مؤتمر شرائع السماء وحقوق الإنسان
عودةٌ للجذور
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أُرسِلَ النبي الخاتِم محمد (ص) لإكمال مسيرة الذين سبقوه من الأنبياء، ولإتمام منظومة القيم الإنسانية والشرائع الضابطة التي تدرَّجت السماء في إنزالها إلى الأرض لتسهيل رحلة انتقال البشر من الهمجيّة إلى الإنسانية، وهو ما أكَّده قولُه (ص) “إنما بُعثتُ لـ أتمّم مكارم الأخلاق”. فأخلاق المدنيّة الفاضلة وشرائعها مثل: حريّة الاختيار، والعدالة، والمساواة، وصيانة الحقوق، وإغاثة المسكين، وحماية المستضعف، واحترام الآخر، والإحسان للوالدين، وإجارة المضطرّ، وإكرام المرأة، ورفع الظلم، وتوفير الحوائج وغيرها.. كانت هي الأسس والمقاصد الكُبرى التي قامت عليها جميع رسالات السماء.
وحين بُعِثَ النبي (ص) بالرسالة الخاتمة كان بعضٌ من آثار تلك الأخلاق ما زال باقياً عبر العادات والأعراف السائدة ذلك الوقت. ولكن الكثير منها ومع تقدّم الزمان قد تلاشت وذهبت طيّ النسيان بسبب انحراف الإنسان عن بوصلته الربّانية. وأحداث السيرة النبوية أثبتت أنّ النبيّ (ص) لم يُبقِ مهمّة “إتمام مكارم الأخلاق” في أطرها التنظيرية فحسب بل أنفذها على واقع المسلمين، بل وواقع العالَم حوله، لتُصبح مشهداً إنسانياً معاشاً جهَد للتأسيس له وتكريسه طيلة دعوته ليكون هو المشهد الخاتِم للأمة الإنسانية. والشاهد على ذلك هو المستوى الحضاري الذي بلغه المجتمع المدني في المدينة المنوّرة وحواليها بعد الهجرة.
ولكن بعد وفاته (ص) انقلب المشهد وبدأت بعضُ تلك القيم والأخلاق تنحرف وتأفل، فصارت مصالح سلاطين الدول التي تعاقبت على الأمّة هي المؤسِّس لثقافة الناس وهي التي تُشكِّل وعيهم وموازينهم، وبات الدِين قالباً تصوغه أفهام الرجال وقرائحهم متأثّرين بتحدّيات ومآزق واقعهم الذي يعيشونه، وكأنّ شرائع السماء دفّة مركبٍ كلّما جاء ربّان جديد بدَّلَ وجهتها، حتّى تاهت المعاني الأصيلة في بحرٍ هائجٍ من التأويلات المتنافرة لآراء الرجال وتفسيراتهم، وانتهينا بنسخ كثيرةٍ للإسلام وبمشاهدٍ مغايرةٍ تماماً للمشهد الحضاري بمدينة الرسول (ص). أمّا فيما يخصّ التشريعات الإسلامية فقد برزت عدّة تأويلات مفارقةٍ للمقاصد الكُبرى وتتناقض بشكل جوهري مع البنية الإنسانية للشريعة الغرّاء ومع السُّنّة النبوية المدنية، وتتناقض كذلك مع الأعراف المتناغمة مع جميع شرائع السماء.
ولكن، كما كان هناك أثرٌ للسماءِ ما زال باقياً حين بُعِثَ محمّد (ص)، كذلك اليوم بقيت آثار منظومة الأخلاق والقيم التي بثّتها الرسالات السماوية، ونجحت البشرية إلى حدٍ ما في الإستفادة من المقاصد الكُبرى لشرائع السماء، وصار العالم المتحضِّر يرسم نظمه وقوانينه الدولية مترسّماً ومستلهماً جوهر تلك الآثار المتوارثة، حيث السماء أصّلتْ مقاصد كُبرى لا يمكن لأيّ مجتمع – في أيِّ زمانٍ ومكان – تجاوزها مهما تغيّرت الظروف، فهي التي أسّست للحريَّات الفكرية والدينية عبر الإعلان الإلهي العالمي لحريّة المعتقد في مثل: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ“، ونظَّرَت لحقوق الفقراء والمُعدمين في مثل: “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”، وقرَّرَت أن لا تمييز على أساس العرق والدين والطائفة واللون والمذهب في مثل: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ“، وأعلنَت الحقوق الإنسانية للوالدين والمسنِّين في: “وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا“، وأصَّلَت مبدأ الحوار في العلاقات الإنسانية في: “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا“، ووضعَت اللبنات الإنسانية الأولى لقواعد الحروب في مثل: “لا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا“، ولم تغفل حتى مبادئ حماية الملكية الفكرية في مثل: “وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ“، ولا حتّى حقّ الإنسان في الهجرة واللجوء في: “أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا“، وصولاً إلى التأسيس لمبادئ الجوار والحدود الدولية في وصايا حفظ الجوار وإكرام الجار، وغيرها الكثير ممّا تقوم عليه الدولة المدنية الحديثة.
فنظراً لكون القيم الإنسانية فطرية وعالمية، ونظرًا لأنّ منظومة القيم الفطرية هي التي أفرزت الأخلاق كقانونٍ داخلي يعمل في الضمائر، وأفرزت الأعراف والشرائع كقوانين اجتماعية مدنية ضابطة، ونظرًا لأنّ الأديان الكريمة حاولتْ جهدها ملء هذه المساحات وآخرها (الإسلام) جاء ليتمّ مكارم الأخلاق لإفشاء سلامٍ عالميٍّ بين الشعوب لتتعارف وتتكامل، ونظرًا لأنّ البشرية -مع وجود قيم الأديان وشرائعها وجهود أنبيائها وتراث حكمائها ومصلحيها- انتكست وغلّبت جشعها وهمجيتها فقامت تُفتّت إنسانيتها بالشقاقات وبفوقيّة القوميّات وبآثام الحروب، ونظراً لأنّ أصحاب الأديان مِن أجيال الخلائف دخلوا جحرَ الضبّ الذي دخله مَن سبقهم فانقلبت أخوّتهم خصامات وصدامات، ورحماتُهم قسوةَ قلب.. وبالتالي استباحات لمقدّسات الشرائع ومسخاً لكريم قيمها، ونظرًا لأنّ البشرية بعد اكتوائها بالحروب العالمية الماحقة استعادت بعض وعيها وأعادت إبراز منظومة القيم وشرائع الأديان وقوانينه الإنسانية في قوالب عهود ومواثيق دولية تخّفف الحروب وتحسّن الجوار وتؤهّل للأمن والقسط والسلام، إلاّ أنّ عوائق جهل السنين وظلمها ظلّت تعمل في أصول الثقافة والشرائع والتطبيقات لأنّ جذرها كامنٌ ويعمل في النفس الإنسانيّة، ويتحيّن القفز للتصدّر في كلّ منعطف أزمة ومحنة لتكون طباع السباع هي أخلاق الإنسان، فلذلك:
إنّ جمعية التجديد الثقافية، ومن خلال رؤيتها[i] في تمكين الأمة من شرائعها السماوية ومن مخزونها العقلاني والإنساني، ومن خلال رسالتها في استنفار الطاقات المخلصة واستنطاق العقول الحرّة وجمع صفوة العلماء، وبعد قراءتها للواقع التشريعي والمدني والحقوقي الذي تعيشه الأمّة اليوم، بل والعالَم، في قسوة قلبه على أرض الواقع بعيدًا عن إرثه الإنساني وعهوده الدولية، وبعد معاينتها لحالة التباعد الذي تعاني منه الأمة بين إرثها الإنساني الضخم وواقعها الذي يفتقر إلى فقهٍ جامعٍ يكرِّس مبادئ حقوق الإنسان، فهي بصدد عقد مؤتمرٍ عامّ يضمّ نخبة من العلماء والمفكّرين من العرب والمسلمين، محاولة منها لتلمُّس الطريق نحو إعادة الاعتبار للجوهر الإنساني في تراث الأمّة وبالأخصّ في دعوة محمد (ص) لتصحيح مسارنا كي نُسهم مرّة أخرى في بناء الحضارة الفاضلة.
يسعى المؤتمر إلى الاستفادة من المقاصد الكُبرى للشريعة الإسلامية والاستلهام من جميع شرائع السماء، والاستفادة من الإرث الحضاري الإنساني برمَّتهِ وذلك لوضع الأسس والمنطلقات الفكرية والثقافية والعقائدية التي يستند عليها المشرِّع المحلِّي والدُّولي لصياغة قوانين إنسانية حضارية صالحة للبشرية جمعاء مهما تباينت ثقافاتها وأديانها ولغاتها وألوانها وأعراقها، ويهدف المؤتمر إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسية:
يقوم المؤتمر بتحقيق الأهداف المرجوّة عبر خمسة عشر ورقة بحثية موزَّعة على خمسة محاور رئيسية: