والخوض فيه لمن لا يملك أدوات الإبحار فيه لا أمان منه، وفي زمن العولمة، والتطور الإعلامي المتسارع قد يُمسِك المتحكّم بوسائل الإعلام بخناقك وأنت تظن أنك متحرّر من قبضته، وقد يكون ملعوباً بعقلك، ومفتولاً حولك حبل تضليله، ورغم ذلك يخال لك أنك إنما تنصر ربك وتنتصر لدينك!

فكيف السبيل إذاً لمواجهة هذا المارد الإعلامي الذي بات يستخدم بخبث شديد منتهى ما توصلت إليه العلوم الإنسانية من نظريات دون أدنى شعور بتأنيب من ضمير، أو رادع من خُلُق، أو استحياء من خلْق لوضع اليد على مقدّرات الأمة، وتحقيق الأرباح لشركاته التي تحكم العالم تحت عناوين نشر الحرية والديمقراطية  كما عبّر عنها أبو العولمة “ميلتون فريدمان” بقوله: (تحقيق الأرباح هو الجوهر الحقيقي للديمقراطية)، فقُدّمت الديمقراطية كبش فداء لأصحاب الأرباح التجارية.

في مؤتمر “الوحدة الإسلامية .. وديعة محمد (ص)” لسنا بصدد إماطة اللثام عن فنون وأساليب التضليل الإعلامي بعمومه لأن ذلك بحاجة إلى مؤتمر قائم بذاته، وإنما سنركّز في هذا المحور للإجابة على السؤال التالي:

كيف نؤسّس لإعلام يسهم في معالجة واقع الأمة المحتقن؟

قاعدة التخلية ثم التحلية:

ثمّة مقدّمات لابدّ منها لتأسيس إعلام مضاد يتصدى للتضليل الإعلامي الممارس على أمتّنا بشقّيه الخارجي والداخلي، هذه المقدمة يمكن أن نقتبسها من مصطلح فقهي يتلخص في كلمتين: “التخلية ثم التحلية”، ويعني فقهياً أنه لابدّ من تخلية الإناء المتنجّس قبل ملئه مرّة ثانية، لأنه بإعادة ملئه قبل تطهيره ستكون الخسارة مضاعفة: خسارة الإناء، والشراب المتلوّث به.  طُوّر هذا المصطلح من قبل العرفاء والمربّين واستُخدم في التربية الأخلاقية فكُنّيَ بالقلب عن الإناء، وقيل أنه قبل أن  يُملأ القلب بالصفات الحميدة لابد أن يُخلى مما امتلأ به من صفات دنيئة.

هذه القاعدة الفقهية منطقية ومفيدة في مجالات جمّة، أما تطبيقها فيما يخص التأسيس لإعلام نزيه يمكن تلخيصه في أننا قبل أن نبدأ بتأسيس إعلام يؤلّف بين قلوب أبناء الأمة فلابد من:

التخلية أولاً:

وذلك بفضح أساليب التضليل الإعلامي العالمي المسلّط على الأمة، وتوعية الناس لهذه الأساليب الملتوية المستخدَمة للتأثير عليهم بحيث يتحرّروا من قبضتها حتى لو استخدمت أمكر الطرق لخداعهم وتضليلهم، وهو ما يقوم مقام (التخلية)، فيقوم بإفراغ أساليب التضليل الإعلامي من محتواها ويخلي الذهن من آثارها فلا تنطلي على الشيعي – مثلاً – خدعة من يقول أن السنّي ناصبي، وأنه عدوّه ويجوز قتله، ولا على السنّي أن الشيعي رافضي، خارج عن الدين، وقتله واجب.

هنا نستهدي بقول العزيز الحكيم في سورة الأنعام: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)، حيث توضح الآية إن تبيان سبيل المجرمين يتضمن أمرين:

  1. بيان من هم المجرمون.
  2. بيان السبيل المعوج الذي يسلكونه.

وهذا تماماً ما فعله رسول الله (ص) في مجتمع مكة لقلب الصورة، فبعد أن كانت قريش تتصرف بصفتها صاحبة الشرعية الوحيدة، وكان المؤمنون يُعتبرون خارجين على الشرعية المزعومة، فتبدّل الحال بعد (تفصيل الآيات) و(فضح سبيل المجرمين)، فأصبح المؤمنون هم أصحاب الشرعية وفقدت قريش شرعيتها المزعومة.

مع التأكيد على أنه يجب أن لا يُستهان بهذه الخطوة لأنه إذا لم تُطهَّر أذهان الأمة ونفوسها وعقولها من أدناس ما مُلئت به من “أكاذيب صادقة” “true lies” (!) ولم تُوجّه إلى ما مورس عليها من تقنيات “تخدير العقل” و”تغييب الوعي” و”غسيل المخ” من قبل أعدائها، أو من تلبّس عليها أنهم أصدقاؤها، وإذا لم تُفضح أساليب الإعلام المضلِّل وألاعيبه فسيستخدم هذا الإعلام كل أدواتنا ووسائلنا المضادة له ليجيّرها لصالحه.

وللتضليل الإعلامي وسائل وأساليب متنوعة مثل: المطابقة المجتزأة، كثرة مصادر الخبر وتنوعها، التلاعب بالألفاظ، التكرار، التزوير والتحريف، التهويل الحسي، العزف على وتر الحسّ الفني وغيرها، كما أنّ هناك علاقة وطيدة بين التضليل الإعلامي وما يسمّى بالحرب النفسية، فلولا وجود ثغرات في النفس البشرية يمكن استغلالها والتأثير فيها لحرف التفكير وتضليله لما أثمرت أساليب التضليل الإعلامي المختلفة، كما يُعتبر التضليل الإعلامي من الوسائل الرئيسية لممارسة الحرب النفسية التي تُستخدم ضد الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء بحسب تُعريف وزارة الحرب الأمريكية للحرب النفسية بأنها:

استخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من “الإجراءات الإعلامية” الموجهة إلى جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة للتأثير على آرائها وعواطفها ومواقفها وسلوكها بطريقة تعين على تحقيق سياسة وأهداف الدولة أو الدول المستخدمة”[5].

التحلية ثانياً:

وذلك بتأسيس إعلام موحِّد بالاستعانة بجميع الوسائل الإعلامية الحديثة، وبزخم قوي بمستوى ما تواجهه الأمة من تحديات من أجل بث روح التآزر والتآخي وإعادة اللحمة لأبنائها، والترويج لكل ما من شأنه توحيد الأمة، وهذا سيقوم مقام القاعدة الثانية من قواعد تأسيس إعلام نزيه لمعالجة واقع الأمة ونعني به (التحلية) الآنفة الذكر، وهو ما ستعالجه هذه الورقة.

كما هو معروف فإنّ كل عملية اتصال تتكون من ثلاثة عناصر:  مستقبِل، ومرسِل، ووسيلة اتصال، وتكون وسيلة الاتصال عادة من اختيار المرسِل وبحوزته، بينما يبقى المستقبِل -كما يدل عليه اللفظ- مجرد متلقٍّ لما يرسله له المرسِل من رسائل وبالطريقة التي يختارها، إلاّ إذا رفض (المستقبل) استلام رسائل (المرسِل) إما بتعطيل حواسه التي من خلالها تصل إليه هذه الرسائل، وهذا غير معقول، أو أن يتحصّن ذاتياً بحيث يجعل لنفسه نظم حماية، ومصفاة للمعلومات ضد أي اختراق خارجي يريد أن يعبث بوعيه ويتحكّم ببرمجته، وبلغة الكمبيوتر: أن يضع لنفسه جدر نارية  (firewall) لحماية عقله من التلاعب به من قبل الفيروسات التي كثُر بثها من خلال وسائل الإعلام الموجّهة والمضلِّلة، والمحافظة على درجة يقظته وانتباهه والارتقاء بمستوى وعيه ليبقى في مأمن من التعرّض لأي نوع من أنواع التخدير أو التغييب أو التعليب أو الاغتصاب.

إنّ أي إعلام مضاد لهذا الإعلام المضلِّل لابدّ أن يعمل على ثلاث مستويات:

الأول: زيادة وعي المجتمع المستقبل لهذه المعلومات.

الثاني: رسم سمات الجهاز الإعلامي القائم على نشر الإعلام الموحِّد.

الثالث: اختراق وسائل الإعلام (المنافذ) التي تُبث منها المعلومات للناس.

أولاً: زيادة وعي المجتمع المستقبل لما يُنشر من خلال وسائل الإعلام المختلفة:

  • التلاعب بالألفاظ وتغييب وعي الأمة:

ختم رسول الله (ص) خطبة الوداع بقوله: (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا، فإن أنتم فعلتم ذلك ولتفعلنّ، لتجدُنّني في كتيبةٍ بين جبرائيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف)!!  نهيٌ صريح من رسول الله (ص) لقومه بعدم التقاتل الذي يردّهم من بعده (كفّاراً)، خالفته الأمة فتحققت نبوءته اليوم في أجلى صورها في العراق حيث زاد عدد ما يُقتل من العراقيين بأيدي العراقيين على ما يُقتل بسلاح المحتّل أضعافاً مضاعفة، وفي لبنان ينتظر طبّاخو البيت الأبيض نضوج (الفتنة الطائفية) على نار هادئة ليقدّموها لأبنائها (ساخنة) إذا أمعنوا في التمرد على إرادتهم، وفي فلسطين، ومصر، والجزيرة العربية، والسودان، وسوريا، والصومال، والهند، وباكستان، وإيران، وأفغانستان، وتركيا، والبحرين، وفي كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي نعلم أن جمار الطائفية ترقد تحت الرماد لينفخ فيها أعداء الأمة متى شاءوا فيقتل المسلم أخيه المسلم بدم بارد ودون أن يشعر أنه بفعله هذا إنما يشهر سيفه في وجه رسول الله (ص) ويعلن حرباً على ملائكة الله، وأنه أصبح مصداقاً لقوله تعالى: “مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ”[6]، ولو علم لارتدع وكفّ يده عن قتل أخيه.

لا يشعر أكثر أبناء الأمة أنهم مستخدَمون وقوداً لتأجيج النار الطائفية لأنهم ضُلِّلوا من قبل مصادرهم الإعلامية المقدّسة: المسجد أو المنبر أو المأتم، وقال له (مرجعه) أو (شيخه) أو (إمام جماعته) أن المسلم المختلف عنه في جزئية عقائدية أو شعائرية بسيطة، هذا المسلم المختلف (كافر) أو (مشرك) أو (ضال) أو (منافق) أو (مفسد) أو (خارجي) أو (ناصبي) أو (رافضي) أو (صفوي) أو (مجوسي)، فأُطلق على أبناء الأمة  مسميّات ذات دلالة طائفية، ثم أتى الإعلام الموجّه لخدمة السلطة الحاكمة أو لخدمة أعداء الأمة الخارجين لينفخ في هذه المصطلحات ذات النفس الطائفي التحريضي ليعيد ويزيد فيها، ويكرّرها على مسامعنا أينما ذهبنا حتى اعتادت آذاننا عليها ولم نعد نشمئز من سوء توظيفها، ولا نرى بأساً كمثقفين أو إعلاميين من استخدامها بعد أن قُبلت واستقرّت في لاوعينا.

كما تمّ التلاعب بوعي الأمة بطريقة غير مباشرة لتجريدها من قيمها، وذلك من خلال ما قام به الإعلام الخارجي بالتلاعب بالألفاظ بصورة عامة، وإطلاق أسماء رنّانة على أفعال دنيئة، فالإباحية الجنسية مثلاً سُميت “حرية شخصية”، وتمّ تشريع اللواط والسحاق ثم أُدرج ضمن المنظومة الحقوقية تحت شعار “حقوق الأقليات” (المثليّين)، واعتبرت السخرية والاستهزاء (نقداً)، والتجسس وهتك الخصوصيات (محافظة على الأمن) أو نقض حقوق الإنسان (محاربة للإرهاب)، وبُرِّر للاحتلال بعنوان (نشر الديمقراطية)، وأصبحت المقاومة واسترجاع الحقوق (إرهاباً)، ورفض الهيمنة الغربية (خروجاً على الشرعية الدولية)، وعلى هذا المنوال مضى التضليل الإعلامي للترويج للطائفية والسعي لتفتيت الأمة تحت عناوين برّاقة مثل (فيدرالية)، أو (حكم ذاتي)، أو (خصوصيّة ثقافية)، وغيرها انطلاقاً من القاعدة المعروفة “فرّق تسد” divide and rule.

وللعلم فإن وسائل الإعلام الداخلي والخارجي اليوم تلجأ إلى نفس القواعد التي كان يلجأ إليها ساسة الحرب في القرن الماضي حيث قامت قواعد الدعاية النازية مثلاً على اختيار مجموعة من الكلمات البسيطة أو الأهداف التي تتّسم بالنبل والخيرية لتكرارها باستمرار على الناس بعد ربطها بمشاعرهم مثل مقولة (التدخل الإنساني) لوقف (التطهّر الاثني) بحق الناطقين باللغة الألمانية، وهذا هو تماماً ما تفعله وسائل الإعلام العالمي اليوم بتكرار مقولة “نشر الديمقراطية”، و”محاربة الإرهاب”، “دعاة السلام”، “المعتدلون”، “المتطرّفون”، “محور الشرّ”، “الهلال الشيعي” وغيرها من مصطلحات منتقاة بدقة متناهية لتستدعي معها منظومة متكاملة من المشاعر والأفكار والسلوكيات المراد لها أن تُكرّس في أبناء الأمة الواحدة.

1.2  الإعلام انعكاس لواقع الأمة المحتقِن:

لو قمنا بمتابعة مجموعة من النشرات الإخبارية في عدد من الفضائيات أو على مواقعها الالكترونية والتركيز على عدد مرات تكرار كلمة (شيعي) و(سنّي) يسبقها كلمات مثل: (زعيم) (رئيس) (نائب رئيس) (نائب برلماني) (إمام) (مسجد) (رجل دين) (شارع) (قرية) (مدينة) (سيارة) (شرطي) (سائق) (طفل) .. إلخ، لرأينا انعكاس الواقع الطائفي في وسائل إعلامنا، وانكشف لنا ما يُخطط لهذه الأمة من تفتّت مذهبي لم يسبق له مثيل، وكيف استُخدمت وسائل الإعلام أسوأ استخدام لإيقاظ الفتنة الطائفية.

تُعتبر العراق اليوم أصدق تصوير للتأجيج الطائفي حيث مخطط (فرق تسد) جاري التطبيق على قدم وساق من قبل العدوّ المحتلّ بصراحة وبلا استحياء، والقتل على الهوية ساري المفعول من قبل (الغيارى) على الدين والوطن (!!) نعرض قطرة من بحر ما يُنشر في بعض وسائل الإعلام الأكثر تداولاً وانتشاراً اليوم (الانترنيت) لنعكس طرفاً من واقع الأمة المحتقن طائفياً في أحد أسخن بؤرها، العراق:

مثال (1):

نُشر على موقع الـ (بي بي سي) العربي هذا الخبر:

“مقتل 14 في غارة أمريكية على منطقة شيعية ببغداد

أعلن مسئولون بوزارة الدفاع والداخلية العراقية مقتل 14 مدنياً عراقياً، وجرح عشرة آخرين في غارة جوية أمريكية … وقال المسئولون أن مروحيات أمريكية استهدفت منازل خلال ملاحقة لمسلحين في المنطقة التي تعتبر (جيباً شيعياً) في منطقة ذات أغلبية (سنية)” [7].

لاحظ دقة المسح الجغرافي على أساس طائفي لدى وكالات الأنباء الناقلة للخبر عن (غارة أمريكية) على (جيب شيعي) في منطقة ذات (أغلبية سنية)!! مع عدم ذكر أسماء المسئولين الذين نُقل الخبر على لسانهم.

مثال (2):

بغداد، العراق (CNN)

اشتباكات في “العمارة” العراقية ومليشيا الصدر تحكم سيطرتها

“بدأت السلطات العراقية الجمعة، نشر فريق أمني رفيع المستوى، وقوات إضافية في مدينة “العمارة” بجنوب البلاد، حيث قتل 16 شخصا على الأقل فيما تقول تقارير إن مليشيا جيش المهدي التابعة لرجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر تحاول إحكام سيطرتها على المدينة الجنوبية.

ورغم دعوة الصدر المسلحين مؤخرا إلى نبذ العنف، لم يتضح بعد مدى تأييده للمعارك الناشبة حاليا، فيما تشير الأدلة إلى أن العديد من أتباعه انفصلوا عنه وشكلوا جماعات مستقلة.

والشهر الفائت نُقلت المسؤولية الأمنية عن المدينة من القوات البريطانية إلى السلطات العراقية.

والعمارة هي محافظة ميسان التي تقع في قلب الجنوب العراقي ذو الأغلبية الشيعية وتقع بالقرب من الحدود الإيرانية.

في الغضون أكدت مصادر طبية في إحدى مستشفيات المدينة أن الاشتباكات التي اندلعت الخميس بين رجال الشرطة العراقية وعناصر جيش المهدي أسفرت عن مصرع 16 شخصا وجرح 90 آخرين.

كما أكد شهود عيان للشبكة أن مليشيا الصدر تحكم سيطرتها حاليا على المدينة.

الجدير بالذكر أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي كان التقى مؤخرا في مدينة النجف الشيعية مع مقتدى الصدر وآية الله علي السيستاني أرفع مرجعية دينية شيعية في العراق، وحثهما على دعوة المسلحين إلى نبذ العنف والانخراط في عملية المصالحة الوطنية”[8]

لاحظ مصادر استقاء الخبر التالية:

  • فيما تقول تقارير
  • فيما تشير الأدلة
  • أكدت مصادر طبية في إحدى مستشفيات المدينة
  • كما أكد شهود عيان للشبكة

جميع مصادر الخبر في المقطع المبين هي مصادر مبنية للمجهول، ولا تكشف عن اسم الشخص أو تاريخ تصريحه أو مكانه أو حتى تبين مصادر التقارير أو الأدلة المشار إليها، والأغرب استعمال كلمات من قبيل إحدى مستشفيات المدينة دون ذكر اسم المستشفى، أو قال متحدث باسم الداخلية دون ذكر اسم هذا المتحدث والذي يعد أمرا هاما يسند قوة الخبر، ولكن هذه هي إحدى وسائل التضليل، فبإسناد الخبر إلى عدة مصادر مختلفة تدعم بعضها بعضا يمكن لكاتب الخبر تمرير صحة ثناياه المختلفة، كما يمكنه دس السم في العسل دون إحساس من القارئ الذي يميل للتصديق طالما ذكرت جميع تلك المصادر!  ورغم ذلك لا تغفل أن تبيّن أنها أغلبية شيعية وأنها على الحدود الإيرانية في محاولة واضحة لتوجيه إصبع الاتهام إلى إيران التي تحرّض الشيعة في العراق!!

مثال (3):

ينقل أحد الصحفيين:

“عندما شاهدنا أن التفجيرات الأخيرة قد حصلت في مدينة (سنّية) وهي بعقوبة، وكذلك في مدينة حديثة (السنية)، وفي مدينة الرمادي (السنيّة)، وهكذا بقية المدن (السنّية) …” ويكمل “ولكن أمريكا بتدميرها مدينة (سنية) بمساعدة حرس وطني (شيعي) بذرت بذور الحرب الأهلية باستخدام الحرس الوطني (الشيعي) الذي درّبوه حديثاً لقمع مدينة (سنية)![9]

لاحظ عدد مرات استخدام كلمة (سنّية) و(شيعية) في جزء من تقرير لا يتعدّى ثلاثة أسطر ونصف، والغريب أنه يريد بتقريره هذا أن يلفت الانتباه إلى من يبذر بذور الحرب الأهلية غير واعٍ إلى أنه قد ساهم في ذلك وهو لا يشعر.

مثال (4):

أما ما يُتناقل في المواقع الحوارية الالكترونية فلا يتّسع المجال هنا لنقل الصورة الحقيقية لما يجري فيها، نكتفي بنقل عيّنة بسيطة جداً لما يُتداول من خلف لوحة المفاتيح في غرف الدردشة (الشات!) لنعرف إلى أي مدى تغلغلت الطائفية في أبناء الأمّة فأضلّتهم وأفقدتهم قيمهم:

يقول أحد المتحمّسين لكرة القدم:

“أتمنى خسارة النجف لأنه فريق شيعي صفوي مجوسي فارسي ورافضي كافر”[10]!

وآخر يقترح:

لماذا لا يكون في صحار فريق شيعي متكامل في كل أطرافه، أرجو اختيار تشكيلة الفريق من 22 لاعب فالقلعة ليس فريق شيعي بالكامل”[11]!

وأما الإبداع في إنتاج أفلام فيديو (طائفية حتى النخاع) باستخدام أحدث وأطور البرامج التقنية، وأبشع الصور، وأخبث السبل، فحدّث ولا حرج، وهو يعبّر بحق عن إخلاص أهل (الفتنة الطائفية) لباطلهم، وتقاعس (المؤمنون بالوحدة الإسلامية) عن القيام بدورهم في مناهضة هذا التضليل الإعلامي الطائفي.

وأخيراً، فإن مصطلح (الصراع الطائفي) بدأ واستخدم بشكل مكثف إبان الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، ولو استطلعت بشكل سريع المقالات والأخبار على وسائل الأعلام المكتوبة في شبكة الانترنت فستجد بوضوح أن هذا المصطلح لم ينشأ وينتشر بكثرة إلا بعد عام 2003، وتكرّر بكثرة منذ ذلك الوقت بهدف تضليل الشارع العربي والإسلامي عن العدو الحقيقي وهو المحتل، وتصوير الصراع الحاصل على أنه صراع طائفي بحت، والغريب أن الوسائل الإعلامية العربية سريعة التأثر بمثل تلك المصطلحات الدخيلة، فالغرب في عالم الإعلام وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية هي من تصوغ الخبر، ويأخذ باقي العالم تلك الأخبار فيسوقها بلغات مختلفة. ويمكن الرجوع إلى كثير من أمثال تلك المصطلحات التي ما فتأت تتناولها وسائل الإعلام الغربية ومن ثم تتسرب بسرعة البرق إلى وسائلنا الإعلامية وتتناولها بشكل ساذج وتكررها في نشرات الأخبار وتحاليل الأحداث.

فالأمة إذاً تتعرّض من جهة لتضليل إعلامي خارجي همجي من قبل الإمبريالية الصهيونية المهيمنة على وسائل الإعلام العالمي التي اتّخذت من الطائفية مطيتها للسعي بين أبناء الأمة الواحدة فصبّت الزيت على كل ما من شأنه أن يؤجّج نار الاختلافات العقائدية ليصل بهم إلى حدّ الاقتتال الأهلي فيلهيهم عن قضايا التنمية والتحرّر ويستنزف طاقاتهم وثرواتهم، ومن جهة أخرى تتعرّض لتضليل إعلامي آخر داخلي تُمسك ببعض خيوطه حكوماتها المستبدة التي اتّخذت من عصا التمييز الطائفي أداة لضرب الطوائف المختلفة بعضها ببعض، والإبقاء على الوضع الطائفي المتأزّم للنفخ فيه كلما دعت الحاجة لتحويل بؤرة انتباههم عن تجاوزاتها أو أخطائها، وللمحافظة على عروشها، ويمسك ببعضها الآخر بعض من يتسمّى برجال الدين من الطائفتين ممن لا همّ لهم سوى إيقاظ الفتنة الطائفية وتأجيج نارها بدعوى الدفاع عن الدين.

        فالطائفية الدينية إذاً أقوى وأمضى أداة بيد أعداء الأمة المتلاعبين بوسائل الإعلام لإحداث شرخ عمودي ينخر في العروة عميقا لبداية نهاية هذه الأمة، ومن أسف فإن الدمى المتحركة على مسرح عرائس الحروب الطائفية في كل الأحوال هم أبناء الأمة (الغيارى) على دينهم، وأوطانهم، الذين ينفّذون عمليات “القتل المقدّس”(!) بحق أخوانهم في الوطن والدين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهنا تكمن أهمية التصدّي لهذا التضليل الإعلامي الممارَس على الأمة بزيادة وعيها بطبيعة هذه الوسائل الإعلامية والتعامل الأمثل معها.

الحلّ:  زيادة وعي الأمة المستقبِلة لرسائل الإعلام المضلِّلة:

أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان معرض للملايين من الذبذبات من الألوان، والأصوات والروائح، ومئات الآلاف من الرسائل التي تصل إليه من خلال الدعايات والإعلانات، فيستقبل بعضها إرادياً، ويدخل بعضها الآخر على منظومته لاشعورياً، ومحال أن يستطيع التحكّم في هذا الكم الهائل من الذبذبات التي تستقبلها حواسه (نوافذه على العالم الخارجي)، ولكن يمكنه التحكم في درجة الوعي بها ومن ثمّ طريقة التعامل معها باليقظة والانتباه الشديدين بحيث يملك زمام الأمور بيده، ويتصرّف ملء إرادته وبما تمليه عليه قيمه ومبادئه.

شواهد التاريخ تثبت أن الأمم التي بادت كان بسبب طغيانها على مبادئها، وإساءة استخدام رشدها، وأمة الإسلام ليست استثناء على هذه القاعدة، وقد هذّب القرآن هذه الأمة على يد رسولها الكريم (ص) بكمٍّ هائل من الفضائل الإنسانية كالأخوة في الله، والاعتصام بحبل الله، والوحدة، والتآلف، وأُمرت بالوفاء بالعهد، والمجادلة بالتي هي أحسن، وحُرّم عليها مجموعة من المفاسد الأخلاقية كالغيبة، والنميمة، والسخرية، والاستهزاء، والتنابز بالألقاب، والكذب، والافتراء، والتنازع والمشاحنة، ليُضمن بقاؤها قوية عزيزة بين الأمم، تحكمها منظومة قيمية أخلاقية متكاملة ومتطورة أثبتت نجاحها في مجتمع ما قبل الإسلام الذي كان يعاني من شتى أنواع الظلم الاقتصادي، والتخلف الاجتماعي، والفساد الأخلاقي، والعداء القبلي فاستطاعت هذه القيم أن تجفف منابع الفساد، وتطهّر المجتمع من أسوأ المفاسد الاجتماعية كشرب الخمر والزنا والسرقة والعدوان ونقض العهد، ونجحت في تجاوز خلافاتها القبلية القديمة بالأخوّة وبفضل هذه القيم الإنسانية التي أخرجتها من ذل الجهل والرذيلة والتنازع إلى عزّ المعرفة والفضيلة والوحدة.

ولكن .. مع مرور الزمن تنكرت الأمة لأهم هذه الفضائل من بعد وفاة رسول الله (ص) وفي زمن الخلافة الراشدة، إلى أن تعاقب عليها الحكم الأموي الذي قام بعملية نسف للقيم بطريقة ممنهجة ومدروسة، وبدأ التضليل الإعلامي الأموي يلعب دوراً رئيساً في تشويه التاريخ، وتحريف الحقائق، ونسج الأكاذيب لإيقاع الفتنة بين أبناء الأمة، وتغييب وعيها فتُقُوِّل على رسول الله (ص)، وعلى الصحابة حتى قيل أنه لما ذاع خبر استشهاد علي (ع) وهو يصلي كان بعض أهل الشام يتساءل: وهل كان عليٌ يصلي؟! وعندما استشهد الحسين (ع) استبشر البعض لأنهم كانوا يظنّون أن الذي قُتل كان (خارجياً)، فهل كان الناس آنذاك بهذه الدرجة من الجهل!؟

أم إنّه التضليل الإعلامي (الأموي) الذي بذر بذور الفتنة في أبناء الأمة وصوّر علياً (ع) تاركاً للصلاة، وجعل من الحسين (ع) خارجياً، فانطلت (الكذبة) على الناس واستمرت ذيولها إلى يومنا هذا، فالشيعي يُظَنّ أنه شيوعي، وكلّ سنّي يُعتقد أنه ناصبي، ومن لا يشهد بشهادة أن علياً ولي الله فهو مبطل، ومن يطلب شفاعة أولياء الله فهو مشرك، وهكذا في قائمة تطول ولا تنتهي مارس فيها أبناء الأمة بحق بعضهم جميع الرذائل التي نُهوا عنها من تنازع وتقاتل وغيبة ونميمة دون أن يطرف لهم جفن لأنهم أُعطوا المبرّر الشرعي للنيل من (الأخ العدو!) من الطائفة الأخرى، فطغت الأمة على مبادئها، وتخلّت عن قيمها الأصيلة، فآذنت بزوالها.

العودة إلى القيم:

فحتى لا تُباد الأمّة أو تصادَر هويّتها المتشرّبة بأخلاق نبيها وسماحة إسلامها، لابد أن نعود إلى رشدنا بالرجوع إلى قيمنا التي ستعيد لنا تماسكنا الاجتماعي وطهرنا الفردي في حملة إعلامية تثقيفية مكثّفة تقوم بـ:

  1. نبذ جميع أشكال الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب والسخرية والاستهزاء والكذب والخداع والافتراء وذلك بسدّ الذرائع التي أحلّت للناس ارتكاب تلك المآثم من قبيل (لا غيبة لفاسق)، أو (أهل البدعة فقولوا فيهم ما شئتم)، وعلى جميع المستويات الفردية والجماعية، وعليه لابد من التصدّي إعلامياً لمنع استخدام الألفاظ التي تعطي وصفاً خاطئاً للطوائف المختلفة وتثير حفيظة أتباعهم كالرافضة، أو النواصب، وغيرها من قبل أي من الأطراف بغض النظر عن كونه كاتباً أو صحفياً، أو خطيب جمعة، أو مسئولاً في الدولة أو برلمانياً حتى تُمحى من قاموس الناس وتصبح نسياً منسياً.
  2. فضح كل ما يصدق عليه مصطلح “كذبة صادقة” بحق أي طرف من الأطراف، من قبل أي من الإعلام الداخلي أو الخارجي، فمبدأ التقية مثلاً من المبادئ التي كان يعمل بها الشيعة مع أعدائهم في زمن الاستبداد والقمع، ولكن إذا اجتُزأت هذه المعلومة من موارد استخدامها وتمّ الترويج إلى أن الشيعة يستخدمون هذا المبدأ مع أخوانهم السنة فهذه كذبة يجب كشف ملابساتها لكي لا يساء الظن بكل ما يقوله الشيعي أو يفعله ويُفسّر على أنه يمارس (التقية) مع أخيه السنّي، أو أنّه ينافقه، وكذلك التأكيد على أن ليس السنّي الذي يعتقد بأولويّة أبي بكر الصدّيق في الخلافة يعني أنه يبغض علياً (ع) ولا يعترف بفضل أهل البيت (ع)… إلخ.
  3. إعادة النظر – من قبل علماء الأمة الغيارى على وحدتها – في فتاوى تكفير الطوائف المختلفة والدعوة للتراجع عنها للعودة إلى الدين الإسلامي المحمّدي السمح قبل الانقسام إلى طوائف ومذاهب، وإحياء تعاليم الدين الذي استطاع أن يزيل جميع الحواجز النفسية التي تراكمت على مدى عقود من الخلافات العصبية من نفوس معتنقيه، وعلى وسائل الإعلام يقع الدور الأكبر للتخفيف من حالة الشحن الطائفي.
  4. تقليص مساحة الجهل بالآخر قدر الإمكان وإعادة بناء الثقة بين الطوائف المختلفة بالحوارات العلمية الهادئة من قبل من يحملون الفكر المنفتح من كلا الطرفين، أو بالمناظرات الفكرية، وبزخم إعلامي يستقطب أكبر عدد من المهتمين بوحدة الأمة، ليصل صوتهم إلى الفئة المستهدفة ممن تعرّضوا للتضليل الإعلامي الطائفي باستثمار البرامج الحوارية في الفضائيات واسعة الانتشار.
  5. إعداد برامج تثقيفية لتصحيح ثقافة الأمة عن الفرق الإسلامية المختلفة، لإعادة لحمة الأخوة بينهم بالتأكيد على أنه لا السنة ينصبون العداء لأهل البيت، ولا الشيعة يرفضون الصحابة، ولا أي منهما خارج عن الدين، ولكن الإعلام المغرض شوّه صورة كل طرف لدى الآخر وأخفى محاسنه وضخّم مساوئه أو فسّر أفعاله تفسيراً خاطئاً.
  6. إعادة الأمور إلى نصابها كما يبيّنها القرآن الكريم بتغليب الأمور الكلية على الأمور الجزئية لتجنّب عوامل الفرقة والانقسام، بعد أن نُفخ في الاختلافات الجزئية كتفاصيل الصلاة والوضوء، وأنسي أبناء الأمة آيات صريحة تحذّر من الفرقة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[12] وغيرها ليعود القرآن حاكماً على الفتاوى وليس العكس.
  7. التذكير بمواقف الرسول (ص) التي تركز على الوحدة وتتصدّى لما من شأنه أن يعيدهم إلى عصبيتهم حتى وهو في أحلك الظروف وأشدّها، ونشر أحاديثه (ص) في نبذ الفرقة كقوله (ص): “لا يشهرنّ أحد على أخيه بالسيف لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من حفر النار”، و“كل المسلم على المسلم حرام”، و”سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر” وغيرها الكثير، نشرها في وسائل الإعلام الرسمية بطرق معبّرة وبأساليب مختلفة وبصورة متكرّرة لتكون رادعاً عن جميع أشكال العداوة بين الأخوة.
  8. عدم النبش في كتب التاريخ لتجريم أفعال أبناء كل طائفة أو تفسيرها بحسب ما قاله أو أفتى به بعض علمائهم الأموات فـ(لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[13]، بل لعل بعض الفتاوى كانت لحقن دماء المسلمين في فترات عصيبة، ولمنع ما هو أكبر من مجرد الاختلاف في الرأي، فيؤجر الأموات لحكمتهم في معالجة شرور واقعهم ونؤثم نحن على سحب فتاواهم التي انتهت صلاحيتها على واقعنا.

ثانياً: تأسيس جهاز إعلامي نزيه يناهض الإعلام المضلِّل ويقوم بدور رئيسي في توحيد الأمة:

الإعلام النزيه – الجهاز الإعلامي في صدر الإسلام أنموذجاً:

نستطيع القول أننا اليوم “كلنا رجال إعلام” فمع سعة انتشار وسائل الإعلام وتنوّعها وتوفّرها لكل من يملك هاتف نقّال، أو جهاز كمبيوتر وخط انترنيت، أو راديو، أو تلفزيون، أو منبر، أو مسجد، أو فضائية، أو عمود في صحيفة، أصبح الجميع مستقبلين أو مرسلين – بدرجات متفاوتة – لرسائل إعلامية عالمية أو إقليمية أو محلية، وعلى عاتقنا جميعاً تقع مسئولية مجابهة الحشد الطائفي الموجّه لكيان الأمة الموحّد.

ولنا في رسول الله (ص) أسوة حسنة، حيث قام هو مع ثُلّة من خيرة أصحابه بتأسيس كادر إعلامي نزيه، يقوم بدور الإعلام والإعلام المضاد، واختار من المسجد منطلقاً لبثّ الأنباء (الصادقة) التي تعني المسلمين آنذاك، فلم يكن المسجد مكان لإعلان وقت الصلاة فقط بل كان المؤذن هو المعلن الأول للأخبار العامة والخاصة، فهو من يخبر الناس بآخر المستجدات الاجتماعية كأخبار الزواج، وهو من يعلن دخول الشهر الكريم والعيد، ويعلن عن صلاة الخوف، وكذبك الأخبار العسكرية كإعلان الحرب وآخر أنبائها، فقد أذّن بلال مراراً ولم يكن وقت صلاة وإنما كان أذانه بمثابة دعوة للتجمهر في المسجد ليستمعوا آخر الأنباء، مع ملاحظة أن كلمة نبأ تتضمّن معنى (الخبر الصادق واليقيني)، ما يعني أنه في زمن رسول الله (ص) تمتّع الناس بالاستماع إلى الأنباء الصادقة، من مصدر موثوق، ومن مكان مقدّس، ولكلّ من ذلك دلالات تساعد في رسم معالم الإعلام الذي نريده للتأليف بين القلوب المختلفة.

كما أنه (ص) كان يختار أشجع أصحابه وأقواهم في الحق ليكون (الإعلامي) الذي يُكلَّف بالإعلان عمّا يهم المسلمين، ابتداء من تبليغ الرسالة كما في قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[14]، الأمر الذي تمثّل في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[15]، مروراً بالإعلان عن الأنباء المهمة، كإعلان البراءة من المشركين (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[16] حيث أصرّ رسول الله (ص) أن يعطي الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّار غير فرّار يفتح الله على يديه” فكان الإعلامي آنذاك بمثابة الرجل الثاني في المعركة بعد القائد، مقدام، شجاع، لا يخاف في الله لومة لائم، كما كان المؤذّن الرجل الثاني في الصلاة بعد الإمام.

إذن، كان المسجد – منارة الإسلام الأولى – محطة الرسول الإعلامية، وكان المؤذن، وحاملو راياته في الحروب، ورسله الشجعان الذين كان يبعثهم لدعوة ملوك وجبابرة أعتى الإمبراطوريات وأعظمها، كان هؤلاء كادره الإعلامي.

وبما أن الشعر كان أحد أهم الوسائل الإعلامية القديمة، وكان يُدسّ فيه الكثير من المفاهيم المراد ترسيخها في وجدان العامة، بعد أن تُنظم شعراً في سياق تصويري، بليغ، وموزون، وكان يُستخدم للبيان والتبليغ وكذلك للتضليل والتشويه والهجاء، وقد اعتنى العرب بشعرهم أيما اعتناء، وحرصوا على روايته وتناقله وذيوعه وحفظه، فما يكاد الشاعر يقول قصيدة حتى تذيع بين الناس دون أن يبذل جهداً في إذاعتها، حتى إذا ظهرت لا يستطيع أحد منع انتشارها وقد عبّر عن ذلك الشاعر الجاهلي عميرة بن جعبل الذي هجا قومه ثم ندم، ولكن هيهات، فقد سار بها الرواة في كل مكان:

ندمت على شتم العشيرة بعدمـــا           مضت واسـتتبت للرواة مذاهبـه

فأصبحت لا أستطيع دفعاً لما مضى            كما لا يرد الدرّ في الضرع حالبه

ومن الأدلة القوية على انتشار الشعر العربي بين الناس وتداوله عن طريق الرواة وانتقاله من مكان إلى آخر قول المسيب بن علس:

فلأهدين مع الرياح قصيدة               منّي مغلغلة إلى القعقـاع

ترد المياه فما تزال غريبة                في القوم بين تمثّل وسماع

لذا فقد وقف رسول الله (ص) بالمرصاد للشعراء الذين كانوا يغوون الناس، وكانوا يُستخدمون الشعر بمثابة إعلام مضاد لرسالته.

بعقد مقارنة سريعة بين مواصفات الإعلامي ودوره ورسالته في زمن رسول الله (ص) وبين أجهزتنا الإعلامية اليوم نستطيع أن نرى البون الشاسع بين ما كان عليه الإعلام من نزاهة وصدق، وما هو كائن بالفعل بعد تفريغه من محتواه وتحويله إلى وسيلة دجل وكذب وخداع، وقد تكون الآية الكريمة (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)[17]مصداقاً لما آل إليه حال أكثر الإعلاميين الذين يسترزقون بنشر الكذب وإشاعة الأقاويل بين الناس إما جرياً وراء سبق صحفي، أو تطبيلاً وتملّقاً لمتنفّذٍ مستبد، أو طلباً لشهرة إعلامية، أو للحصول على وسام عالمي، على حساب وحدة الأمة وسلامة أوطانها.

ومن هنا نستشرف معالم وسمات الإعلام النزيه الذي نريد أن نؤسّس له للتأليف بين أبناء الأمة، وللتحرّر من هيمنة “ماتريكس/منظومة” وسائل الإعلام العالمي الموجه ضدّ وحدة الأمة.

من سمات هذا الجهاز الإعلامي والعاملين فيه:

  1. النزاهة:

تكاد تكون النزاهة السمة الحاكمة والمهيمنة على السمات الأخرى التي يجب أن يتحلّى بها الإعلامي العامل في وسائل الإعلام المضادة للإعلام المحرِّض طائفياً، فعليه أولاً وقبل كل شيء أن ينفصل عن توجهاته وانتماءاته ليكون إعلامياً مبدئياً يتحيّز للحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة،  ورغم أن القائمين على هذا الإعلام على علم تامّ بخدع وأحابيل الإعلام الإمبريالي العالمي إلاّ أنهم يأبون أن يستخدموا تلك الأساليب في وسائلهم الإعلامية تمثلاً بالآية الكريمة (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)[18] فيتعرّف الإعلامي على أساليبهم لكشف وإحباط خططهم لا لإعادة إنتاجها وبيعها على الأمة في نسختها المعدّلة (!).

ويندرج تحت بند النزاهة جُلّ الأخلاق الإنسانية السامية من قبيل الصدق، الحيادية، توخّي الدقة في نقل الخبر، احترام الحقيقة والأمانة في نقلها، والحذر من ليّ الحقائق لصالح انتمائه أو افتراضاته المسبقة، بذل الجهد للوصول إلى الحقائق، والشجاعة وعدم الخوف من البوح بما توصّل إليه من نتائج .. إلخ.

  1. المبادرة:

بمعنى أنه لا ينتظر ما يأتي به العدو من تضليل إعلامي جديد ليردّ عليه بل يستشرف المستقبل، ويستبق الأحداث ليغتنم الفرص المتاحة لتوحيد الأمة في المناسبات المشتركة، وإفشال خطط المتربّصين بالأمة الدوائر في المناسبات ذات الخصوصية المذهبية قبل تنفيذها، والمبادرة لاستثمارها بصورة إيجابية لصالح التأليف بين القلوب.

  1. الوعي واليقّظة:

يعمل كالراصد الذي يرصد كل حركة تريد أن تعبث بوحدة الأمة، ويبطل أثرها قبل أن تستشري، ويوعّي الأمة بسبل تجاوز المشاحنات والنزاعات الطائفية ويعلمها كيف تقف على ثغور لحمتها وتآلفها، كما أنّه مطّلع على تجارب الأمم السالفة في حل الخلافات بينها ليستفيد من تجارب التاريخ، ولا يكرّر أخطاء السابقين، وشاهد على الأحداث، حذر، يتوخّى الدقة في نقل الخبر لعلمه بالآثار السلبية الوخيمة التي تنجم عن نشر الأراجيف.

  1. العلمية والموضوعية:

يعتمد أسلوب البحث العلمي، والدراسات الميدانية في رصد الظواهر الاجتماعية التي تعصف بوحدة الأمة، فلا يستقي معلوماته من تكهّنات الأعداء، ولا يطلق مشاريعه بناء على أراجيف ينشرها الإعلام الداخلي أو الخارجي الموجّه، بل لديه مصدر معلومات فاعل ودقيق ومستقل، فيمحّص الأخبار قبل نشرها وتناقلها.

  1. يخاطب عقل المستهدف:

بما أن هذا الإعلام يرفض كل أنواع التلاعب بالعقول وتضليلها، ويسعى لتغليب العقل لخلق مجتمع واعٍ على المستوى الفردي والجماعي، فخطابه بعمومه موجّه إلى عقل الفرد لا لعواطفه أو مشاعره، وهذا أكثر ما تعاني منه وسائلنا الإعلامية الآن التي تسعى لتأليب المشاعر لصالح قضية ما أو ضدّها.

  1. مؤمن برسالته:

لا يهاب أخطبوط الإعلام العالمي المتكالب على الأمة، ولا تطوّر تقنياته، وتنوّع أساليبه، وهيمنته، ولا يثبّطه حالة الضعف التي تمرّ بها الأمة، لأنه مؤمن برسالته، واثق من أنه مستمسك بالعروة الوثقى، مقتدٍ برسول الله (ص) الذي لم يهب قريشاً ولا محاولاتها المستميتة لتشويه سمعته والنيل منه، ولم يتنازل قيد أنملة عن حقّه في نشر رسالته رغم الصعوبات التي واجهته حتى أوصل رسالته إلى أبعد مدى يمكنه إيصالها .. إلى الفرس والروم.

  1. موجَّه لجميع شرائح المجتمع:

ويخاطب كلٌّ بما يناسبه، فهو للمثقف، والأمي، والعالم، والشاب، والكبير، والصغير، ويولي الأطفال والشباب اهتماماً خاصاً، فيستمع لطموح الشباب بشأن عزّة الأمة وقوّتها، ويناقش هواجسهم من التفرّق والتنازع، ويغرس في الأطفال معاني الحب، والتسامح، من خلال الأناشيد والأهازيج ذات الكلمات الهادفة، كما كان الأولون يستخدمون الأشعار، والأمثال والحكم لتثبيت الكثير من المفاهيم في أذهان أبنائهم التي لم تكن لتُحفظ لولا صياغتها بصورة أنشودة أو قصيدة شعرية، مستنداً في كل ذلك على النظريات العلمية في معرفة ما يناسب كل فئة، ولا يغفل أن يبث رسالته بلغات مختلفة مخاطباً بها أبناء الأمة الإسلامية عامة.

ثالثاً: اختراق المنافذ الإعلامية الموظّفة طائفياً:

هنا لابدّ من الإشارة إلى وسائل الإعلام المختلفة، وتحديداً المنافذ الإعلامية الأكثر توظيفاً للتحريض الطائفي لنختار لكل ثغرة منها ما يسدّها لمنع انتشار الرسائل الطائفية المغرضة منها، أو لنلقي بذرة للتآلف في كل مجال إعلامي موظّف طائفياً لإرجاعه إلى درب الوحدة أو للتخفيف من غلوائه، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

وسائل الإعلام كثيرة ومتنوعة، ولكنها تتفاوت في مستوى انتشارها وقدرتها على التأثير، ومدى مناسبة توظيفها لخدمة الفتنة الطائفية، فمن وسائل الإعلام المتوفّرة في مجتمعاتنا:

الإذاعة والتلفزيون:

الإذاعة والتلفزيون من أقدم وسائل الإعلام وربما من أوسعها انتشاراً، وأقواها تأثيراً لما توصلت إليه التقنيات الحديثة من تطّور غير مسبوق في عرض الفكرة أو الحدث بما يتناسب مع توجّه المموّلين لها والقائمين عليها. وقد تخصصت بعض الفضائيات مثل فضائية المستقلة بنَفَس طائفي فاضح فكانت تستضيف المتطّرفين من كل فريق لتحاورهم فتوقع بينهم بأسلوب استفزازي لتستخرج أسوأ ما لدى كل فريق تجاه الآخر، ولن يضاد هذا الإعلام الموجَّه للضرب على الوتر الطائفي إلاّ بإعداد لقاءات حوارية للمخلصين لفكر الوحدة والناذرين أنفسهم لنبذ الخلافات، وبصورة مستمرة فيتاح لأبناء الأمة أن تسمع رأياً مخالفاً للآراء الطائفية المفرِّقة.

الإنترنيت:

بات الانترنيت ينافس التلفزيون في سرعة انتشار المعلومة، إلى جانب أنه غير معرّض لمقصّ الرقيب. ونعني بالانترنيت كوسيلة إعلامية كل ما يُنشر على المواقع الالكترونية المختلفة وبالأخص المواقع الحوارية، والبريد الالكتروني، وهذه قد تكون الأسرع انتشاراً، والأخطر بسبب خاصية التخفّي المتوفّرة لمستخدمها فبإمكان أي متحاور أو مداخل في هذه المنتديات الالكترونية (وبالأخص الطائفية منها) أن يبث ما يشاء فيما يحلو له بلا رادع من خُلق أو دين مادام مجهول الهوية، فنلاحظ إن كلمات بعض المداخلين تّتسم بالتحدّي، والشعور بامتلاك الحقيقة، ويغلب على لغتهم الكثير من الابتذال والسوقية، مشحونة بنفس طائفي متشنج، فما يُنشر في هذه المواقع قد لا يجرؤ على البوح به على المنابر أو في الندوات العامة حيث يعرف المتحدثون بشخوصهم، وقد أصبحت هذه المنتديات بؤراً للتأجيج الطائفي المنفلت، وأحد المقترحات للتخفيف من حدّة منتديات التنفيس الطائفي هذه هو توفير مجموعة من العقلاء المصلحين للمشاركة في هذه المواقع لمحاولة توجيه هذه الحوارات الوجهة الصحيحة، فإذا لم يتمكن من إقناعهم بالمجادلة بالتي هي أحسن فلا أقل من التخفيف من حدّة الكلام أو من التشكيك فيما يُتراشق من اتهامات بين الطرفين دون الانحدار إلى السفاسف التي تتداول فيما بينهم.

الصحف اليومية:

تُعتبر الصحف اليومية أحد أوسع وسائل الإعلام انتشاراً، ولها جمهورها الخاص، ومجالها مفتوح لمن يريد أن يُدلي بدلوه مادام يملك قلماً ومساحة من الصحيفة ليعبّر فيها عن رأيه، فكم من حرب طائفية شهدتها الصحف المحلية بين المختلفين، وكم من تجاذبات مذهبية سطرّتها أقلام كتّاب الأعمدة اليومية والأسبوعية لصالح هذا التوجّه أو ذاك على حساب الوحدة الوطنية والإسلامية.  والحلّ الأمثل لتحييد الصحافة في مسألة التجييش الطائفي قد يكون في توقيع ميثاق شرف صحافي يتعاهد فيه حاملو الأقلام على الابتعاد عن كل ما يؤجج الطائفية أو يخلّ بالوحدة الوطنية، على أن تفرض بعض الإجراءات القانونية على من يخالف هذا الميثاق، ومن جهة أخرى من الحريّ بالأقلام المسئولة أن تملأ الفراغ الفكري للآراء المعتدلة، الموفِّقة بين الأطراف المختلفة.

أشرطة الفيديو، والكاسيت، والأقراص المدمجة:

تمتاز أشرطة الفيديو، والكاسيت، والأقراص المدمجة بسهولة تداولها وعدم وجود أي رقابة على ما يُنشر من خلالها، وقد لعبت دوراً كبيراً في نشر الأراجيف الطائفية وخاصة مع وجود البرامج المتطورة في معالجة الصورة والصوت وإخراجها بما تسوّل به نفس المخرج، وكل ما وجدناه في الساحة من هذه الأشرطة فهو تحريضي أفّاك، وفي المقابل لم نطّلع ولو على قرص مدمج واحد أو شريط فيديو يخدم الوحدة أو لا أقل يبين الجانب المشرق من العلاقات الأخوية التي تربط بعض الطوائف المختلفة ببعضها، وهنا دعوة للمتمكّنين من هذه الصناعة بمساعدة المهتمين بالوحدة الإسلامية للمساهمة في ملء هذا الفراغ.

الهاتف المحمول:

أصبح اليوم الهاتف المحمول وسيلة (إعلامية) سهلة ومتيسرة لمعظم الناس، وقد استغلّه مروّجو الفتن الطائفية أسوأ استغلال لأنه منتشر بين (العوام) الذين يمكن أن يُستفّز بعضهم برسالة نصيّة واحدة بحيث يكون مستعداً ليقلب الدنيا رأساً على عقب استجابة لرسالة نصيّة (Message) تجيّش عواطفه ضدّ أخوه المختلف عنه مذهبياً وإن كانت مجهولة المصدر، فما المانع من استخدام هذه التقنية من أجل توحيد أبناء الأمة بإرسال رسائل نصية تؤلّف بين القلوب؟

دور السينما:

تبقى السينما الأقل أثراً على موضوع الطائفية في الوقت الحاضر، فمع أنّ الماكنة الهولوليوديّة شوّهت الإسلام والعرب في مئات من أفلامها الصهيونية والمتطرّفة والعنصريّة المغرضة، إلاّ أن أبطال هوليود لم تتفتح قريحتهم بعد على هذا البعد الديني الطائفي (المربح)، وما أدرانا فلعّل هوليود بصدد إخراج فيلم سينمائي تراجيدي ليثبت للعالم أن العداء العرقي والطائفي المتجذّر بين أطياف الشعب العراقي (أو الباكستاني والأفغاني) هو أحد أهم مبررات احتلال هذه البلدان، وهو باقٍ هناك ليحول دون قيام حرب أهلية بين السنة والشيعة (!!).  أما إنتاج الدول الإسلامية من أفلام تخفّف من التوتر الطائفي فلم نسمع به حتى الآن، فهلاّ بادر المصلحون واغتنموا هذه الفرصة.

المسرح:

مع أهمية المسرح في إيصال الرسائل الإعلامية الموحِّدة والمقرِّبة بين للناس وذلك لمحاكاته لواقعهم، وشعبيته وربما انخفاض تكلفته نسبة إلى وسائل الإعلام الأخرى كالتلفزيون أو السينما المحتكرة من قبل الحكومات أو هوليود إلاّ أنه بقى من المساحات التي لم تُطأ بعد لخدمة الوحدة الإسلامية.

المؤتمرات الإقليمية والعالمية:

وللمثقفين والنخب نصيبهم من وسائل الإعلام العلمية وذات الطابع الفكري كالمؤتمرات الإقليمية والعالمية التي كان بعضها بحق مجامع علمية راقية لولا أن معظم توصياتها بقيت حبراً على ورق ربما لكونها تنظيرية أو غير واقعية، أو لعدم قدرة القائمين عليها على تجاوز معيقاتها بوجود تحدّيات خارجية تحول دون تحقيق الوحدة.

الكتب والمجلات:

ولا أدري إن كان يصح القول أنه من حسن الحظ أن الكتب الفكرية والثقافية نأت بنفسها عن أن تصبح مادة إعلانية، ربما لخلوّها من الجانب الترفيهي المستقطب لاهتمام أكثر الناس، فرغم وجود بعض الكتب الطائفية إلاّ أنها لا تشكّل خطراً كبيراً لقلة قرّائها، ومع ذلك فلم تسلم بعض الكتب القيمة التي وثّقت الحوارات الفكرية والعقائدية بين علماء السنة والشيعة مثل كتاب “المراجعات” من سوء الاستغلال من قبل المروّجين للطائفية بالنبش فيها وإعادة إنتاجها بما يغذي الاصطفاف الطائفي البغيض، كما طُمست كل المحاولات العلمية الجادة من علماء سابقين لتوحيد الأمة، مثل مجلة العروة الوثقى التي أصدرها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وغيرها.  بصورة عامة فالكتب لا تُعد وسيلة إعلامية فاعلة، فلو شئنا استثمارها في هذا المجال فلابد من إصدار كتيّبات سريعة القراءة، خفيفة المادة، مشوّقة في إخراجها لتجذب إليها بعض القرّاء.

المساجد والمنابر:

وأما رجال الدين وأتباعهم من المتديّنين فلهم حصة الأسد من وسائل الإعلام، لأنهم احتفظوا بوسائل الإعلام التقليدية (المساجد والمآتم) ذات القدسية العقائدية، واستفادوا من التطور التكنولوجي لنشر وتوزيع وتكثير محاضراتهم، وفتاواهم، وخطبهم، وأشرطة الفيديو الخاصة بهم. فالمساجد، والمآتم، والمنابر، وغيرها من أماكن وأزمنة مقدسة تُعتبر وسائل إعلامية جماهيرية واسعة، ويكاد تأثيرها يكون مطلقاً على مرتاديها، لأنها تنطق باسم المقدّس، الذي يهب ويحرم الجنة والنار نيابة عن الله، فهو الحاكم بأمر الله (!) ولا نبالغ لو قلنا أنها الأمضى أثراً على قضايا الطائفية.

وقد يكون هذا المعقل هو أكثر الوسائل الإعلامية الجماهيرية تحصّنا وأصعبها اختراقاً لارتباطه بوجدان الأمة الديني، ولهيمنة العقل الجمعي على أفراده، فأنجع الحلول هنا هو بثّ الوعي لدى أفراد المجتمع ليتمكنوا من تقييم ما يصل إليهم من أخبار ومعلومات بشأن الطوائف الأخرى فيتصرّفوا باستقلالية ودراية أوافق شيخه أو لم يوافق.

كان هذا رصد سريع لأكثر وسائل الإعلام المنتشرة وما يتطلّب منا القيام به في كل مجال لتصحيح المسار حيناً، أو التخفيف من آثار التطرّف الطائفي حيناً آخر، فيما يُطلق عليه بلغة التكنولوجيا “زرع برنامج” مضاد لدعاوى الفرقة في كل بؤرة إعلامية من بؤر تفريخ الطائفية.

الخاتمة:

عندما ينتبه المرء إلى أنه قد أصبح مجرد ترس في آلة عدوّه وإن هو إلاّ جزء من أجهزته الإعلامية التي تشكّل مشاعره وأفكاره وذوقه وولائه وانتمائه وثباته وحركته وحبّه وبغضه وأنها باتت تتلاعب به كما تريد، يصبح همّه وحلمه الوحيد هو أن يكون سيد نفسه والحرّ في حياته، وعليه فإن الإعلام الذي نريد هو:

  • الإعلام القادر على أن يرفع مستوى وعي الأمة بأهمية توحّدها، وخطورة تفرّقها، وضرورة العودة إلى قيمها الإنسانية التي تساعد على إعادة اللحمة بين أبنائها.
  • الإعلام المستقل والنزيه والمحترِم للعقول.
  • الإعلام الفاضح لشتى أنواع التضليل الممارَس على الأمة.
  • الإعلام الذي يسدّ الفراغ الوثائقي والتثقيفي والترفيهي فيما له علاقة بوحدة الأمة فيوظف جُلّ طاقته وطاقمه لإعداد أفلام وثائقية تلتزم (الصدق) فيما تنشر عن الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، ويخرج أفلاماً ومسلسلات تركّز على الجوانب الإيجابية من التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة.
  • الإعلام الذي يولي نظم الشعر والقصائد الموحِّدة اهتماماً خاصاً فيُنتج كمّاً هائلاً من الأغاني والأناشيد (للكبار والصغار) تدعو لمعاني التسامح، والمحبة، والوحدة بكلمات راقية وإخراج بديع بحيث يمكنه منافسة ما يُنشر على الناس من فن مبتذل.

وأخيراً، وبعد أن تحوّل رجال الإعلام من باعة أوهام إلى ساسة عقول مذهبية وطائفية يحدّدون المعتقد والسلوك العام الذي يجب أن يكون عليه أبناء الأمة كقدر منزّل عليهم، كان من المحتّم على مصلحي هذه الأمة أن يتكاتفوا لإعادة الأمور إلى نصابها لتأخذ “وسائل الإعلام والاتصال” دورها الطبيعي وهما (إعلام) و(اتّصال) لتحقّق الهدف الذي من أجله وجدت من تعارف بين الأمم، وتعريف بوجهات النظر، وانفتاح على ثقافة الآخر وعلومه وحضارته وعاداته وتقاليده، ليؤدّي هذا (الإعلام) النظيف إلى (اتصال) وتواصل إنساني محليّ وإقليمي وعالمي يساهم في نشر السلام بالمحبة والوئام.

باختصار شديد وعوداً على بدء، إعلامنا القادم يتحرّك على خطّين متوازيين: التخلية، وذلك بكشف وسائل التضليل الإعلامي الداخلي والخارجي لتحصين أبناء الأمة ضدّ أي اختراق لوحدتها الإسلامية، والتحلية بتأسيس إعلام واعي ونزيه قائم على نشر الفضائل الإنسانية التي تبث روح التآزر والتآخي بين أبناء الأمة لتعود كما وصفها رسول الله (ص) كالجسد الواحد.

التوصيات:

نوصي الجهات المشاركة في هذا المؤتمر أن تتبنى فكرة إطلاق فضائية (لا طائفية) تترجم التوصيات التي جاء بها المشاركون في هذا المؤتمر على أرض الواقع، وتفعّل ما نادى به المصلحون من أفكار واقتراحات لتوحيد الأمة، باستضافة العلماء والمفكرين الذين يحملون هذا الهمّ، وإعداد برامج لتعريف الأمة بإسلام بلا طوائف، وإعداد وبثّ أناشيد وأغاني للكبار والصغار عن الوحدة، وإخراج أفلام كرتون، وقصص للأطفال تبثّ فيهم روح الأخوة والمحبة والسلام، وتنسف كل ما علق بعقولهم من أثر الشحن الطائفي الإعلامي أو الأسري أو المدرسي الممارس عليهم على مدى عقود مضت، والسلام ..

[1] – أستاذ علم اللغويات والفلسفة بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا.

[2] – في مقابلة للصحفي دانيال ميرمي مع المفكّر الأمريكي نعومي تشومسكي في Le Monde diplomatique

[3] – المصدر السابق

[4] – www.ColumbinePaintball.com

[5] – صلاح نصر-الحرب النفسية – معركة الكلمة والمعتقد-الجزء الأول-ص 92.

[6] – (البقرة:98)

[7] – http://arabic-media.com/newspapers/europe/bbc_arabic1.htm

[8] – http://arabic.cnn.com/2006/middle_east/10/20/IRAQ.amarah/index.html

[9] –  http://www.albasrah.net/maqalat_mukhtara/arabic/0704/samir_310704.htm

[10] – www.almawsil.com/vb/showthread.php?t=14646 – 94k

[11] –  http://www.walaasohar.net/vb/showthread.php?t=684

[12] – (الأنعام:159)

[13] – (الأنعام: من الآية164)

[14] – (الحجر:94)

[15] – (المائدة: من الآية67)

[16] – (التوبة:1)

[17] – (الواقعة:82)

[18] – (هود: من الآية88)

استجابات