الاستهزاء آفة الإصلاح

“وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ” (البقرة 67)

ينقل لنا الوحي حواراً دار بين النبي موسى (ع) وقومه، حين أخبرهم بأنّ الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة لمعالجة قضية جنائية طارئة آنئذٍ خفيت عليهم، فاستنكروا واعتبروا ذلك استهزاءً بهم، فما كان منه إلاّ أن استعاذ بالله، ولكن لا من الاستهزاء الذي نسبوه إليه بل من أن يكون من الجاهلين!

فمن هو المستهزئ؟ وما علاقته بالجهل؟ وهل واجبٌ علينا الاستعاذة من الجهل؟ وكيف؟

نتأمّل في هذا المقطع لنستكشف إجابةً للأسئلة الآنفة، ولنستلهم من روح الآية معبراً فيما له علاقة بنهضة الأمة من كبوتها، عسى أن نجعل من الاستعاذة بالله من الجهل تعويذة لنا لاستدامة اليقظة الفكرية، والاعتبار من عثرات الحياة.

عُرف أصحاب البقرة من بني إسرائيل بلجاجتهم وتلكؤهم في الاستجابة لطلب نبيّهم (ع) رغم أنه أوضح لهم: “إنّ الله يأمركم” أي أنه جاء لهم بأمر صريح من جهة عليا موثوقة، ومع ذلك تلكّئوا بطلب تفاصيل زادت الموضوع تعقيداً وكلّفتهم كثيراً، وبما أنهم كانوا بطبيعتهم يستخفّون بالتعاليم ظنّوا أنه يستهزئ بهم كما كانوا يفعلون، ولكن حاشا لمن عرف الله أن يكون من المستهزئين بخلقه، فالمؤمن أبعد ما يكون عن الاستهزاء بالآخرين، لذا ردّ مستعيذاً بالله من أن يقع في هذا المستنقع من (الجهل)، وتعريضًا لهم بأنهم هم مَن يصدق عليهم صفة الجهل لبعدهم عن استشعار الله والإيمان برقابته.

ما علاقة الاستهزاء بالجهل؟

لو تمعّنّا في ماهية الاستهزاء لوجدنا أنّ الجهل سمة المستهزئ الدائمة، جهله بنفسه وبقيم الأشياء هو الذي يسوقه إلى الاستهزاء بالآخر، وقد يأخذ الاستهزاء طابعاً عمليا مريضاً في عمليات الخداع والتغرير والاستخفاف بعقل الآخر وبشأنه.

في القرآن الكريم جاء الجهل بمعنى الاعتقاد الفاسد علمياً ومنطقياً. والجهل مذموم أكان بسيطاً، أو مركّبا على وهْم الغرور، فالمستهزئ جاهل لأنه يعمل بخلاف ما تقتضيه الحكمة والمصلحة (مدّعياً) الفهم والمعرفة والإحاطة والهدى.

لقد ذكر سبحانه الاستهزاء كأداة يستخدمها المتحجّرون المتكبّرون ضدّ أفكار الرسل الإصلاحية المناوئة لمصالحهم (وفسادهم)، ذكرها 22 مرّةً، على أنّها فعلهم، ونزّه رسله أن يستهزئوا، إلاّ أنّه في واحدة نسب سبحانه استهزاءً إلى نفسه كردّ فعلٍ كونيّ تفاعليّ يُسخّف استهزاء المستهزئين في قوله (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة: 14-15)، فاستهزاء الله بهم ليس ابتداء، بل وليس عقوبة وانتهاءً، بل هو عينه ردّ الكون عليهم، أي هو صورتهم في مرآة الكون، فمن يضحك لغبائه فقد ضحك على غبائه، ونعجةٌ تستهزئ لانكشاف عورة أختها أمامها إنّما تستهزئ بنفسها في نفس اللحظة لانكشاف عورتها أيضاً!

يستخدم المستهزئ أسلوب السخرية و(النقد الهدّام) لمواجهة دعوات التغيير والإصلاح، فهو ينتقد لأجل الهدم لا البناء، ديدنه التثبيط والتشكيك والتحطيم، لا يناقش الأفكار وإنّما يشخصن القضايا ويهاجم الأفراد بالاستنقاص منها، ولو كان صادقاً في نقده أو رغبته في الإصلاح، لكان الحريّ به أن يلجأ إلى نقد بنّاء يشخّص مكامن ضعف “الفكرة” المراد نقدها، واستحسان ما يتناسب منها مع الواقع والظرف المتاح، ليتولّد بُعدٌ جديد يؤدي إلى واقع أفضل.

فالمستهزئ (أكان رجل سياسة أو دين) امرؤ مسخَّرٌ للهدم، ورغم أنه قد يبدو أحياناً في صورة ناصح أو مصلح إلاّ أنه لا يملك مشروعاً بديلاً عن الوضع القائم الذي ينتقده، وإنما ينتقد ليخدع الناس وليحقّق مآربه الخاصة، وبالتالي نلاحظ أنّ الكثير ممّن يحملون راية التغيير والإصلاح، إنما يسعون ليقيموا بناءً هو نفسه البناء الذي جاهدوا ليهدموه! فتبقى المشكلات تراوح مكانها عقوداً، فمشكلة الاستبداد، والتبعية، والتطرّف، والظلم، والفساد، والتمييز، والبطالة، والفقر، وغيرها الكثير هي هي!

قد يمضي المستهزئون بعقول الناس ومصائرهم بعيداً في عملية الاستخفاف والخداع لأنهم استغلّوا حاجات الناس الحيوية وضربوا على أوتار قضاياهم الحسّاسة وأوهموهم بأنهم يملكون مفاتيح حلولها بممارسة نقدهم الهدّام واللاذع للأوضاع القائمة أو للتصوّرات المقترحة من غيرهم.

فمثلاً، من القضايا التي عادة تُستغل من قبل مشايخ الدين لخداع الناس والتحكّم فيهم قضية الأحوال الشخصية، حين يستهزئون بعقول الناس وإيمانهم وعفافهم ويصوّرون لهم – بنقدهم المغرض الهدّام – أنّ الحلول والأفكار المطروحة لتقنين وتحسين العلاقات الأسرية وتقرير حقوق المرأة وتدوينها، وإقامة بنية الأسر على أسس من التقوى متينة وسويّة، محكومة بقيم ومبادئ أصلها ثابت كالإحسان والمعروف وحفظ الحقوق، صوّروها وكأنها مخالفة لقواعد الشرع (شريعة الرجال)، أو أنها وُضعت لتسلب الناس تديّنهم، لتكون النتيجة المؤسفة سوْق الناس لتعارض قانون استنقاذها وإصلاحها واعتباره عدّواً يريد خطف إيمانها، هل هناك استهزاء بالناس وبحقوقها وبمقاصد الدين أكبر من هذا؟! لذلك قُلنا أنّ الاستهزاء يُسوّق الجهلَ، ذلك لأنه يصدر من نفوس جاهلةٍ بالإنسانية وبحقوقها وكرامتها، مهما تردّت بأردية العلم والدين والكرامة.

وكذلك بالنسبة للمتاجرين بالقضايا الاقتصادية الحسّاسة كالفقر، والبطالة، وانعكاساتها الاجتماعية على الناس من قبيل الحق في العيش الكريم، فمن الملاحظ أنّ البرامج السياسية للأحزاب المعارضة لابد أن تفرد بنداً خاصاً للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الناس والحلول المناسبة لها، وقد تبدو الحلول منطقية (ظاهرياً)، ربما لأنهم فعلاً استعانوا بخبراء اقتصاديين لكتابة هذه الحلول، ليتحمّس لها الناس فاقدو الأمل في الخروج من نفق أوضاعهم الاقتصادية البائسة، ولكنهم بعد مرور سنوات عدّة يكتشفون أنها ليست إلا ألاعيب انتخابية “واستهزاءً” بآمالهم وعقولهم وبالتالي تكرارا واستمرارا للفشل الذي عاينوه عقوداً طويلة، وأنهم لا زالوا في المربّع الأول.

والحكاية تتكرّر مع الأحزاب والحركات التي ملأت الدنيا احتجاجاً على الديكتاتورية والاستبداد، وصدّعت رؤوس الناس مطالبة بالحرية والعدالة ولكنهم بمجرّد التمكّن يعيدون إنتاج الاستبداد المقيت نفسه؛ من قمع للحرّيات، وظلم، وتمييز، مع فارق مهم وخطير، وهو أنّ الناس المستهزَأ بها ستكتشف هذه الخدعة ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد خسارة المال والوقت والجهد وربّما الدماء والأشلاء، وبعد ضياع سنين من عمر الأوطان والأجيال، والنتيجة؛ الفشل الذريع لأي محاولة إصلاح جادّة جرّاء هذا الاستهزاء الضارب والممنهج، الذي ينقض الأفكار الحقيقية للإصلاح.

وهناك أيضا من ركبوا موجات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وكل شعار جميل، وأدمنوا أفكارها وبريق مفرداتها، استهزاءً بحقوق الناس المغلوبين وعقولهم، لإدامة اللعب على ذقونهم.

خطورة هذا النوع من الاستهزاء المنهجيّ تكمن في تعاطيه مع مشاكل حيّوية وحقيقية، ولكنه تعاطٍ مع قشرة المشاكل لا جوهرها، وهو بذلك يعطي للمعنيّين انطباعاً بأنه يعمل على حلّ مشاكلهم بينما هو في الواقع يعتمد على (الغفلة الفكرية) للناس الذين قد أضحوا مقتنعين فعلاً بما صُوِّر لهم بأنه حلّ جديد لمشكلتهم. وأحياناً يعتمد على أسلوب (دحرجة المشاكل)، أي ترحيلها للمستقبل، فيمنّي الناس بالحلول ولكن يُماطل في تفعيلها دون أن يشعر المعنيّون بذلك؛ فتُعطى الوعود، وتُنشأ اللجان، ثم تقف عند عتبة التطبيق لعدم وجود حلّ حقيقي أساساً، ولا الآلية، ولا الجهاز المكلّف بذلك. كما أنه لا يعتبر من تجارب ما مرّ لتفادي الأخطاء السابقة أو تقليصها، ويفشل في احتواء الثغرات التي تحول دون إتمام المشاريع المطروحة.. وغير ذلك، لكنّه لن يخلو من الكثير من التصريحات والفقاعات والزخرفة الخادعة.

“أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين” .. تعويذة لاستدامة اليقظة الفكرية..

نخلص مما تقدّم إلى أنّ الجهل أسّ المشاكل، ولكي نحافظ على يقظتنا الفكرية من السقوط في أسر الجهل، ولئلاّ نكون من الجاهلين، لابدّ لنا من خطوات عملية تعيذنا من هذا السقوط ونتائجه.

نقتبس من المأثور قولاً حكيماً يعيننا على ممارسة وعي أعلى مما نحن عليه، بعد أن نخرجه من إطاره الديني البحت لنجعل منه دعاء عاماً لكل مصلح يريد أن يقع إصلاحه موقع القبول في البيئة التي يسعى لإصلاحها:

اللهم إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعمل لا يُرفع، ودعاء لا يُسمع”، فنستعيذ بالله من أربع آفات:

  1. علم لا ينفع: بأن نكدّس علوماً لا نجد لها تطبيقاً في الواقع لأنها ببساطة لا فائدة منها للناس.
  2. قلب لا يخشع: جرّاء الغرور، والتكبّر، والشعور بالتعالي على الآخرين بعقيدة أو بتميّز، معتقدين أننا نملك الفضل أو الحقيقة، ولا حاجة لنا بالآخرين، بهذا لن نبحث عن الحلول الواقعية الصالحة ولن نخضع لها.
  3. عمل لا يُرفع: بالقيام بأعمال وهمية لا ترقى إلى مستوى حاجات الناس الحقيقية، فلا يجدون فيها تلبية لمطالبهم ولا حلاً لمشاكلهم، أعمال لا ترضي الله ولن تجد قبوله.
  4. دعاء لا يُسمع: النداءات التسويقية التي ملّت الناس من سماعها لكذبها عن مسّ واقعهم، وتأمين مستقبلهم، قد يستطيع المستهزئون من الزعامات أن يخدعوا الناس ويستهزئوا بعقولهم بعض الوقت لكن ليس كل الناس وليس كلّ الوقت.

فللخروج من ظلمة الجهل والتوقّي من أن يستهزئ بنا المستهزئون، علينا حمل العلوم النافعة للناس، ونتواضع للحق والصلاح أينما وجد ومن حيث أتى، ونعمل بإحسان حقيقي لرفعة الناس بصدق وإخلاص، وندعو لأعمال ومشاريع توفّر حقوقهم الطبيعية وكرامتهم وحريتهم الحقّة.

ملخّص ما نستلهمه من روح الآية الشريفة:

  • الاستهزاء بالآخر جهل، والمؤمن الحقّ طبعُه نقيض الاستهزاء.
  • الجهل وأخلاقه وأدواته ليست من الله أو الإيمان به، لذا لابد للمتصدّين لعملية التغيير واستنهاض الأمة من تضييق مساحات الجهل بتوعية الناس بحقوقهم وتحرير عقولهم لا الهيمنة عليها.
  • الانتقال من حالة الجهل والفوضى إلى النظام والمعرفة، ضرورة إيمانية، علينا الانتقال (عملياً) من حال الجهل إلى المعرفة، لأنّ الاستعاذة بالله فعلٌ يقوم به المرء ضدّ ما يستعيذ منه.
  • المؤمن بالله إنسانٌ متسامح، يسمح للآخر المخالف أن يبدي رأيه بحريّة دون أن يقمعه “ويستخفّ” بأفكاره وعقائده، فيتّسع صدره لتقبّل الاختلاف، وتفهّم الطرف الآخر، وتحمّله إلى أن يصل إلى الغاية.. هكذا فعل النبي موسى (ع) في المثال.
  • المستهزئ الذي يجعل من نفسه أداة لإيذاء الآخرين، والاستهانة بعقولهم، وإفساد كل ما من شأنه أن يصلح حالهم، لابد أن يتوقّع انفضاحه.
  • ليس من الضروري أن تكون أفكارنا، آراؤنا، دعوتنا، كلّها مقبولة من الآخر، ولكن من الضروري، أن تكون كلها واضحة وصحيحة وصادقة، أي يجب أن لا نخدع الناس ولا نستغل جهلهم بل نطرح عليهم ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع، فلا نبيعهم أوهاماً، فموسى (ع) جاء بفكرة صحيحة لحلّ قضيّتهم وإن لم يتقبّلوها بدئاً.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *