أنسنة الحروب وتشريع قوانين السلام

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

أنسنة الحروب وتشريع قوانين السلام

الأستاذ جلال القصّاب

مؤتمر ” شرائع السماء وحقوق الإنسان – عودة للجذور”

مملكة البحرين: 3 إلى 5 أبريل 2010م

 

الحروب دخيلةٌ على البشرية نتيجة المطامع وحبّ المادة والسيطرة، قال الإمام علي(ع): “حبّ المال سبب الفتن، وحبّ الرئاسة رأس المحن”.

تمهيد:

لقد تعاظمَ أمرُ قتلِ النفس البريئة في الأديان، لإدراكها ما لفيروس الهمجية من سهولة الانتشار والسيادة.. حتّى ليُصبح قتل الأبرياء لذّةً وعادة.. وليس استثناءً بغير عمدٍ.. يتحلّل المرءُ ذي الضمير منه بالكفّارات والديات والاستغفارات وجبر الخواطر.. فقال القرآن: “مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً“(المائدة:32)، وهي نفسها مقولة التوراة بسفر التثنية.. وهي مقالة عيسى (ع) بإنجيل متّى23:35 “لكي يأتي عليكم كلّ دمٍ زكيّ سفك على الأرض مِن دم هابيل الصدّيق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح..“، وهي مقولة وحُكم الحكماء على مرّ التاريخ… وينبغي أن تظلّ في البشريّة قانوناً طالما لم يفارقوا إنسانيّتهم.

وللأسف -مع كلّ ركام القوانين الإنسانيّة والعهود الدولية والاتفاقيات والتشريعات- فالهمجية ما زالت هي التي تحكم، لأنّا فقدنا أمريْن: أخلاق الضمير الإنساني، والقوّة القانونيّة الرادعة للمتجاوزين، لا سيّما الأقوياء النافذين.

ما زال عنوان ومشهد “مَن يُفسد فيها ويَسفك الدماء” ماثلاً أين يمّمنا الطرْف، سواءً تولّانا طاغية، أم محتلّ، أم دينيّ، أم علمانيّ.. أم قامت ثورة أم انقلاب.

ما دام لم يُوجد ضميرٌ حاكمٌ على النُظم والأيديولوجيات والبرامج، وما دام لا يُوجد قضاءٌ إنساني معولم يُعاقب كل متجاوز ويردعه ويجتثّ فسادَه، وقد قيل “مَن أمِن العقوبةَ أساء الأدب“.

فكأنّه كتبت الأقدار أنّ الإنسان لابدّ وأن يُحقّق النبوءات (نبوءات الملاحم والفتن) التي أتت بها آثار الدين، من أنّ دول الجوار المسكونة بالتوحّش تخرب بعضها بعضها: (وخرابُ الترك من الديلم، وخرابُ الديلم من الأرمن، وخرابُ الأرمن من الخزر، وخرابُ الخزر من التُّرك، وخرابُ السند من الهند، وخراب الهند من الصين..)، وذلك بحسب تلك الآثار: (حين يثب الجارُ على جارِه)، ولكأنّه كُتب على الإنسان مخالفة القيَم والوصايا التي بها يكون إنساناً، فرداً أو أمّة، تجاه جاره الفرد وجاره الأمّة والدولة، فقال (ص) مِن كثير ممّا قاله في حقّ الجار: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره“، و”والله لا يُؤمن – ثلاثًا – الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه“!

فلماذا ما زالت انتهاكات الحقوق للجار الإنسانيّ.. المنافس والمعارِض والمختلف والمسالم والبريء.. تقوم مع كلّ حرب، ثورة، انقلاب، مظاهرة، قلاقل، اجتياح، كارثة..

ليس في أفريقيا وحدها، بل كلّ القارات حتى التي تتظاهر بالديمقراطية والتمدّن، فكم من المقابر الجماعية وقتل الأبرياء والاغتصابات في حرب البلقان وصربيا (دعْكَ من الحربين الكونيّتيْن)، كم انتهك جنود بريطانيا وأمريكا في العراق وأفغانستان وبشائع التعذيب في أقبية السجون السرّية والعلنيّة؟ كم حدث من الاغتصاب، وقتل الأطفال والأبرياء، ووثّقوه في الأفلام، ومنع الرئيس “أوباما” التحقيق فيه لكونه سيسئ إلى سمعة أمريكا؟ كم من عشرات آلاف الأبرياء المقتولين ومثلهم المهجّرين بواسطة جيش سريلانكا في مناطق التاميل؟ وبواسطة جيش باكستان في وادي سوات؟ وبواسطة جيش كيان إسرائيل في مناطق الفلسطينيين.. فتقتل أبرياءهم وتقنص أطفالهم وتهدم بيوتهم وتجتثّ حقولهم وأشجارهم، أين حقوق الأبرياء والأطفال والمسالمين، في ضرورات الأمن والحياة والكرامة؟!

سُنّت التشريعات الإنسانية لمنع هذه الجرائم وإدانتها وردع فاعليها، لكنّها ما زالت تقع، بل ومن الدول التي شرّعتها ووضعت النظام العالمي لحمايتها، فأين الخلل إذاً؟

الكلّ يجتاح حقوق الأبرياء حين التوتّرات والاضطرابات البشرية، ويستأصلهم أو يسلبهم ضروراتهم، فالحكومات لا تتسامح مع المعارضين، وتتعامل بقسوة مفرطة عند القلاقل، قسوة تنتهج فيها الوسائل المحرّمة، والأسلحة المحرّمة، وتُراق الدماء المحرّمة، فيسقط الأبرياء.

والناس حين تثور وتتظاهر، والأحزاب حين تنقلب، لا تراعي في أحدٍ إلاّ ولا ذمّة، فتتجاوز بعقليّة الحشد كلّ حدّ وتعربد وتُكسّر وتضرب المارّة وتحرق الممتلكات وتسحل المعارضين والمرتاب فيهم في الشوارع.. تعيث الفساد وتقطّع الأرحام (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد:22)، كانت آية حاكمة.

مدخل:

ليس غريباً أن نسمع قصصاً مهولةً في الحروب والنزاعات عن مقاتلٍٍ اقتحم داراً آمنة فأردى الأب ثمّ فضَخ رأس طفله الرضيع ثمّ اعتدى على الأمّ واغتصبها وبعد ذلك قتلها.. فهذا ممّا تظنّه وحوشُ الناس -حين تخلع أعنّتها- أنّ قوانين الحرب تجيزه أو تتجاوز عنه، لمثل هذا ولعديدٍ هائلٍ من الانتهاكات الوحشية والمأساوية وُضِع “القانون الإنساني الدولي” الذي يُعنى بحقوق الإنسان إبّان الحروب والنزاعات المسلحة..

لقد عرّفت اتفاقية جنيف الرابعة مَن ينبغي حمايتهم في النزاعات والحروب، والواجب تجاههم، بالآتي:

(الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأيّ سبب آخر، يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أيّ تمييز ضارّ يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة، أو أيّ معيار مماثل آخر).

إنّ اتفاقية جنيف الرابعة، والبرتوكول الإضافي الثاني حول حماية المدنيين إبّان الحروب والنزاعات (انظر ملحق-1)، واستهداف المواقع المدنية تعتبران أهمّ إنجازات البشريّة بعد الحرب الكونيّة الثانية، فهذه الاتّفاقية جاءت نتيجة تراكم معرفي هائل، استهلّته الأديان السماويّة عبر آلاف السنين واستقرّ في الأعراف والفِطَر، لكنّه لم يترسّخ قانوناً معولَماً إلاّ بعد مخاض عسير وذلك بعد أن جرّبت الإنسانية أشكال الإجرام وذاقت ويلات بشاعة حروبها الكونية والدمار الهائل والانتهاكات والفظائع اللاإنسانية المترتّبه على عدم وجوده..

ومع ذلك.. فثمّة أوجه قصور في التشريع العالمي الذي للآن لم يق الحروب من همجيتها وتجاوزاتها البشعة، ويلخّص هذا القصور اثنان:

1- عدم وجود قانون تجريمي واضح للمنتهكين، مطبّق فعلاً بأدوات فعّالة، على القويّ والضعيف من الدول والقِوى والأشخاص.

