أخلاقيات الكمال

قال الأخلاقيون إنّ مفتاح الكمال الأخلاقي في التوسط بين الإفراط والتفريط، فكل كمال فهو واقع بين نقيصتين. وقال المتصوّفة مفتاحه الزهد الذي يُحرّرك من الأغيار، ومتى استغنيت عن شيء فكأنك ملكته، وقد استعبدك ما ملكك، فالحرية ‘هي الانطلاق من رقّ الأغيار’.

الأخلاقيون والمتصوّفة أرباب سلوك، والسلوك إرادة بدايتها النوايا، والنوايا مركزها القلوب، وبداياتها أفكار، والأفكار مركزها العقول، والعقول ماردٌ جبار محبوس في قمقم، لا إرادة مستقلة له، فلا ينطق حتى يُستنطق. تواجهه النفس ماردٌ جبار آخر، ولكنه مارد نشط طليق خارج القمقم، فهو يتمرّد ويتحايل ويتلوّن ويمكر ويتشهى ويُضلّل ويُراوغ ويُناور طلباً لما يريد وهروبا من أن يحبس في القمقم.

ومعركة كمال الإنسان قائمة على إطلاق العقل مع حبس النفس، ولا تكون النتيجة مثمرة إلا بهذا، فمن المتصوّفة من حبس النفس ولكنه لم يُطلق العقل فسيطرت عليهم الخرافة، ومن أهل الفكر من أطلق العقل ولكنه لم يحبس النفس، فتشيطنت عقولُهم أو ضلّت وصارت في خدمة الأهواء.

المعركة الكبرى والمنازلة الأبدية للإنسان هي في أن يعمل على إطلاق عقله من القمقم ليُدخل النفس فيه، وهو ما نُسمّيه جهاد النفس، ومفتاحه مخالفة الهوى، وهي معركة لا يمكن الفوز فيها بالضربة القاضية، فطبيعة توازن القوى بين الخصمين تجعل ذلك مستحيلا، بل هي معركة طويلة ومُضنية ولا يكون النصر فيها إلا بالنقاط، وأما الهزيمة فليس من النادر أن تكون بالضربة القاضية حينما يتواجه طليقٌ ومحبوسٌ، وما أندر من اجتاز المنازلة بنصر مُبينٍ من الآدميين، ولكن كثيرون استسلموا بل لا يجدون للمعركة معنى، فأخذوا راية العقل وانضموا بها لجيش النفس فصارت عقولهم جنداً من جنود نفوسهم، فهي كالخبير في خدمة الجبابرة، وكالفقيه في خدمة السلاطين!

وإن أردت معرفة نفسك فانظر هل تتْبع ظلَّك؟ إنّ مُتّبع هواه كمن يَتْبع ظلَّه، فقد يظنّ أنّ قراره مستقلّ وحرّ وعن إرادة، ولكنه إنما يتابع هواه المنعكس عنه كانعكاس الظلّ عن بدنه، ترى كيف تكون حركة مَن يُتابع ظلّه؟ أليست حركة كوميدية تراجيدية في آن؟ هل له أن يتجاوز السقوط؟ هل يقدر على استبصار بقية الطريق وسعة المكان وتعدّد المخارج؟ كلا بالطبع.

إنّ إتباع العقل لن يعصمك من العثرة والسقوط، لأنّ تحصيل كمال العقل في كمال الشروط ليست طبيعة بشرية، فنحن نبدأ من نقص وفي نقص وكل إحاطة لنا فهي إحاطة منقوص بمنقوص، ولكن يكفيك فخرا هنا أنك طلبت الكمال، وأنك تحمل الاستعداد الكامل للتطوّر ومجاوزة النقص، وطلب الكمال كمالٌ في ذاته.

إننا كبشر نؤمن بكينونتنا وبماهياتنا فهذا الإيمان هو ما يُميّز تفرّدنا عن سائر الحيوانات وعن سائر الأفراد ممّن يشاركونا الحياة، فالإنسان كائن ذو إرادة وينبغي لإرادته أن تكون حرّة، ولكن اتّباع الهوى يُضلّلنا ويُلبّس علينا، فبدل أن نجد حرّيتنا في اتّباع الحق والصدق يجعله في اتّباع الأنا، لتتحوّل الأنا محورًا لهما، فلا نقبل الأشياء كما هي، بل نريدها كما نحن، ولكن الأشياء لا يمكن لها أن تكون إلا كما هي، ولذلك نلجأ للخداع، وما نخادع إلا أنفسنا، في قلوبنا مرض فما نزيدها إلا مرضًا، حتى تنقلب بصيرتنا لحالة العمى الداخلي ونفقد التمييز بين الصالح والفاسد، فإذا قيل لنا لا تفسدوا في الأرض قلنا إنما نحن مصلحون! هذه عاقبة اتّباع الهوى.

الأنا الدائرة في حدود ظلّها مصابةٌ بداءين عضاليْن، داء الغرور وداء الكبرياء الزائفة، ففي كل موقف في الحياة وحينما يُعرض عليها مشروع/ فكرة/ قضية/ موقف/ دعوة… فإنها غير قادرة على الالتزام بالموضوعية، ومن ثم الالتزام بالموقف الحق والعادل الذي تقتضيه تلك القضية/ الفكرة/ الموقف… ثم لن يكون ادّعاء الاستقلالية والعزّة إلا تبريرًا مخادعا يلوّن التكبّر والغرور بدعوى الخصوصية.

وربما لصعوبة الخروج من دوامة النفس وأحابيلها المخادعة ودواماتها الجاذبة نحو السقوط، نُصح الإنسان بمخالفة هواه، حينما تُعرض عليه قضية ما، وعجزَ عن اكتشاف وجه البصيرة فيها، فقيل له انظر أيّ الوجوه أثقل على نفسك؛ فهو الأهدى، لأنّ النفس لن تعدم طرح المبرّرات المضلّلة.

ليست هذه مسألة شخصية أو فردية ذات أثر محدود، بل هي قضية كبرى تؤثر في مصائر الأمم والمجتمعات، وتتسبب في تفتيتها وتراجعها وتنكّبها عن الحق، وفي رفضها للأديان المحقة، والأفكار التصحيحية، والحلول المنقذة من مخاطر المشكلات، وهي أكبر معيق عن التجديد والتطوّر الذاتي والجماعي.

الحياة بطبيعتها تفرض علينا أن نسمع، فالإنسان كائن اجتماعي، والاستماع أول فعل وأعظم فعل في تكوين الاتّصال والتفاعل، وأوّل مفاتيح المشاركة هو أن تقبل السماع بالاستماع، فالمتكبّر والمغرور هو من يدّعي الاستقلالية والغنى عن المشاركة بالأخذ والعطاء، فالاستماع هو نافذة الاطّلاع على ما هو خارج الذات.

ولكن الاستماع وحده لن يكفي لتجاوز السلبية والمبادرة لرفض الآخر فكرًا وموقفا، لأنّ مِن حيَلنا أن نقول أننا نسمع في حين لا نسمع، فإجاباتنا جاهزة من قبل الاستماع ولا ننتظر بها إلا ريثما يحين زمانُها ضمن تسلسل الظاهر المنطقي لساعة الكلام.

من الواجب حين نسمع أن نظلّ محافظين على استقلاليتنا وخصوصياتنا، وأن لا نفقد ذواتنا في ذوات الآخرين، هذا أمرٌ جيد، ولأجل أن تتمّ لنا هذه الخصوصية بشكل موضوعي فإنّ كل استماع ينبغي أن يكون متبوعًا بفعل الإنصات، فالاستماع هو استقبال لما عند الآخر ولكن الإنصات هو فعل ذاتي يُعيد تقليب المسموع داخليا بعيداً عن الضجيج، هذا التقليب الذاتي هو الذي يكشف عن النية السليمة وعن القابلية في التأثر والتأثير.

