معالجة الخلاف بين الشيعة والسنة، بالعودة للجذور أم بتجاوز الماضي؟

الشيخ صلاح الجودر

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

 بسم الله الرحمن الرحيم

  • الأمة الإسلامية وفقه الواقع.
  • (حتى يغيروا ما بأنفسهم).
  • معالجة الخلاف بالعودة للجذور أم بتجاوز الماضي؟.
  • (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك).
  • من يجدد هذا الدين؟.

مقدمة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد،

توحيد الكلمة، وتوحيد الموقف، وتوحيد الصف، ونبذ الخلاف والشقاق والنفور في أمة محمد هدفنا وغايتنا لذا بداية أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لجمعية التجديد الثقافية والاجتماعية على جهودها الخيرة في إقامة مؤتمر(الوحدة الإسلامية وديعة محمد ).

أمتنا الإسلامية تشهد في هذا المنعطف التاريخي الخطير إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشئوم حالة من الخلاف والشقاق والانقسام، قد تتراء في بدايتها أنها أدواء وأسقام لا يمكن معالجتها أو التخفيف من حدتها، ولكن من بشائر نبي الأمة محمد أنه قال:(ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه الدواء)، لذا فإن أمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة لمثل تلك المعالجات والتشخيصات المتمثلة في المؤتمرات واللقاءات والحوارات لإشاعة ثقافة الاعتصام والوحدة والتعاون والإتلاف والتسامح والمحبة والتعايش والمصالح المشتركة، والسعي لبناء السدود المنيعة، والسواتر العالية في وجه أدواء العصر، التطرف والغلو والعنف، وتصحيح مفاهيم التكفير والجهاد والتعصب المذهبي والطائفي التي أخذت بإغواء شباب الأمة وناشئتها ودفعتهم في أتون صراعات مدمرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

الأمة الإسلامية اليوم تشهد حالة من الصراع الفكري الخطير، صراع يستمد قوته من بعض الصور التاريخية المأزومة وبعض الحوادث المسمومة في المحيط الإقليمي، فيتم من خلالها تشويه صورة أمة الإسلام ورموزها وقادتها وأعلامها، حين تصور على أنها كيانين في كيان واحد، يستعدي بعضهم بعضا، مع أنها أمة الخيرية الموعودة بتمكين الله لها.

أولا: الأمة الإسلامية وفقه الواقع

إن القراءة الواعية المتأنية لواقع الأمة الإسلامية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشئوم ترشد عن وجود سموم وأدواء بدأت تسري في الساحات وتنتشر في جسد الأمة، حتى بلغ في بعض صورها إلى موجات فرز واصطفاف تبنتها عقول شباب وناشئة الأمة من خلال المنتديات والمواقع الالكترونية، فتحولت تلك العقول إلى ألغامٍ ناسفة في طريق البناء والتطور، فاشغلت الأمة عن دورها الريادي(لتكونوا شهداءَ على الناس) [البقرة: 143]، وانشغلت الأمة بمعالجة تلك الأدواء التي جاءت في لبوس دينية، والدين منها براء، وامتدت حتى تطاولت على ولاة الأمر من حكام وعلماء ومفكرين ومبدعين وأصحاب رأي، واستباحة الدماء البريئة من نساء وأطفال وشيوخ لا ذنب لهم ولا جريرة.

إن الأمة التي جعلها المولى تبارك وتعالى أمة الاعتدال والوسطية(وكذلك جعلناكم أمةً وسطا) [البقرة:143]، هي الأمة التي تتمسك بأصولها وثوابتها وتراثها الأصيل، وتسعى في الوقت ذاته لمواكبة متطلبات العصر بتجديد خطابها الديني، هذه الأمة في مراجعة دائمة وتقييم مستمر لكل المواقف والأحداث، وعلى جميع الأصعدة والمستويات، الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها، فهي أمة الاستخلاف في الأرض(وإذا قال ربُك للملائكةِ إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة) [البقرة:30]، فحملت هذه الأمة رسالة التبليغ حينما تمسكت بمبادئها وأسسها وأخلاقها.

إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت                    فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالمراجعة والتقييم ونقد الذات هي أسس هذه الأمة، تستنفر من خلالها جميع مكوناتها وأجهزتها، فتبحث عن الخلل، وتنظر في الخطأ، وتقف عند العطب، وتشخص كل حالة بذاتها، المرض وأعراضه، والداء ومسبباته، والسقم وكيفية علاجه، شراكة مجتمعية شاملة، يتعاون فيها العالم والخطيب والمربي ورجل الأمن والإعلامي والاجتماعي، لوضع اليد على الجرح، والوصول إلى العظم، علاجات قائمة على المحاورة والمكاشفة والتشاور، قال تعالى (وشاورهُم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكل على الله) [آل عمران:159]، حتى لا تتصدع الجدران، وتسقط الأعمدة، وينهار البنيان على ساكنيه، بسبب خطأ من فرد، أو سوء سلوك من جماعة، فهذه الأمة مطالبة بمعالجة أخطاءها بنفسها، وإصلاح كيانها من داخلها، فهي تتداعى من أجل عضو واحد، (إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)مسلم.

لذا فإن عملية الإصلاح المنشودة لا تأتي إلا بقلوب مؤمنة بالأمن والاستقرار والتعايش والسلم والتعددية واحترام العقول والأفكار، فالأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى مراجعة وتقييم مواقفها، لا من أجل بقاءها واستمراريتها فهي محفوظة بحفظ الله لها لتمسكها بدينها(وعد اللهُ الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحاتِ ليستخلفنهم في الأرض) [النور: 55]، ولكن من أجل البشرية التي حملها الله أمانة تبليغ الرسالة وأداء الأمانة( إنا عرضنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسانُ إنه كان ظلوماً جهولاً) [الأحزاب: 72]، هذه الأمانة لا يمكن أن يقوم بها إلا أتباع النبي محمد (كنتم خير أمةٍ أخرجت للناسِ تأمرون بالمعروفِ وتنهون عن المنكرِ وتؤمنون بالله) [آل عمران: 104]، من هنا جاءت أهمية هذه اللقاءات والحوارات لتعزيز هذه المفاهيم وإصلاح حال الأمة وتجديد خطابها من لوثات العصر وسموم القرن، الإرهاب والتكفير والطائفية والتطرف والغلو.

ثانياً: (حتى يغيروا ما بأنفسهم)

لا يخفى على أحد حال الأمة اليوم، مآسي بكل المقاييس، وآلام ومصائب بكل المعايير، وما جاءت تلك الأدواء والأسقام إلا حينما تم التغاضي عن مفاهيم الكراهية والبغضاء التي سرت في جوانب هذه الأمة وانتشرت في ساحاتها، فظهرت بالساحة في أبشع صورها وأكثرها اشمئزازاً حينما تبنى شباب الأمة وناشئتها تلك الأسقام والسموم(التكفير والطائفية)، فتم سفك الدماء البريئة، وانتهاك الأعراض المصونة، وسلب الممتلكات المحفوظة، والتعدي على ولاة الأمر والعلماء، تكفيراً وتفسيقاً وتبديعاً، وإشاعة الخوف في الساحات والنفوس، وتم فرز المجتمعات الإسلامية (مذهبياً وطائفياً وعرقياً)، جميعها جاءت بدعوى الإصلاح والدفاع عن حياض الأمة.

لقد تحول الاختلاف المذهبي والفكري في الكثير من الساحات إلى تعصب وغلو وتطرف بغيض، مع أن المولى قد خاطب البشرية جمعاء بأنهم من جسد واحد (يا أيها الناس اتقوا ربكُمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) [النساء: 1]، وقد جاء التكريم للجنس البشري (فإذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [الحجر: 29] وقوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) [الإسراء: 70]، لقد شهدت مجتمعاتنا الإسلامية في الفترة الأخيرة تحولات كبيرة في نمط العلاقة بين الناس، مسلمين وغير مسلمين، وسنة وشيعة، وعرباً وعجماً، فظهرت صور الخلاف والنفور والتباعد على الساحة، وبدأت المتناقضات بين الأديان والمذاهب.

فالمتابع للأحداث الأخيرة في المنطقة يلحظ وبشكل كبير أن هناك أيدي خفية تشعل النار في أرجاء الأمة، دون استثناء، فتبث الخلاف والشقاق بين الطوائف والمذاهب، وتحاول إفساد العلاقة بين الحاكم والمحكومين، حتى خرجت علينا فرق التكفير والطائفية والتخريب والتدمير، وجميعها تتخفى خلف دعاوى الإصلاح وحب الخير للأمة، وما كل ذلك إلا من أجل خلخلة الأمن ونشر الفوضى وتمزيق أوصال الأمة، فسرى في تلك المجتمعات نظرية المؤامرة، وأن كل طائفة تسعى لإقصاء الطائفة الأخرى، ومن تلك السموم:

أولاً: الفكر التكفيري، لقد سعى هذا الفكر ومنذ ما يقارب الثلاثين عاماً إلى التغلغل في عقول الشباب والناشئة، وغسل أدمغتهم بتلك السموم، تكفير الحكام، ولعن العلماء، والخروج عن طاعة الوالدين، وإنكار المنكر دون الضوابط الشرعية، وفرز المجتمعات إلى مؤمنين وغير مؤمنين، حتى تحول بعض الشاب والناشئ إلى أداة طيعة في أيدي مروجي الفكر التكفيري لتمرير أجندتهم التدميرية في المنطقة، وأجمل وصف لهذه السموم هي التي وصفها إمام الحرم المكي بأنها: (قرن الخلاف والتناحر الفكري).

في السنوات الماضية تم الترويج من خلال الفضائيات والمواقع الالكترونية عن أوصاف ونعوت كريهة اقتبست من كتب السير والتاريخ، وما تلك إلا من أجل برمجة العقول العربية لتدويل النموذج العراقي على بقية المجتمعات، وتمثل ذلك في تدمير المرقدين وهدم المساجد وقتل الأئمة ورجال الدين والمفكرين والعلماء وتفجير الأسواق والمدارس من أجل زرع المزيد من الفتن بين أبناء الشعب الواحد، سنة وشيعة، من هنا جاءت الحاجة لتنظيم مثل هذه الفعاليات والمؤتمرات لمحاولة الخروج من نفق التكفير المظلم، ودراسة الظاهرة بكل أبعادها.

ثانياً: الفكر الطائفي، لقد شهدت الساحة في الفترة الماضية الكثير من الممارسات الطائفية، يافطات وأشرطة وكتب ومنشورات وخطب وتأجيج في المنتديات الالكترونية وغيرها، حتى بلغت ساحات التعليم ومراكز الشباب، وبلغ الأمر بأن يسأل أحد الطلبة معلمه: هل أنت سني أو شيعي؟، فمن المسئول عن هذه الثقافة؟، ومن المستفيد من هذا الفرز والاصطفاف؟.

لقد حان الوقت لنتساءل جميعاً، لو أننا تركنا الطائفيين في الساحة للقيام بمخططاتهم وأجندتهم الخارجية فما مصير الأبرياء (غير الطائفيين)؟، وما حجم الخسائر التي سيتكبدها الوطن بعد أن يتم تقسيمه على أسس طائفية أو مذهبية؟.

إن الأمة التي تسعى لتوحيد الصف ولم الشمل هي التي تبتعد عن نظرية المؤامرة وثقافة التشكيك بالآخرين، فتبحث لنفسها عن مكانة في هذا العالم الكبيرة حينما تتحدث عن التقارب والتعاون والنهضة والتقدم، ولا تتأتى تلك المفاهيم إلا حينما تتحرر الأمة من أحقاد الماضي التي كرست الفروقات المذهبية والصراعات الطائفية، حتى أصبحت كل فرقة ترى نفسها أنها هي الفرقة الناجية!!.

سؤال يتكرر دائماً، هل الطائفي هو الذي ينتمي لمذهب معين؟، بمعنى هل كل سني هو طائفي؟، أم كل شيعي هو طائفي؟.

إن المتمسك بدين معين أو فكر معين أو مذهب معين لا يعتبر متعصباً، فالسني أو الشيعي المتمسك بمذهبه ليس طائفياً، إنما الطائفي هو الذي يتعصب لطائفته فيلغي الآخر وينفيه ويقصيه بل ويحاربه. والطائفية هي نقيض أي مشروع وطني، فهي الأحادية في التصور وحب الذات، وترفض المساواة في الحقوق والواجبات، فهي لا ترى إلا نفسها ولا تتحدث إلا عن طائفتها، الطائفة لا تأكل، لا تسكن، لا تعمل؟، فليس للطائفيين سوى الحديث عن الطائفة، أما باقي شركاء الوطن فهم في النار وبئس المصير!!.

ثالثاً: معالجة الخلاف بالعودة للجذور أم بتجاوز الماضي؟

إن من المحزن حقاً أن يرى الفرد منا رويبضة العصر وأنصاف العلماء وهم يشتغلون بحثاً في تاريخ الفرق والمذاهب، لا من أجل أخذ الدروس والعبر، ولكن من أجل تأكيد مزاعمهم بأن هذه الأمة هي أمة الخلاف والشقاق والتعصب، فترهم يفرحون أشد الفرح حينما يقفون عند صور القتال والنزاع الذي وقع في الأمة من بعد معركة صفين.

إن من النصح والأمانة أن يعاد قراءة التاريخ والتوقف عند روايات التكفير والطعن والسب التي امتلأت بها كتب المتعصبين في كلا المذهبين، يجب على الأمة إن أرادت تصحيح مسارها وتجديد خطابها أن تنقب في تاريخها وتلغي روايات الطعن والسب التي نالت من آل بيت النبي وصحبه، احتقارا وانتقاصاً، فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى. يجب إعادة قراءة تلك الروايات المسمومة التي لم تزد الأمة سوى فرقة وشتاتاً، فيتم رفضها وإلغاءها، وبِدء صفحة من تاريخ الأمة المشرق المليء بالحب المتبادل بين الصحابة وآل بيت النبي .

تلك الصفحات المضيئة بصور التواد والتحابب بين صحابة رسول الله وآل بيته الأطهار التي يرفض الطائفيون والتكفيريون على حد سواء ذكرها أو التطرق إليها في مجالسهم ونواديهم، فهذا أبو بكرٍ يقولُ في آل بيت النبي : (ارقُبوا محمدا في أهل بيته). وهذا الفاروق عمر يقول في الإمام علي: (لولا علي لهلك عمر، ولا مكان لابن الخطاب في أرض ليس فيها ابن أبي طالب). أما علي فوقف على رأس عمر بعد وفاته قائلً بعد أن ترحم عليه: (ما خلفتُ أحدا أحب إليَ أن ألقى الله بمثل عمَله منك، وايمُ اللهِ إن كنتُ لأظن أن يجعلكَ الله مع صاحبَيك).

لم يقِف الإعجابُ والحب والمودَةُ هنا، ولكنهم سجلوا لنا من الأفعالِ والسلوكِ ما يُتَغنَى به، وأقرءوا إن شئتم سيرهم وكيف أن النسب والمصاهرة قد ربطتهم، كله تجسيد للمودة وأخوة الدين. بمثل هذا التصوير يمكننا تفهم تلك المرحلة الذهبية، وكيف استطاع الجيل الأول من إشاعة ثقافةِ التسامُح والقَبول المتبادَلِ واحترام الآخر.
إن الإسلام بريء من ثقافة الخلاف والفرقة والشتات، ونبي هذه الأمة بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فاليهود والنصارى حين تفرقواً أنزل الله فيهم (إِنَ الذِينَ فرَقُواْ دِينهُم وَكَانُواْ شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيء)[الأنعام: 159]. وتقول أم سلمة في هذه الآية بأن رسول الله بريء من أولئك الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً.

لقد ألف الله برسول الله بين الأوس والخزرج الذين كانت الحرب بينهم عشرين ومائة سنة، حتى أطفأ الله نار العداوة والبغضاء، قال تعالى: (وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103]، وقال للمهاجرين والأنصار حينما اختلفوا (دعوها فإنها منتنة).

لقد رفض أئمة الهدى من آل بيت النبي والصحابة الخلاف والشقاق، قال عمرُ:(لا تختلفوا، فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا). وقال عليٌ: (اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكرهُ الخلاف). وقال أبو الدرداء: خرج علينا رسولُ اللهِ ونحن نتنازعُ في شيء من الدينِ، فغضِب غضبًا شديدًا لم يغضبَ مثله، قال: ثم انتهرنا، قال: (يا أمةَ محمد، لا تُهيجوا على أنُفسكم وهج النار).

رابعاً: (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)

إن تاريخنا الإسلامي كان مليئاً بالنزاعات الطائفية والمذهبية والقبلية التي أثرت في جسد الأمة، وكانت في أغلبها بأيدي خارجية تلاعبت بمقدرات وعقول الأمة التي كانت تغذي عقول الشباب والناشئة من أجل أحداث شرخ في هذه الأمة، ولعل من أبرز تلك الصراعات هي التي تميزت بالتعصب المذهبي والطائفي، الذي سعى لإلغاء الآخر أو إقصائه أو نفيه، أما اختلاف المذاهب والأفكار والتوجهات فهذه جميعها كانت حالات طبيعية ما لم يرافقها نوع من التعصب أو الاستبداد أو الإرهاب، وفي كل مرة تخرج الأمة من الفتن والمحن بمزيد من القوة والصلابة، والتاريخ يشهد لها هذا التفوق.

يبقى الخلاف السني الشيعي هو الذي أستطاع أعداء الأمة النفوذ منه، وقد اجتهد علماء الأمة في فترات من التاريخ إلى إذابة الجليد، وتوحيد الجهود، وتقريب المذاهب الإسلامية، حتى تكللت تلك الجهود بتأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم جاءت مؤتمرات التقريب والتي حظيت البحرين بشرف تنظيمها، ويبقى الأمل معقود على علماء الأمة في إنجاح تلك المؤتمرات والخروج بتوصيات تتجاوز معها الأمة معاناة الفرقة والخلاف، وتفشل مؤامرات الأعداء في تمزيقها وتشتيتها وإعادة رسم خارطتها.

الاختلاف بين البشر أمر قدري، قال تعالى (ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدً) [المائدة: 48] فمن المستحيل جمع الناس على دين واحد، أو مذهب واحد، أو فكر واحد، وأرشد النبي بأن هذه الأمة ستختلف إلى بضع وسبعون فرقة، فالاختلاف واقع في هذه الأمة لا محالة، ولكن يبقى الأمر الشرعي لهذه الأمة بالاعتصام (واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران: 103].

فالاختلاف الذي وقع بين علماء الأمة في جيلها الأول وقرونها المفضلة ليس بمعنى التباين والتعارض والتضاد، ولكنها كان اختلافا بشريا اجتهاديا، للمصيب فيه أجران، لذا كان النبي يؤكد على الاستواء وعدم الاختلاف: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم).

لعل من شواهد التاريخ في معالجة الاختلافات المذهبية هو ما وقع بين أتباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية، حيث كانت بينهم صراعات طويلة، وجاءت محاولات التقريب بينهم ولكنها باءت بالفشل، مما حدا بالمتعصبين من كلا المذهبين إلى الرقص على أنغام هذا الاختلاف وذلك الصدام، ولكن أوربا التي تسعى للتوحد والعمل المشترك رأت أن لا مخرج لها في هذا العالم المتكتل سوى إشاعة مفهوم التعايش السلمي والأمن الاجتماعي بين مختلف الطوائف والعقائد، وهكذا أوقفوا شلال الدماء بينهم.

فالتعايش السلمي والاجتماعي يعني أن لا يتعرض أحد لأصول ومعتقدات الفرق الأخرى، أو يفرض وصايته عليهم، مع الالتزام بالقانون العام والمحافظة على وحدة الوطن الذي يشترك الجميع في العيش تحت ظله، ولنا في الإسلام نماذج لذلك التعايش، قال تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دونِ الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) [الأنعام: 108]، لذا يجب قطع دابر النعرات الطائفية أو السموم التكفيرية بإشاعة التعايش فكراً وفهماً، فلا خلاص لأبناء هذا الوطن إلا بإحلال مفاهيم التعايش.

قال تعالى: (إن هذه أمتُكُم أمةً واحدةً وأنا ربُكم فاعبدون) [الأنبياء: 92]، وقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران103]، وقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم) [الأنفال: 46]، بهذه التوجيهات الربانية نجد بأن التعايش السلمي هو الخيار الوحيد لأمن الوطن واستقرار المجتمع، ولا يتحقق ذلك إلا بالمساواة في الحقوق والواجبات، والاحترام المتبادل بين المذاهب والطوائف، والتصدي للفكر التكفيري والطائفي في كلا الطرفين.
من هذا المؤتمر أدعو أخواني من السنة بالتصدي لمن يحاول من أبناءهم تعكير الأمن والاستقرار في هذا الوطن، وأدعو كذلك أخواني من الشيعة بالأخذ على أيدي أبناءهم ممن يحاول تعكير الأمن والاستقرار في هذا الوطن، فالجميع سنة وشيعة هم أبناء أمة واحدة، رباً، وكتاباً، ونبيناً، وقبلة، أضف إلى ذلك أنهم أبناء وطن واحد.
يجب إيقاف فتاوى التكفير وخطابات التحريض ضد الآخرين، والسير على هدي نبي الأمة المخاطب من رب العزة: (أدعُ إلى سبيلِ ربِك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن) [الإسراء: 125]، وأن نستذكر قوله تعالى: (لئن بَسطتَ إلي يدكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليكَ لأقتلكَ إني أخافُ اللهَ ربَ العالمين) [المائدة: 28].

خامساً: من يجدد هذا الدين؟

إن الخطر المحيط بهذه الأمة وأبناءها وناشئتها هو خطر التكفير والطائفية، لذا فإن الأمة اليوم مدعوة للنظر في مسببات هذه الداء، والبحث عن وسائل علاجه، فالطائفية هي نقيض الوحدة الوطنية، والتكفير هو عدو التعايش والتسامح، فلا يستمر أي مشروع إصلاحي – في أي وطن- تتواجد فيه مثل هذه الأدواء (التكفير والطائفية)، فكلاهما يعني الأحادية في التصور وحب الذات ورفض المساواة في الحقوق والواجبات.

هذه الأدواء التي تبدأ بالظهور في المناطق المتأزمة أمنياً واجتماعياً، حيث يستفد مروجو تلك السموم من تلك الحالات، فتلك الأدواء لا علاقة لها بمبادئ الأديان والطوائف، ولكنها تتخفى خلف هذه المفاهيم، فتزرع الفتن والأحقاد والخصومات بين أبناء الوطن الواحد. الغريب في الأمر أن هذه الأدواء والسموم تسري في التجمعات وتنطلي على المغفلين من البشر، إذا كيف يمكن تفهم أطروحات المتعصبين مذهبياً وفكرياً برفضهم الآخر المختلف في الوقت الذي نراهم في المحافل العامة والخاصة، فإذا كان التكفيري أو الطائفي يرفض الآخر فلماذا يتواجد معه في الدراسة والعمل والمستشفيات والأندية والأسواق، فالفرد الذي يرفع هذه الشعارات كيف له أن يقبل أن يزور ويعمل ويأكل مع المختلفين معه.

لذا فإن هناك مفارقة كبيرة، وهي هل ثم جريمة أكبر من أن يستولي فرد على حقوق سائر المواطنين، فيتعدى على ساحاتهم، ويسلب راحتهم، ويمارس حريته على حساب حرياتهم، ثم يعترض لممارسة الآخرين حينما يتعدون على حريته وراحته، فهل ثمة مفارقة أعظم من ذلك؟.

إن حاجتنا اليوم لتجديد الخطاب الإسلامي بما يحفظ الأصل ويواكب متطلبات العصر، فيشيع في المجتمع مفهوم التعايش المشترك، والسلم الأهلي والاجتماعي، والتسامح الأخلاقي، ويوسع دائرة المتفق عليه بين شرائح المجتمع، كما قال الأمام محمد رشيد رضا(نعمل فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) بهذه المفاهيم يمكننا تجاوز هذا المنعطف الخطير الذي تعيشه أمتنا.

حاجتنا اليوم أن نقتنع بأننا سنة وشيعة بنيان الإسلام، ولا يمكن أن يتخلى أحد عن الآخر، فالمراقب للساحة الإقليمية يرى أن المنطقة تزداد سواءً وتعقيداً، وأننا هنا في هذا الوطن أبتلينا كغيرنا بحالات التشكيك والتخوين ضد الآخرين، فالعلاج لا يبدأ بتوجيه الخطابات الجماهيرية في الوقت الذي تتجاهل فيه النخب نقد ذاتها، وأعجبني كثيراً قبل سنوات مقترح النائب السلفي الشيخ علي مطر حينما تطرق إلى (وضع برنامج عمل كنواة لمشروع وطني يستهدف تعزيز التحركات الداعية إلى الوحدة ونبذ الطائفية، وإلى إقامة موسم سنوي لتعزيز مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية والتعايش) هذا مقتطف من تصريح النائب السلفي الشيخ علي مطر.

السؤال الأخير

يبقى سؤال أخير هو كيف يمكننا أن نقيم وحدتنا ونحن في هذا التباين:

  • هل نقيمها على أساس اللغة؟ اللغة لا تكفي إذ سيخرج الأعجمي.
  • أم على أساس الجنس؟ والجنس لا يكفي لأن الناس جميعاً من آدم وآدم من تراب.
  • هل على أساس المذهب والطائفة؟، وهذا لا يكفي إذا الناس سيختلفون ويتفرقون.

إذا على ماذا نتوحد؟

  • نتوحد على الإسلام (صِبغةَ ٱللَهِ ومن أحسنُ منَ ٱللَه صِبغةً ونَحنُ لهُ عابِدونَ) [البقرة: 138]، فلا عصبية ولا مذهبية ولا طائفية.
  • نتوحد تحت خالق واحد (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالقُ كلِ شيءٍ فاعبدوه) [الأنعام: 102].
  • نتوحد مع رسول واحد (مُحمد رَسولُ اللهِ ( [الفتح: 29] .
  • نتوحد بدين واحد (ومن يبتغِ غَيرَ ٱلإسلامِ دِينًا فلن يُقبلَ منه ([آل عمران: 85].
  • نتوحد ونتمسك بكتاب واحد (إِنَ هذا القرءانَ يِهدى لِلَتي هي أقوَمُ) [الإسراء: 9].
  • نتوحد ونستقبل قبلة واحدة (فول وجهك شطر المسجدِ الحرامِ) [البقرة: 144].
  • نتوحد ونحن أبناء أمة واحدة (إِنَ هذهِ أُمَتُكُم أُمةً واحدةً وأَنَا ربُكُم فَاعبدونِ) [الأنبياء:92].

فإذا كانت هذه هي معاييرنا التي نتفق عليها، فإننا نؤكد تمسكنا بالأصل والجذور فهي بريئة مما يمارس اليوم، وننادي بالوقت ذاته إلى مواكبة متطلبات العصر بتجديد الخطاب الديني.

سدد الله الخطى وبارك في الجهود.

استجابات