2- عدم الجدّ في إصلاح البُنى التحتية الثقافية والاعتقادية المؤسّسة للحرب ولأخلاق الحرب ولمسوّغات الحرب، بإشراك الدين والقيم الإنسانية والأخلاق في صياغته: كنبذ العنصرية، وكراهة الظلم، وعدم التدريب البربري على كره الخصم وإهانته، وعلى رفض الانصياع لأوامر قتل الأبرياء والأطفال والنساء، بل ما زالت الدول تجعل العقيدة العسكرية وممارساتها -بذريعة الأمن الوطني أو الوقائي- فوق حكم الضمير والدين والأخلاق.

====================

أوّلاً: استعراض المشهد الإنساني:

 1- مشهد مِن حاضرنا الإقليمي:

 أوردت وكالات الأنباء عمّا جرى في اجتياح غزّة، مشابها لما جرى قبلها بضاحية لبنان الجنوبية، التالي:

“أحياء سكنيّة كاملة مدمّرة مُحيت عن وجه الأرض”.

“وصل عدد المباني التي دمرت إلى نحو 25 ألف مبنى منها نحو خمسة آلاف دمّرت تدميرا كليا”.

“حصلت إبادة ومجازر جماعية بشعة”.

“آلاف الشهداء والجرحى نصفهم من الأطفال والنساء”.

“إطلاق الكلاب لنهش جثث القتلى”.

“طال التدمير الشامل: مساجد، مشافي، مدارس، جامعات، بيوتا آمنة، مسعفين، سيارات إسعاف، أطفالا رضعا وصبية، شيوخا ونسوة، حتى مقابر الأموات لم تسلم، الكلّ تهدم”.

“قنص، وسحل، وهدم، وحرق، وتفجير وتهجير”

(قناة الجزيرة الفضائيّة- الأربعاء 14/1/2009).

 “كمية هائلة من الوثائق.. وعشرات الآلاف من اللقطات التلفزيونية الحية التي تكشف جرائم الحرب، وتَعمُّد القوات الإسرائيلية قتل عدة آلاف من المدنيّين، أكثر من ثلثهم من الأطفال”.

“تكشّف استخدام قنابل الفوسفور الأبيض، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى الضحايا، بل وقتل أعداد كبيرة منهم، وعرقلة وصول فرق الصليب الأحمر الدولي لمدرسة تابعة للأمم المتحدة قصفتها الطائرات الإسرائيلية، وقتلت حوالي أربعين شخصا احتموا بها، كلها شواهد على جرائم حرب من أخطر الأنواع”.

 وهناك صور أخرى موازية.. لما فعلته الآلة العسكرية الأمريكية وجنودها في العراق وأفغانستان وفي أقبية السجون ومع الأسرى، وسابقا ما فعله الرئيس الراحل صدام مع الأكراد ومواطني بلده من أهالي الانتفاضة الشعبية وتعرّضهم للبطش والإبادة…

وثمّة نموذج أفريقي قريب: “إنّ كلّ أطراف الصراع في الكونغو، الذي استمر 15 عاما، استغلّت الاغتصاب كسلاح حربي -خاصة متمرّدي رواندا- … وتقول النسوة من المدنيّين في الكونغو أنه “لتفادي الاغتصاب بعد الساعة السادسة مساء، لا يُسمح للنساء بالخروج من البيت، وبسبب وجود الجنود هنا، لا يؤمن على امرأة أن تخرج من بيتها، كما أننا لا نستطيع حتى الذهاب للحمام ليلا”.. هذه جريمة واحدة فقط، يقوم بها العسكر والمحاربون على السواء!

الصوَر الآنفة، ومثلها الجمّ الكثير، صور موجزة ومخزية لما يدور في الحروب والنزاعات، وكيف تدار قوانين الحرب بعيدا عمّا تمّ تسطيره من شرائع ومعاهدات دولية، فآلة الحرب تدير قوانينها الخاصة بلا إنسانية قوانين رادعة ولا رحمة قلب أو وازع ضمير.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

 2- مشهد من حاضرنا العالمي:

 أمّا في واقعنا العالمي المتمّدن أو العصريّ فالأمر قد يبدو مختلفاً، لكنّه ليس كذلك، إذْ لن تُخطئ أيّ عمليّة بحث أو توثيق لوقائع الحروب الدولية أو الأهلية أن تجد الواقع مصوّراً في كمّ فظيع من التجاوزات البشعة، تتمثّل في:

قطع رؤؤس، تمثيل بجثث، وضعها على عواميد، المشي بالرؤوس، فضخ رؤؤس الأطفال، شرب النبيذ بالجماجم، استخدام البشر دروعًا بشرية، حرق الأراضي والمحاصيل، تسميم الآبار والمياه، استعمال الكيمياويات، قنابل النابالم، الذرية، الإشعاعية، الاغتصاب للنساء والأطفال وحرقهم وتشويههم ودفنهم، التحلّي بالجماجم وبالعظام وبالأسنان وإهانة القتلى، دحرجة الرؤوس ولعب الصبيان بها، قتل الأسرى والتفنّن بتعذيبهم، التنكيل بالضعاف والجرحى وتقطيعهم أحياء، قصف الأبرياء والآمنين ودكّ منازلهم وترويعهم، قتل المواشي والحيوانات.

استحضار كامل لمشاهد جهنّم في الحياة العصريّة، أو عودة لشراسة الهمجية لكن بعقل مبدع ونفس شيطانية.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

3- عيّنة من أسلحة البشر المستخدمة:

 معظم الدول المصنّعة للسلاح تُسهم بتوفير أسلحة لاأخلاقية يُشجّع وجودُها وتصنيعُها على انتهاك القانون الإنساني للحروب، فمثلاً من حيث القنابل المحرّمة فقط (انظر الملحق-2) والتي ما زالت تُصنّعها الدول الموقّعة على الاتّفاقية نجد:

القنابل الفوسفوريّة الحارقة، القنابل الفراغيّة المهدّمة للمباني، قنابل النابالم الحارقة، القنابل الانشطارية المتفجّرة لآلاف الشظايا القاتلة عشوائياً، القنابل العنقودية، وكلّ هذه القنابل -مع كونها محظورة- إلاّ أنها تُصنَّع وتُستخدم واستُخدمت في كلّ الحروب، منذ حرب فيتنام والحرب الكورية إلى العدوان على لبنان وغزّة.

فليس عسيراً الاستنتاج بأنّ تحريم القنابل تلك لم يردع عن تصنيعها واستخدامها، حتى مِن قبل الدول التي صاغت القانون وسهرت عليه، بل هي تُستخدم دائما، ما يدلّك على قصور القانون والاتفاقيّات الموقّعة عن واقع التطبيق حين الأزمات وحين الحاجة إلى حسم سريع، لذلك تشتدّ الحاجة إلى إيجاد رادع وبالأخصّ للدول الكبرى.

 4- أرقام ضحايا حروب البشر الأخيرة:

إنّ مجرّد التمعّن في إحصائية القتلى الأبرياء وملايين الضحايا المدنيين نتيجة الحروب المسلّحة.. والحروب الأهلية.. في القرن العشرين، أو قراءة أرقام ضحايا الحروب والنزاعات (انظر الملحق-3) خلال نصف قرن من الزمن أي منذ صدور العهد الدولي، وإقرار اتّفاقية جنيف، ليهوله عديد الملايين التي أزهقت أرواحها ببشاعة أو تضرّرت وشوّهت وعُوّقت وخُطفت سعادتها وسُلبت كرامتها بلمحة بصر، بل ليهوله أنّه مع كارثة الحرب الكونية الثانية وضحاياها التي فاقت 50 مليوناً، فالعقل البشري لم يفق من همجيّته فقد حصلت أكثر من 65 حرباً راح ضحيّتها عشراتُ الملايين بعد الحرب الكونية تلك وبعد تشكيل هيئة الأمم المتّحدة وإقرار مواثيقها ونصب هيئاتها ومجلس أمنها!

====================

 ثانياً: المشكلة؛ أسباب وأعراض.. تحوّلات ومآلات

 حين احتلّ الجنود الأمريكان العراق نقلت شواهد وأفلام موثّقة أنّ بعضهم كانوا يدهسون الكلاب أو يرمونهم من شاهق، ويدهسون الأطفال والعجائز، وأحيانا يتسلّون ويتفكّهون بذلك، ويتعلّلون بأنّ الأوامر تقتضي منهم ذلك..

وحين توجّه النبيّ بجيشه لفتح مكّة ردّا على نقضهم العهد واستباحتهم قتلهم خزاعة الآمنين في البيت الحرام، مرّ الجيش بكلبة ترضع جراءها، فأمر النبيّ(ص) الجيش بالالتفاف حولها وعدم إيذائها وإزعاجها.

هذه المناقبية هي التي تحمي بعدئد الأبرياء والبيئة والكائنات (التي شُرِّعت الحرب أصلاً لاستنقاذهم) بألا يتمّ التطاول عليهم.

 هذه المقارنة تكشف لنا في خلاصة عجولة أنّ الطبيعة الإنسانية التي انفرطت من قيَم دينها ورحمانيّة إنسانها تتهاوى تجاه محق الكائنات البريئة، وأنّ الحرب مطحنة لكلّ بريء ومسالِم وعاجز حين لا ملجأ لأحد.. ذلك لأنّه:

 أولا: الإنسانُ العصريّ قد طوّر آلة الحرب وأسلحة القتل والدمار، منْ سيف يقتل رجلاً واحدا وبجهدٍ وفي ساعات، إلى قنبلةٍ وصاروخ، تقتل العشرات والمئات جملةً بغير جهدٍ وفي ثوانٍ، إلى أسلحة دمارٍ شامل تقتل المئات والآلاف والملايين بلمحة بصر وبكبسة زرّ:

أسلحة كيميائية، بيولوجية، جرثومية، حارقة، فراغية، انفجارية، ذرية، نووية (راجع الملحق-2)…. فلا يمكن ألا تصيب الأبرياء والجرحى.. بل ستقتل بعمى جارف.

ثانيا: أنّ آلة حربه الدبابة والمدفع والطائرة والبارجة والقاذقة والصاروخ.. ذات قوّة نارية عمياء جبّارة.. جعلت من تلافي قتل الأبرياء أمراً مستحيلاً.. فكيف لو كان الأمر متعمّداً غرضُه كسر إرادة الخصم وقتله معنويا وعاطفياً بإيقاع أكبر الضرر والخسائر البشريّة الفادحة به، وتجزير أطفاله ونسائه، كما حصل في هيروشيما وناجازاكي؟!

ثالثا: أنّ الحروب ما عادت تدور خارج مقاطن المدنيين في أماكن محدّدة تُسمّى بتراث الملاحم: “ساحات الوغى” “الهيجاء” “أرض المعركة/Battlefeild”، “مواقع اللقاء” “سوح النزال”، “ميدان القتال”، بل أصبحت تدور حيث الأحياء السكنية؛ لتطوّر العمران وامتداده.. واتّساع المرافق.. والدول.. والانفجار السكاني والحضاري.. فصار توقّي حشر المدنيين في النزاع أمراً مستحيلا.. حتى مع الاستفادة من مفهوم عمليّات “الجلاء” التاريخية للمدنيّين، أو “الإخلاء” “الترحيل” “النزوح” العصري.. الواردة في اتفاقية جنيف.

رابعاً: أنّ العقليّة القديمة التي كانت تختزن مبادئ كراهة القتال (كُتبَ عليكُمْ القتالُ وهو كُرهٌ لكم)، موفّرةً حيَلاً ووسائل وأساليب لتجنّب الحروب قدر الإمكان، هذه العقلية قد زالت وانتفت أساليبُها وذرائعُها.. لتغيّر البُنى الاعتقادية والعسكرية وتطوّر أدوات الحروب وخارطتُها، فمفهوم “البطولة” و”الفروسية” و”النُبل” (Noble – knight) كانت مفاهيم عسكريّة رائجة ودخلت قاموس الرّتب العسكريّة.. وأصبح لا معنى لها الآن، إذ كانت تقي الكثير من الحروب الطاحنة التي ستقع فيها أنفسٌ عبثًا وستسقط أبرياء.. بقتل مجرّد “نفسٍ” واحدة لإحياء “أنفس كثيرة” في شبهِ إعمالٍ لقانون عربيّ قديم “القتل أنفى للقتل” وتوافقٍ مع حكمة “كم مِن أكلةٍ منعت أكَلات“..

مبدأ “النُبل” و”الفروسية” يقتضي أن يبرز بطلٌ من الطرفين المتصارعين للّقاء فيما دُعي “بالمبارزة”، الأمر الذي قد يحسم المعركة من رأس دونما التحام الجيشين (فضلاً عن إيذاء مدنيّين أبرياء)، فيدفع جيشًا للتسليم أو لتوقيع معاهدة صلح، لقد جرى هذا في أعراف حروب التتار وأشهر وقائعه ما تمّ بين “تيموجين” الذي عُرف بعد هذه الواقعة بـ”جنكيز خان” وبين منافسه “أونك خان” وبعدها وحّد جيوش وشعوب منغوليا تحت يده، وهذا تمّ في أعراف العرب وبرزت مِن شواهده بفجر عصر الرسالة معركةُ بدر حيث قالت قريش “أخرجوا لنا نظراءنا وأكفّاءنا من العرب” فخرج ثلاثةُ أبطال “الحارثة وحمزة والإمام عليّ”، وفي خيبر حيث برز بطلُ يهودها “مِرحب” فبارزه الإمام عليّ، وفي معركة الأحزاب حيث برز بطل المشركين “عمرو بن ودّ” مقتحما الخندق فبارزه الإمام عليّ “وكفى الله المؤمنين القتال“، ثقافة البطولة والفروسية هذه هي التي جعلت الإمام عليّاً يقترح على معاوية بعدئذٍ في صفّين أن يبرز له ليتقاتلا كفارسيْن وأيّهما غلب فالظفر له ويكفي مئونة التحام الجيشين موفّراً الخسائر الفادحة في آلاف الأنفس وفي جراحات وإعاقات الأبدان.

خامسًا: لأنّ دخيلة الإنسان ما زالت لم تتأنسن حقوقيًّا لإتاحة سلمه مع الآخر، فهو ينزع لحلّ الأمور بالقوّة غالباً إن لم يكن دائماً، وتوفّر أدوات القوّة وتطويرها وقدرتها التدميريّة يغريه لاستخدامها لكسر خصمِه، وحيث أنّ له من فلسفات المادّة والقوّة وتفوّق العنصر ومِن الأديان (بتفاسيرها المشوّهة) ما يُوفّر له غطاءً لشراسته وهمجيته باسم “شرعية دولية” و”شرعيّة دينيّة” وغيرها، بل وباسم دين الحقّ، وباسم حزب الشعب، وباسم الأمّة الأفضل والقومية الأنقى والعنصر الأسمى.. وباسم كلّ حيلة يحتالها ويُنظِّر لها بذكائه المفرط وآلته الإعلامية والسياسيّة والدعائية والقانونية..

صار لزاماً أن نبحث عن كلمة حقّ تُقال أمام هذا السلطان الجائر الماحق لإنسانيتنا والعابث بوجودنا.. استنقاذاً للأبرياء وصوناً لبقيّة فطرتنا، للوقوف على أساسٍ راسخٍ مشتركٍ من القانون الإنساني الدولي.. ولتعزيز الاهتمام بالقضايا الإنسانية..

  ^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

إنّ المقدّمة الآنفة الشارحة لفداحة المعضلة تجعل من واجبنا الإنساني والقانوني:

1- معارضة.. ثمّ إدانة شنّ أيّ حرب، وتوقّي نشب أيّ نزاع، فمشروعية الحرب اليوم تحتاج أسبابًا أكثر منها بالأمس نتيجة المقدّمة السابقة وعظم آثامها وجوائحها..

2- تحريم وتجريم كلّ الوسائل والذرائع التي تسقط فيها وبموجبها الأبرياء بسهولة.. هذه الأيام.

3- المطالبة بتنقية إرثنا الديني (للملل كلّها) من عقائد وفتاوي استباحة الأبرياء.. وكشفها، الدين الحقّ حرّم التعرّض للبريء ولو بعنوان اختلاف العقيدة (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)(النساء:94) فالآية جليّةٌ بعدم شرعيّة حرب دينيّة ومنع توظيف الدين لسلب حقوق الآخرين الدنيوية والاعتداء عليها تحت ذرائع عدم إيمانهم بمذهبنا وبديننا، فعمل للسلام حتى مع المحارب المشرك أيّام التنزيل، بأنْ أعطاه فرصة الجنوح للسلم أو الإسلام ولو بظاهر القول.. فأيّ مبادرٍ للسلام مهما كانت عقيدتُه مخالفةً وسبق منه العداء يُقبَل ويُعتبر بريئًا ومسالما.. وكذلك أمَر الدينُ بإجارة من استجار منهم.

ومن التنقية المطلوبة.. رفض التفاسير الدينية والتأويلات الجامحة لنصوص القتال (والجهاد) لتجعله عدوانا على كلّ مخالفٍ عقائدي، ورفض النصوص (صحيحة كانت أو محرّفة) أو تفسيراتها الفجّة التي يتمّ تصديرها بإخراجها مِن سياقاتها التاريخية الحكيمة إن كانت صحيحة، ومثال على ذلك، ما يتمّ استدعاؤه من بعض رجال الدين التكفيريّين، وما يتمّ توظيفه من قبل حاخامات الصهاينة، ونموذجه:

أصدر حاخامات الكيان الصهيوني فتاوى ورسائل ومناشدات للساسة وللجنود بجواز حرق المدنيّين والأطفال، ومنهم الحاخام الأكبر لمدينة صفد شلومو إلياهو فقال “إذا قتلنا مائة دون أن يتوقّفوا عن ذلك فلابدّ أن نقتل منهم ألفًا، وإذا قتلنا منهم ألفاً دون أن يتوقفوا فلنقتل منهم عشرة آلاف، وعلينا أن نستمر في قتلهم حتى لو بلغ عدد قتلاهم مليون قتيل، وأن نستمر في القتل مهما استغرق ذلك من وقت”، وأضاف إلياهو قائلا “المزامير تقول: سوف أواصل مطاردة أعدائي والقبض عليهم ولن أتوقّف حتى القضاء عليهم”، وتعلّقوا بنصوص التوراة المليئة بمصادر التوظيفات:

فسفر يشوع مثلاً حافلٌ بأعمال الإبادة الجماعية للمدنيّين وممارسة القتل والسبي وإحراق المدن مدينةً بعد مدينة وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والبهائم.. في اتجاه معاكس للفطرة:

مثال سفر يشوع (21:6):

(وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ, مِنْ طِفْلٍ وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ).

وأيضاً يشوع (11:11):

(وَضَرَبُوا كُلَّ نَفْسٍ بِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمُوهُمْ. وَلَمْ تَبْقَ نَسَمَةٌ. وَأَحْرَقَ حَاصُورَ بِالنَّارِ).

ومثال سفر القُضاة (20:48):

(وَرَجَعَ رِجَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَنِي بَنْيَامِينَ وَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ مِنَ الْمَدِينَةِ بِأَسْرِهَا حَتَّى الْبَهَائِمَ حَتَّى كُلَّ مَا وُجِدَ وَأَيْضاً جَمِيعُ الْمُدُنِ الَّتِي وُجِدَتْ أَحْرَقُوهَا بِالنَّارِ).

وأيضاً سفر القُضاة (21:10):

(فَأَرْسَلَتِ الْجَمَاعَةُ إِلَى هُنَاكَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْبَأْسِ وَأَوْصُوهُمْ قَائِلِينَ اذْهَبُوا وَاضْرُبُوا سُكَّانَ جِلْعَادَ بِحَدِّ السَّيْفِ مَعَ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ).

ومثال سفر التثنية: (20:10-17):

(حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا لِلصُّلحِ، فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلى الصُّلحِ وَفَتَحَتْ لكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ المَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لكَ. وَإِنْ لمْ تُسَالِمْكَ بَل عَمِلتْ مَعَكَ حَرْباً فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. أَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي المَدِينَةِ كُلُّ غَنِيمَتِهَا فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ التِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. هَكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ المُدُنِ البَعِيدَةِ مِنْكَ جِدّاً التِي ليْسَتْ مِنْ مُدُنِ هَؤُلاءِ الأُمَمِ هُنَا. وَأَمَّا مُدُنُ هَؤُلاءِ الشُّعُوبِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً فَلا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا بَل تُحَرِّمُهَا تَحْرِيماً..َ)

وسفر صامويل الأوّل (22:19):

(وَضَرَبَ نُوبَ مَدِينَةَ الْكَهَنَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ: الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ وَالرِّضْعَانَ وَالثِّيرَانَ وَالْحَمِيرَ وَالْغَنَمَ).

هذه النماذج -من التوراة أو غيره- لا يُمكن استصحابها وتشريعها اليوم وقبولها مهما كان تفسيرها وسياقها التاريخي.. إن لم تكن بشاعة دينية في الأساس بعيدة عن التعاليم الدينية الأصل، فقتل المقاتلين بالسيف شيء ويُمكن قبوله منطقيّاً وشرعيّاً، أمّا قتل الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال والرضعان والبهائم مِن بقر وغنم وحمير وإحراق القرى.. فشيء آخر ولا يُمكن تشريعُه منطقيّاً وقبوله فطريّاً.

ففي الحرب الصهيونيّة الأخيرة على غزّة -كعيّنة مرصودة وواضحة من الحروب البشرية العصريّة الموثّقة بالتقارير والصور والأفلام والتصريحات والنتائج والتي أدانتها كلّ اللجان الرسمية والوفود العالميّة وآخرها تقرير “غولدستون” الذي وافقت عليه الجمعية العامة لحقوق الإنسان- نستخلص مع الأسف التالي:

1- تحالف الدين على إمداد وصناعة “الهمجية الحربية” بدل تأسيس “الأخلاقيات الإنسانية الحربية”.

2- استمرار ممارسة “الهمجية الحربية” وقتل الأبرياء والانتهاكات وجرائم الحرب.. بأبشع صورة.

3- تغاضي العالم عن هذه الجرائم وفشله في التحرّك.. مع عرضها أمام عينيه صباح مساء.

4- قصور “القانون الدولي” الخاضع لأهواء السياسة والمصالح عن تجريم جرائم الحرب وملاحقة صنّاعها.

ثمّة قاعدة ثبّتها الدين، ويُمضيها الفطرةُ والحسّ، “إنقاذُك مجرمًا خيرٌ مِن إدانةِ بريء“، هذه تمضي وتنطبق في الحياة المدنية والحربية على السواء، فحماية الأبرياء مقدّسة ومقدّمة على إصابة الأعداء، حتى لو احتمى عدوّ بدروع بشرية بريئة، فالواجب يقتضي حمايتهم، هذا هو مفهوم البلد الحرام والشهر الحرام والدم الحرام، فإنها تُعطي مناعة لمن دخلها ولو مذنبًا، فكذلك الأبرياء حمايتُهم أوجبُ واجب.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

ليس عجيبًا إذا استنتجنا أنّ الحرب العالمية الأخيرة هي حرب قيَم، ليست لها معركة محدّدة في ميدان أو مع طرف محدّد في بلد أو آخر، بل هي في كلّ المعارك وفي كلّ الأطراف والبلدان، لا يميّزها دولة ولا قومية ولا عنصر ولا دين ولا حزب ولا مذهب ولا لون ولا حضارة، بل الانضباط بقانون الضمير (الذي نحاول فرضه على الواقع) المناهض لأخلاق العدوان والإفراط والشراسة والهمجيّة، قانون مخافة الله في قتل الأبرياء: (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك.. إني أخاف الله)، حربٌ كونية نهائية، عبّرت عنها الأديان بحرب بين “الأشرار” و”الأخيار”، ليست معركة سلاح في طولها بمقدار ما ستكون -في بنيتها التحتية- حرب ثقافة وقيَم أخلاق وإعلام وتربية وتشريع وقانون.

إنّ تصاول خطّيْ “الهمجية” و”الإنسانية” على مدار التاريخ.. قد بلغ قمّته ونهايته ومداه:

خطّ “يُفسد فيها ويسفك الدماء” .. وآخر بلغ بروحانيته أنْ قال عبر المسيح: “أحبّوا أعداءكم” إزاء العداء الشخصيّ.. لكنّه فرَض شرائع العدل لاستتباب العيش الآمن.. حماية للمجتمع وللأبرياء من المجرمين.

فحفاظًا على الإنسان (كعددٍ ونوعٍ) وعلى الإنسانية (كمبدأٍ ودخيلةٍ).. لابدّ من لجم شرور الحرب في أنفسنا.. وفي الواقع.. عبر منافذ التربية والتشريع.

خطّ يدعو للحرب لأدنى سانحة.. وآخر يدعو للسلم لأدنى سانحة.. في صورٍ تراحميّة شتى لتخفيف الحروب وأوضارها: (سنّ الهُدَن.. المعاهدات.. التحالفات القائمة على مصالح مشتركة للعيش.. التعاون على البرّ والتقوى، حقّ الجار وحفظ الجوار، حرّم أن يثب الجار على جاره أو يزني بحليلته ويغتصبها كما حصل في حروب البلقان والهوتو.. بل حرّم أن يبات شبعان وجاره جائع.. بل ربّما كاد أن يُورّث الجار، سَنّ التزاوج والتصاهر بين القبائل والأمم لتضيع موائز الطبقيّة والقوميّة والقبليّة واللغويّة والدينيّة واللّون ويُصبح الجميع “أرحاماً” وقرابات، حرّم شنّ الحروب باسم العقيدة والدين، حرّم نظرات العنصرية باللغة واللّون وطغيان أمّة على أمّة وجعل ميزان كرامة الأفضليّة بكفّ الشرور عن الآخرين (التقوى)، أوجب السلم والأخلاق والتراحم.. وضع سنن العفو والتجاوز والتسامح ونسيان الأذى (Amnesty) ليُخمّد الأحقاد وامتداداتها وتواتراتها.. (“وليعفوا وليصفحوا“.. “ودَعْ أذاهم“.. و”العافين عن الناس“.. “ولمَنْ صَبَر وغَفَر“.. “والله لا يحبّ المعتدين“)..

====================

ثالثًا: الوقاية والعلاج؛ عبر استدعاء القيَم وردعيّة القوانين:

1- الوقاية: إصلاح الاعتقاد لسلب شرعيّة الحروب ضدّ الآخر:

قبل التطرّق للعلاج، من الضروري عرض سبيل الوقاية التي جاءت من رؤية الدين للإنسان، عبر التأصيل الثقافي والتأسيس الاعتقادي لرؤية لفرد الإنساني تجاه أخيه، الثقافة الإيمانية التي تفرز وتُقرّر:

1- كرامة الإنسان هي الأصل الديني الأوّل.. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..)(الإسراء:70).

2- وحرمة النفس أولى الحرمات..

وأنّ قانون “لا تقتل” هو أوّل قانون تمّ سنّه لديمومة المجتمع الإنساني “لإحيائهم جميعاً” ونظيره عقوبة قاتل النفس البريئة بالقتل لأنّه يُميت “الناس جميعاً”.

فبالتالي، فإنّ الدين الحقّ هو دين القيَم المحافظة على الإنسانية وسواسيّتها وكرامتها، وأيّ تصوّر ديني من إرث اجتهادات البشر وتفسيراتهم وتأويلاتهم “للدين” يُحترَم ويُترك يُمارس خصوصيّاته طالما لم يتحوّل إلى اعتداء على الآخر وعنصريةٍ ضدّهم، الدين قد يتشوّه وقد يُفعَل باسمه أكبر الجرائم الإنسانية كما في جرائم الكنيسة إبّان القرون الوسطى وقتلها آلاف الأبرياء وحرقهم وتعذيبهم، وكما جرت من حروب المذهبيّات المسيحية في أوروبا ممّا يندى لها جبين الإنسانية، ولقد قصّ القرآن عن هذا التشوّه “الديني” في مثال أصحاب الأخدود حيث أباد أصحابُ الدين الأقدم (اليهود) أصحاب الدين الأحدث (النصارى) في اليمن في محرقةٍ دينية بشعة (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) (البروج:4-5)، .. بل باسم حتى دين خاتم الأنبياء استُهلّ بقتل سيّد الأبرياء سبطه الحسين الشهيد بعد نصف قرن من عصر الرسالة فقط، وذُبح رضيعه البريء، وسُبيت نساؤه البريئات، ثمّ باسم الدين اغتُصبت المئات من نساء مدينة الرسول(ص).. ثمّ توالت البشائع والفظائع باسم الدين.. وإلى اليوم.

فمن الضروري ملاحقة التشوّه الإرثي في الأديان، ومقاضاتها إذا مرّرت دعاوى العنصريّة والتفوّق وإجازة الإرهاب والسلب لحقوق الآخر المسالِم المختلف.

قدّم الدين الحنيف رؤيته مع فجر الرسالة قبل أن يجتاحها التحريف، حين كفّ أيدي المسلمين أن يُقاتلوا إلاّ دفاعاً وبإذن لردع الذين يُقاتلونهم ظلماً فقط أي المعتدين، فغرضه الأساس حماية الأبرياء وصيانة حقوقهم المكفولة من حرّية عقائدهم ومعائشهم وشعائرهم، وكلّ حرب شرعيّة دينياً قامت لهذا الأساس (“ليأمن المظلومون من عبادك“)، فحين ضحّى الوحي بحرمة الشهر الحرم لردّ الاعتداء.. نصّ على هذا الاستثناء المعلَّل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ؟ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا..)(البقرة:217)، فالقتال وهو حرمةٌ كبيرة بالشهر الحرام لكنّه أُجيز استثنائياً دفاعاً عن حقوق الأبرياء المدنيّة والدينية والشعائريّة وحرّياتهم.. ودفع الظلم عنهم، فحرمة الأبرياء والحقوق هي أصل حرمة الشهر الحرام، وليس كما قلبها الدينُ القشريّ احتفظ بالقشور والقوالب وضيّع المضامين والجواهر.

بيّن ذلك في قولِه: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا)(النساء:75)..

وحين استعرض نموذجًا تاريخيا في شرعية الحرب، فقد استعرض نموذج سليمان وأبيه داوود، لفرض قانونٍ دوليّ (مناطقي/إقليميّ) يكفّ به غارات القبائل وملوك العشائر والقرى على بعضها عدواناً وقتلاً وسلباً وسبياً.. بمحاذاة خطوط التجارة الدوليّة ودروب المارّة المسافرين،.هذه الشرعيّة المُعلِّلة لحماية الأبرياء وحقوقهم تمثّلت في قول جنود داوود: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)(البقرة:246)، ثمّ تُرجمت في قول بلقيس: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(النمل:34).

فكلّ حرب أجازها الدين وشرّعها الله إنّما كانت لحماية حياة الأبرياء واسترجاع حقوقهم وكرامتهم وضرورات معائشهم أساساً، فلذلك يحرص الدينُ على الاعتناء بهم وعدم التعرّض لهم في الحروب والنزاعات والقلاقل لأنّهم سبب مشروعيّة الحرب والثورات وغرضها الأوّل، وحتى حين دخل الإسلامُ على طغام قريش بجيشه مكّة فاتحاً.. فقد كفّ الأيدي اتّقاءً لإصابة الأبرياء وكرامةً لهم مع كون الاجتياح مشروعاً وفق أعراف ومنطق الحرب والانتقام من القتَلة والمعتدين: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح:24-25). ليُبيّن أنّ الدين بقيمه الروحية وضميره الإنساني هو كفّ اليد والأذى والشرور وغوائل الغضب وبوادر الانتقام، وليس إطلاقها وبالأخصّ حين الحروب.

2- العلاج: ضبط الحرب بالقيَم لاستدامة مشروعيّتها:

على ضوء ذلك التأسيس العقائدي العميق بمركزية كرامة الإنسان وحفظ حياة أبريائه، فقد جاءت وصايا الدين “بالقانون الإنساني” إبّان الحروب في مصادر الوحي وبالأخصّ القرآن الكريم.. وتمّ تنفيذها في رشحات وصايا الجهاد الدفاعيّ والمغازي والسيَر.. (انظر الملحق-4) لتقييد النزاعات الأهليّة والحروب الخارجية.. والداخلية.. بضوابط الأخلاق لجعلها إنسانية وملتزمة بالمبادئ.. تُحفظ فيها النفس البشرية المكرّمة قدر الإمكان..

فالمحارب -حتّى لو شُرِّعت له الحرب- فليس له مطلق الحرية ليتحوّل إلى وحش كاسر يُهلك الحرث والنسل، والمحرّمات لا تُصبح مباحات أبداً، المحارب عليه ألاّ يخسر نفسه الإنسانية وضميره في فورة الحرب بارتكابه فظائع الآثام، هذا ما نستفيده من وصايا الدين وقواعده وأعرافه وتشديداته.. بمنع البغي والعدوان والاعتداء والتجاوز والإسراف في القتل.. في آيات وأحاديث كثيرة..

هذا التهذيب للحروب هو الذي خفّض وتائر القتل وسمح لنسائم السلام.. فجعل “المُوفَد”/الرسول لا يُقتَل، ولا المسعف، وكذلك مِن تهذيباتها وضوابطها عدم الإجهاز على جريح، ولا قتل امرأة وشيخ وطفل.. ولا قتل حيوان وحرق شجر وتسميم ماء.

فالقنابل الجرثومية، الكيماوية، الفراغيّة، البيولوجيّة، النووية.. كلّها اعتداء على البشرية والطبيعة الفطريّة وتنتهك أبدَه ضوابط الحروب الشرعيّة مثل: (فلا يُسرفْ في القتل) و(لا تعتدوا)، فالطبيعة وقوانينها تضادّ نصرة المظلوم وتتخلّى عنه بمجرّد تحوّله إلى ظالم ومباشرته الإسراف بالقتل والاعتداء..

إنّ منعكس تلك القيَم والوصايا على واقعنا يجب في أقلّه أن يُترجَم لنظائره العصريّة بالآتي:

1- فرض تربية أخلاقية على الجنود والمحاربين والحزبيّين.. بدل برامج الهمجية والتشريس.. تُؤهّلهم للاتّزان الإنساني وعدم الانفلات لقوانين الغاب وأكثر.. حين نشوب أيّ صراع مع طرفٍ معادٍ، ولقد تساءل أحد المفكّرين و”هل كان المقاتلون يجهلون القانون الإنساني؟ لا يُرجّح ذلك على ما أعتقد.. إنّهم فقط لا يأبهون”, فقد شمل تحقيق الصليب الأحمر مقابلات مع مئات المقاتلين في كولومبيا والبوسنة وجورجيا والكونغو.. واكتشفوا اللامبالاة هذه.

2- فرض تعاليم الحرام (الديني) والممنوعات في الحروب.. فرضاً على كلّ مرشّح للدخول في نزاع جسدي.. وتهديده بالعقوبات الجزائية في حال مخالفتها وليس باستقبالهم وعدّهم أبطالاً قوميّين وتزيينهم بالنياشين.

3- إنشاء رقابة مهمّتها فرض الانضباط بالأساليب المشروعة وقواعد السلوك الإنسانيّ حال النزاع (عدم جرح مبالغ، عدم الإجهاز على جريح، عدم القتلة البشعة، حرمة التعذيب والتمثيل، حرمة الغدر، حرمة الاغتصاب الجنسي والفواحش وإهانة الكرامة، حرمة الاعتداء والإسراف..الخ)، كانت التعاليم الدينيّة والوُعّاظ والدُعاة المرافقون للجيوش والسرايا يمثّلون قانون التوازن ببثّ الجانب الروحي والأخلاقي في الحروب لبثّ قيم الإيمان والانضباط والتهذّب الإنساني.

(اعترف جنود أمريكان في ندمٍ بالغٍ -بأفلام بثّوها ووثّقوها- بأنّهم تحوّلوا إلى حيوانات ضارية في العراق وفقدوا هويّتهم الإنسانية، وبأنّهم كانوا يقتلون الأبرياء من النساء والأطفال والعجزة والحيوانات ويدهسونهم حيث كانت الأوامر تأمرهم بذلك وتُجيزهم، وبأنّ التنشئة العسكريّة والتجهيز والتدريب والأوامر والشعارات كانت تبرمجهم على القتل الرخيص وفعل الخسائس بالنساء.. لأنّ البلد المحتلّ كلّه إرهابيّون ويستحقّ كلّ فعلة دنيئة!)

4- عدم إجازة الحرب أو النفير إليها إلا لأسباب مشروعة واضحة كما بيّنتها الأديان في تفاسيرها المنطقيّة: (أذِن للذين يُقاتلون بأنّهم ظلموا..) (وقاتِلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..) (فقاتِلوا التي تبغي..) تعني مقاتلة المحاربين المعتدين فقط وعدم التعرّض للأبرياء ومناطقهم.. ولا تعتدوا (غير المقاتلين هم: العاجز، المدني، البرئ، الفارّ، الجريح، الضعيف، الشيوخ، النساء، الأطفال، المرضى، المقعدون..الخ)

فالإسلام بيّن أنّ: الحرب لدفع الظلم ودحر العدوان فقط، ولصيانة الحقوق وتحقيق العدل، ليستْ لنشر الدين ولا للإكراه عليه وقطعاً لا للإكراه على أيّ أمر آخر.. (لقد قرّر كثيرٌ من الفقهاء الأجلاّء أنّ سبب القتال في الدين ليست المخالفة الدينية والفكريّة، بل محض الحرابة والعدوان).

5- إذا قامت الحروب والنزاعات والقلاقل فينبغي أنسنتها وضبطها -إعداداً ورقابةً وتهذيباً وقانوناً- بقائمة المبادئ والقيم لئلا تكون همجية فتفقد شرعيّتها.. (هذه المبادئ كونية، ودينية، وعرفيّة إنسانية.. تراكمت عبر قرون مديدة)..

كثيرةٌ مفاهيم الضبط والأنسنة، التي نستلهمها من تراثنا الديني والأعراف العربيّة والإنسانية من المبادئ وأخلاقيّات الحرب مضافا إلى ما في العهود، فمنها مثلاً:

* مفهوم “النبذ” وهو ضدّ الغدر والخيانة ونقض العهد، وهو لاتّقاء الغدر أساساً: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:58)، وتعني إعلام الطرف الآخر بانتقاض العهود الموقّعة ليتأهّب للحرب (مع ملاحظة أنّ عدم الغدر لا يعني عدم الحيلة والخدعة والتخطيط أثناء الحروب).

* عدم التجويع والترويع للآمنين (مثاله التاريخي: فكّ حصار مكّة لعدم تجويع أهلها).

* عدم الانتقام والتشفّي والإفساد بعد الظفر (مثاله: قول النبيّ (ص): “اذهبوا فأنتم الطلقاء” وقول الله تعالى: “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ” (محمد:22)).

* إحسان القتل، وعدم التعذيب للنظير المحارب. (ورد في وصايا كثيرة)

* الدفن وعدم الإهانة، وتسهيل سحب قتلى الطرف الآخر ومصابيه..

6- إنّ التنشئة العسكرية يومنا هذا بشعاراتها تقوم على ثقافة العنف واحتقار العدوّ، وهي ثقافة تولّد لدى حامليها روح العنف وتستفزّه لارتكاب أعمال إجرامية متى توفّرت الفرصة.. بحقّ العدوّ الحربيّ وأهله المدنيّين، إذ قليلون ممّن تتوافر لديهم القدرة على إدراك صفاء ونقاء أنفسهم وتأكيدها عند الكروب والحروب والنزاعات والامتحانات.

فمن التوصيات الملحّة ضرورة تشكيل لجان رقابة دولية، كتلك التي تفتّش عن الأسلحة المحرّمة، والاستخدامات اللاسلمية للطاقة النووية، وتنقّب عن معسكرات تدريب “الإرهابيّين”، مهمّتُها فحص المدارس العسكرية الدوليّة وثكنات إعداد الجنود والمحاربين قبل زجّهم، لقياس مدى التزام تلك التدريبات القاسية والمحقّرة والحاطّة للكرامة والمليئة بالألفاظ البذيئة، والمحفّزة على جرائم الاغتصاب والتعدي الجنسي حين تكون في الثكنات ومع الصديق والحليف فكيف ستكون في الحروب مع الخصم والعدوّ.. التفتيش عن مدى توافق نوع الثقافة العسكرية وعقائدها ومناهجها التربوية والنفسية (التوحّشية) والسلوكيّة وتوائمها مع ثقافة أخلاقيّات الحرب والتعامل الإنساني وانضباطها بضوابط الأديان مع الخصم المعتدي أو غير المعتدي المُعَدّ بالتعبئة ضدّه، لتجفيف منابع العنف والهمجية في الجيوش في مهد إنشائها.

7- من الحيَل التي يسقط فيها الأبرياء ما يكثر من الادعاءات بخطأ القصف، أو عدم القصد، أو تبرير ذلك بوجود دروع بشرية، إنّ الحاجة ملحّة لمعالجة هذه الإشكالية بتشريع قانون للتعويض المادي العاجل للأبرياء يُلزم المعتدي، مُضافاً إلى قضاء معولم للتحقيق الفوريّ بأيّ حادثة سقوط أبرياء لإدانة المعتدي المتجاوز وتجريمِه وتطبيق العقوبات المقرّرة والرادعة، وحتّى إذا لم يثبت التجريم أو سيطول التحقيق فهذا لا يعفينا من لزوم التعويض المادّي الفوري، ففي الشريعة الإسلامية تُوجَد ديةٌ للقتل الخطأ، ينبغي تصنيف القتلى الضحايا المدنيّين إلى طفل، امرأة، شيخ، وفق سنّ معين، كحدّ أدنى، ووضع قيمة مادية كمكافئ تعويضي عالمي متّفق عليه كحد أدنى لكل نفسٍ إنسانيّة.. قابلةً للتصعيد حال ثبوت قصدية الجرم، تتحمّلها الجهةُ الرسمية التي يقع عليها الوزر وإلاّ فالأمم المتّحدة عبر مجلس الأمن كضامنٍ عام أعلى، مثلما ينبغي إيجاد تصنيف تعويضيّ مادي لجرائم الاغتصاب الحربيّة، ولقطع الأطراف، والإعاقات، مقدّرة عالميّاً، وتُلزم مباشرة محاسبيّا دونما تحقيق، تقوم بتقريرها جهات الإغاثة الدوليّة ومراكزها الميدانية العاملة فقط (مرجع هذه النظريّة: آية القصاص وآيات الديات، وشواهد حوادث السيرة العطرة؛ فقد ودى النبي(ص) أناساً أبرياء قتلوا خطأ في المعارك والغزوات).

8- يُوجَد للحروب الهوجاء مكافئ يفعل فعلها في إصابة المدنيّين (مثل: النزاعات الأهلية.. الطائفية.. المذهبية، التظاهرات، الثورات، الكوارث، الاضطرابات، أعمال الشغب ومكافحة أعمال الشغب، العراكات القبليّة والمناطقيّة والعائليّة والفرديّة، الأعمال الإرهابية) كلّ هذه ميادين راجحة لأن يسقط فيها أبرياء وتُفجّر فيها مساجد ومآتم، ويذهب ضحيّتها مصلّون وشيوخ ونساء وأطفال، ذلك لأنّ الفاعل فيها هو عقلية الحزب والفئة والحشود وسيكلوجيّتها المترنّحة بأحضان الهمجية بعيداً عن الإنسانية الواعية، وهي مؤهّلة جدّا لتنتج جرائم خارج القانون واضعةً القيم تحت قدميها، جرائم مثل الاغتصاب والتكسير والتعذيب والتفجير والقتل غير المبرّر بل حتى قتل الأطفال ودهسهم، فينبغي علاوةً على سنّ قوانين جنائية عالميّة رادعة تأخذ مسارها التلقائي في منظومة القوانين الوطنيّة المحليّة، ينبغي مضافاً تقنين لوائح مشدّدة ضابطة للتظاهرات والمسيرات ولقوّات مكافحة الشغب، مثل: ضرورة وجود قائد أخلاقي للحشود، وضرورة توجيه أوامر ضابطة للحشود قبل انطلاق مسيرتها تحمي الأبرياء وأماكنهم من مدارس ومستشفيات وبيوت ومساجد ومعابد.. كما يفعل قوّاد الجند للمسلمين الأوائل بالتذكير بالأخلاقيات والالتزامات قبل انطلاقهم: “ألا تروّعوا طفلا، ألا تقتلوا شيخا، ألا تقطعوا شجرة.. ألاّ يتعرّضوا للنسّاك والصوامع..الخ”).

الخلاصة:

إنّ الأديان وبالأخص خاتمها، كما الأعراف والضمائر والفطر، أدركت أنّ السلام يقترب بالاقتران والتواصل، والحرب تبدأ بالقطيعة والوقيعة، لذلك عدّت الأديان أبغض الحلال الطلاق، لكن ذلك لم يمنعها ألا تُؤطّر للطلاق ليكون طلاقًا بمعروف وإحسان يحتفظ بجسور العودة ويكتسي بحفظ المودّة.. بألا يُنسى الفضل بينهم ليكون تسريحًا بإحسان، لأنّ الامتزاج يظلّ هو الأصل والطلاق استثناء.

كذلك السلام هو في الأديان أهمّ مطلب، وغاية، والحرب مكروهة في الفطَر والأديان، وإذا كان ولابدّ منها بأنْ أوجبها واجبٌ اضطراريّ دفاعي بقصد استجلاب السلام ونفي شرّ أكبر منها على الأبرياء، فالأديان والفطر لم تقصّر أن صاغت قيودًا للحرب لتُمارَس كحربٍ إنسانيةٍ لا همجيّةً.. مؤطّرة بغايات السلام وبمبادئه وأخلاقياته.

فالسلام هو الطبيعة المنشودة دينيا لأنها هي الطبيعة الكونية، والحرب استثناء استجلبته طبيعة بعض النفوس البشرية التي لا تستقيم وتدَع غشامتها إلاّ بقوّة الدفع والردع لتترك رعوناتها وظلمها للآخرين، ولابدّ مِن ضبطها (أي الحرب) بمبادئ السلام نفسها.

وجاءت الدساتير والتشريعات -على ضوء تلك الإرساءات الأولى- لتوفّر بطبيعتها الحماية والضمانة لكرامة الإنسان وحقوقه، فهي ركائز حاسمة للسلام، وما لم تتّسع لقوانين صيانة هذه الحقوق بسنّ أحكام مقاضاة المجرمين والمحرّضين والمتجاوزين والمنتهكين لهذه الحقوق والكرامة والحرّيات.. وتسكينها طابع الأهمية لتفعيلها، فإنّ السلام والأمان لن يحدث للأبرياء ولن يفي دسترتُه أو شرعنتُه لإحداث النتائج المرجوة، وستكون المضاعفات السلبية واضحة إلى حدّ الطغيان والانفلات المسيء ليس على كرامة الإنسان وحياته فحسب، وإنّما على الدين (والضمير) والقانون معًا! وستبقى مجرّد حبر على ورق، أو مجرّد ثقافة حقوقيّة على هامش سياسة الدوَل بالقول ومجمّدة بالفعل.

====================

ملاحق البحث

ملحق-1

اتفاقية جنيف الرابعة، والبرتوكول الإضافي الثاني حول حماية المدنيين إبّان الحروب والنزاعات، واستهداف المواقع المدنية، وأهم بنود الوثيقتين:

* البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف، الباب الرابع- السكان المدنيون:

المادة 13: “حماية السكان المدنيين”:

1- يتمتع السكان المدنيون والأشخاص المدنيون بحماية عامة من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية ويجب لإضفاء فاعلية على هذه الحماية مراعاة القواعد التالية دوماً:

2- لا يجوز أن يكون السكّان المدنيون بوصفهم هذا.. ولا الأشخاص المدنيون عموما.. محلاً للهجوم، وتحظر أعمال العنف أو التهديد به الرامية أساساً إلى بثّ الذعر بين السكان المدنيين.

3ـ يتمتّع الأشخاص المدنيون بالحماية التي يوفّرها هذا الباب، ما لم يقوموا بدور مباشر في الأعمال العدائية.

المادة 14: حماية المنشآت التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة:

يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، ومن ثمّ يحظر -بناء على ذلك- مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المنشآت والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها، والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري.

المادة 15: حماية الأشغال الهندسية والمنشآت المحتوية على قوى خطرة ألا وهي السدود والجسور والمحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، فلا يجب أن تكون محلاً للهجوم حتى ولو كانت أهدافاً عسكرية، إذا كان من شأن هذا الهجوم أن يتسبّب في انطلاق قوى خطرة ترتب خسائر فادحة بين السكان المدنيين.

المادة 16: حماية المنشآت الثقافية وأماكن العبادة يحظر ارتكاب أيّة أعمال عدائية موجّهة ضد الآثار التاريخية، أو الأعمال الفنية وأماكن العبادة التي تُشكّل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب، واستخدامها في دعم المجهود الحربي، وذلك دون الإخلال بأحكام اتفاقية لاهاي بحماية الأعيان الثقافية في حالة النزاع المسلح والصادرة في 14 مايو (ايار) 1954.

المادة 17: حظر الترحيل القسري للمدنيين:

1- لا يجوز الأمر بترحيل السكان المدنيين، لأسباب تتصل بالنزاع، ما لم يتطلب ذلك أمن الأشخاص المدنيين المعنيين أو أسباب عسكرية ملحة، وإذا ما اقتضت الظروف إجراء مثل هذا الترحيل، يجب اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لاستقبال السكان المدنيين في ظروف مرضية من حيث المأوى والأوضاع الصحية الوقائية والعلاجية والسلامة والتغذية.

2- لا يجوز إرغام الأفراد المدنيين على النزوح عن أراضيهم لأسباب تتصل بالنزاع.

++++++++++++++++++++++++++

الملحق-2

– القنابل الفوسفورية: وهي قنابل حارقة بالفوسفور (الأبيض أو الأحمر) المستخدم بشكل واسع خلال ومنذ الحرب العالمية الثانية، ويشتعل الفوسفور الأبيض بشكل تلقائي في الجو عندما تصل درجة الحرارة إلى 34.

– القنابل الفراغية: وهي قنابل تمتص الأوكسجين في المحيط الذي تسقط فيه وتتسبب بانخفاض في الضغط يؤدي إلى انهيار المباني.

– قنابل النابالم: نوع آخر من القنابل الحارقة يقوم خصوصا على مادة النابالم المصنوعة من نوع من الوقود تم اختراعه في جامعة هارفرد في 1942. وتهدف تركيبتها الى الحاق حرائق وحروق تلتصق بالأشخاص والأشياء. وحظرت اتفاقية للامم المتحدة في 1980 استخدامها ضد السكّان المدنيين.

– القنابل الانشطارية: قنبلة تنفجر قبل بلوغ هدفها متسببة بآلاف الشظايا التي تتطاير بسرعة هائلة في أنحاء مختلفة أو محددة، بحسب المطلوب، ولا تشكل الشحنة المتفجرة بشكل عام إلا ربع وزن القنبلة أو اقل، أما ما تبقى من العبوة، فهو ينقسم إلى عدد لا يحصى من الشظايا القاتلة والحارقة.

– القنابل العنقودية: قنبلة انشطارية حديثة الصنع، مؤلفة من مستوعب رئيسي يطلق في الجو مئات القنابل الصغيرة على مساحة واسعة جدا تنفجر لدى ارتطامها بالأرض.

++++++++++++++++++++++++++

الملحق-3

عيّنة من إحصائية ضحايا الحروب الدولية والأهلية من المدنيين في آخر قرن:

  • الحرب العالمية الأولى: حوالي 16 مليون شخص،  9 ملايين من المدنيين و7 ملايين من الجنود، استخدمت فيها الأسلحة الكيميائية، والسموم لتسميم الآباء وقتل حيوانات ونباتات الخصم.
  • الحرب العالمية الثانية: بين 50 إلى 70 مليون بين عسكري ومدني، منهم 120 ألفا من المدنيين قتلوا بقنبلتين ذرّيتين بهيروشيما وناكازاكي، واستخدمت فيها كلّ الأسلحة المحرّمة بشريا.
  • حرب فيتنام: حوالي بين 2-4 ملايين بين عسكري ومدني، واستخدمت أمريكا 9 ملايين كيلوجرام من السموم أصابت بها مليونين من الفيتناميين عدا الحيوان والنبات، واستخدمت نصف مليون طنّ من النابالم الحارق فأبادت الغابات والحيوانات وشوّهت النسل والحرث.
  • الحرب الأهلية السودانية: نصف مليون قتيل.
  • حرب الخليج الأولى (العراق وإيران): أنتجت حوالي مليون قتيل، واستخدم فيها مئات الأطنان من الغازات الكيماوية السامة المحرّمة كالسارين والخردل وغاز الأعصاب وأبيدت قرى بالكيمياويات.
  • حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت ثمّ ضرب العراق بالحلف الأمريكي): أنتجت فوق المائة ألف قتيل منهم الآلاف من المدنيين، بحملات قصف جوي عشوائية.
  • حرب الخليج الثالثة (الغزو الأمريكي للعراق): أفادت دراسات مسحية أنّ إحصائية القتلى ناهزت 700 ألف قتيل، وأنّ قتلى المدنيّين فاق 150 ألفاً، وأنّ كلّ أنواع الأسلحة التدميرية الهائلة استُخدمت، بدئا بالصواريخ وانتهاء بالقنابل الضخمة، واستخدمت القنابل العنقودية والانشطارية والمنضّدة.
  • حروب أخرى: دولية، وأهلية، راح ضحيّتها بين الآلاف والملايين، ووحشية القتل فيها أودت بالمدنيين وفتكت بالنساء قتلا وغصبا، وتجزيرا بالأطفال، وهدمت المدارس والمساجد والمعابد والمشفيات.. في آسيا (كمبوديا، كوريا)، في أفريقيا (رواندا)، في أوروبا (البوسنة والهرسك والصرب وكرواتيا)، وفي المنطقة العربية (بالعدوان الصهيوني على لبنان وفلسطين)…الخ.
  • هذا كلّه، عدا عن عشرات الملايين من الألغام المتوزّعة على كل أنحاء العالَم عشوائيا ودون خرائط، من مخلّفات الحروب العبثيّة القذرة، وتفتك كلّ عام وتقتل وتشوّه الآلاف من المدنيّين والأبرياء والأطفال.

++++++++++++++++++++++++++

الملحق-4

نموذج من الوصايا في النزاعات والحروب، وهي تُمثّل ملخّصا لمجموع القوانين والأعراف والقيم والحِكَم التي تراكمت لدى البشرية في أخلاق الحروب، انتخبناها من أحاديث ومرويات ومراسيم أهل الدين:

– عن رسول اللّه (ص): “لا تـقـتلوا شيخًا فانيًا, ولا طفلا صغيرا, ولا امراة, ولا تغلّوا , وضمّوا غنائمكم, وأصلحوا وأحسنوا إنّ اللّه يحب المحسنين”.

– وعنه (ص): “لا يُقتَل الرسل ولا الرهن”.

– وعنه (ص): “لا تُمثّلوا بآدمي ولا بهيمة”.

– عن الإمام علي (ع): “لا تُقاتلوهم حتى يبدؤوكم, فإنّكم بحمد اللّه على حجة, وترككم إيّاهم حتى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم, فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مُدبرا, ولا تصيبوا مُعورًا, ولا تُجهزوا على جريح, ولا تُهيجوا النساء بأذى”.

– وعنه (ع): “… ولا تكشفوا عورة, ولا تمثّلوا بقتيل”.

– وعنه (ع): “نهى رسول اللّه (ص) أن يُلقى السمّ في بلاد المشركين”.

– عن الإمام زيـن العابدين (ع): “إن أخذت الأسير فعجز عن المشي ولم يكن معك محمل فأرسله ولا تقتله, فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه”.

– عن الإمام الصادق (ع): كان رسول اللّه (ص) إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه, ثم يقول: سيروا بسم اللّه وباللّه, وفي سبيل اللّه, وعلى ملّة رسول اللّه, ولا تغلّوا, ولا تُمثّلوا, ولا تغدروا, ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًّا ولا امرأة, ولا تقطعوا شجرًا إلاّ أن تضطرّوا إليها”.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.