الاستماع له لغة مصوِّتة، وآلتُه آلة السمع، والإنصات لا لغة مصوّتة له، وآلته مسامع القلوب، أنت هنا في عالم آخر يحمل قواعد أخرى، من عالم الروح المحمّلة بالقيم السامية، والمُوجِّهة نحو التناغم مع الأسماء الحسنى، هنا الدعوة للحق والصدق، هنا تدخل الروح على الفكر لتدفع باتجاه التسامي، هنا سرّ مُودع من الله يدفع للتراحم بين الفاعل والمفعول، فإنْ كان ثمّة صدق وحق في كلام الداعي فستكتشفه حين تُنصت، إنْ عجز سمعك وعقلك عن الاكتشاف، الرحمة الربانية ستكشف لك أوجهًا من الفكر عجز عن إدراكها عقلك.. (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف:204) هنا ينتظرنا من فضل الله منتظِرٌ وهي الرحمة، إرادة الرحمة.

فالاستماع بطبيعته يأتي من خلال لغة عامة مصوتة، والإنصات لغة لا صوت لها إلا إنها حبلى بالمفاهيم الروحانية البكر، فكيف نتأرجح بين الاستماع والإنصات ومن ثم نملأ الفراغ بينهما؟ فطبيعة الإنصات هي التنظيم الذاتي للمعرفة العليا (الروحانية) فحين تصغي بمسامع قلبك ستسمع -لا بِلُغةٍ- ما فيه رحمةٌ لك وللآخر (لعلكم تُرحَمون)، وعليك حينها أن تُعيد تنظيم ما وعيته إلى عالم لغتك المُصوِّتة.

كم تخونك القدرة على إعادة الوصف بما وعيت في عالم الإنصات إلى عالم اللغة؟ يعتمد ذلك على مدى تطهرّك، وصفاء نيتك في تكوين وعيك الخاص، لأنك هنا قد بلغت مرحلة حساسة، وستجتالك شياطينك ما وجدت إلى ذلك سبيلا. فإن كانت مرآة نيتك صافية فسيكون انعكاسها عليك جليًّا، وإن كانت كدرة بأدران الأهواء فلن يكون انعكاس عالم الإنصات عليها إلا مشوّشا، وأما عدم الإنصات والتمسك بالغرور فيأخذك إلى مزيد من علل القلوب “فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًاً”.

التعوّد على التأرجح بين الاستماع والإنصات في تقييم المواقف يفتح للإنسان بابا من الرحمة يجتاز بها مواقف الحياة برضا وطمأنينة سواء نجح فيها أو أخفق، لأن إخفاقه لن يكون عن تكبّر وغرور وإنما عن أسباب أخرى ناجمة عن قصور أو تقصير في الأداء.

فالتأرجح بين الاستماع والإنصات في توازنات العقل والقلب يأخذك نحو الاعتدال، وهو موضع الرحمة بينهما، فلو مضينا مع العقل في صرامته لتخشبت القوانين وجفَتْ العلاقات، ولو ذهبنا مع القلب في عواطفه لتمايل مع الحب والبغض، وميّز في القرب والبعد، ولكن العدل والاعتدال ميزان بينهما.

والتأرجح بين الاستماع والإنصات في توازنات السياسة والدين، يأخذ بنا نحو الاستقامة، وهو موضع الرحمة بينهما، إذ السياسة قدرة وسلطان، والطبيعة البشرية تدعو معهما إلى الطغيان والحيف، وبالدين – إنْ لم يكن مزيّفاً فاسدا – تجري عملية التقويم. والدين لو تُرك وحده بلا سياسة لمال وحاف، إمّا على الدنيا كما هي حال كثير المتصوّفة ومَن أساء فهم الزهد، أو على الدنيا والدين كما هي حال المذهبيّين والمتعصبّين، وكلا الحالين بعيدٌ عن الرحمة بالعباد، بعيدٌ عن سبل الرشاد.

والتأرجح بين الاستماع والإنصات في توازنات الإفراط والتفريط يُؤدّي إلى الاستقلالية، لأنّ الإفراط والتفريط كلاهما مظهران من مظاهر اختلال الإرادة، الإفراط في ناحية ضعف الكبح والتفريط في ناحية ضعف الاندفاع، وكلّ ضعيف في ناحية منهما فهو مسلوبُ الاستقلالية التي لا تتجلّى إلا في اكتشاف الخصوصية الذاتية، واكتشاف القدرات، والهيمنة على التصرّف فيها، فأفكار الفرد هي مصدر قوته، وبالاستقلالية يكتشف الإنسان قدراته ويكتسب الثقة في نفسه ويندفع واثقا في تحقيق طموحاته.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *