جلستْ مستلقية تنظر إلى ما جمعته من حبات الرُزّ لشهورٍ ستة قادمة، نظرة اعتزاز وافتخار وغرور وإعجاب، منتشية كثيرًا لإنجازها، فقادها هذا الحال إلى سؤال نفسها بكبرياء: يقولون هناك مخلوق اسمه إنسان يستطيع أن يمحو عشرات الآلاف من النَّمل برمشة عين؟!! ما أغباكم وما أجهلكم! تدَّعون ما لا تملكون إجابات بديهية عليه، كم حجم هذا المخلوق؟ لنفترض جدلًا هو عشرة أضعاف أجسادنا، فهل يمكنه أن يقضي فعلًا علينا أو يبيدنا كما يدّعي؟! كيف يمكنه أن يحيط بأحوالنا ومتاهات مساكننا؟! كيف له أن يدخل في جحرنا إذا كان حجمه عشرة أضعاف حجمنا؟! وإذا كان لديه بيوت وقدرات وآلات ومواد حارقة وأسلحة فتّاكة حقيقة، فأين هي؟! ولِمَ لَمْ نرها قط؟
استلقتْ مرة أخرى وغطَّت في نومٍ عميق وهي في غاية السَّعادة، أسئلتي المحيّرة هذه لن يستطيع أحدٌ أن يجيب عليها. هكذا قالت قبل أن تنام.
حجم الإنسان بالنِّسبة للكون أصغر بما لا يُتصوَّر من حجم النَّملة بالنِّسبة للإنسان، وعلى مدى آلاف السِّنين ما زالت أسئلته عن الله لا تتجاوز في أفضل صورها أسئلة النَّملة عنه، أسئلة مشوبة بغرور وجهل مطبقين. إنَّ البحث عن معرفة الله بهذا النَّوع من الأسئلة، التي تبدو أنَّها محيّرة للعقول، والتي يقول الفلاسفة أنَّهم عجزوا عن الإجابة عنها، وأنّ عقولهم تاهت في التَّفكير دون أن تصل لإجابة شافية عليها، لا تتعدّى في بلاهتها وسخفها أسئلة النَّملة عن الإنسان.
السؤال عن «عدالة الله» في الخلق، النَّاتج عن أزمة الإنسان مع أخيه الإنسان، أو تسلّط فئة على أخرى وظلمها له وتشريدها وتعذيبها وحرمانها، سؤال ساذج وسخيف كسؤال النَّملة عن أين هو المخلوق المسمَّى إنسانا وهي قابعة في جحرها، معتقدة أنَّ العالم خارجها لا يتجاوز عشرة أضعاف حجم هذا «الجحر العظيم».
إنّ محاولة معرفة الخالق بعكس قدرات المخلوق خللٌ منطقي في التَّفكير، لن يقود إلا إلى مثل اطمئنان النَّملة السَّاذج هذا! وكان حريّاً بالنَّملة أن تتفكّر في نفسها وفي قدراتها وفي خلقتها وفي عقلها وفي تدبيرها لتعلم أنّ وجودها أوسع من جحرها، وأنَّها ليست إلا ذُريرة (تصغير ذرة) لا تُرى أصلًا، وأنّ التَّواضع وحده هو ما سيقودها لمزيدٍ من المعرفة لا الغرور. بل إنّ فلاسفتنا مهما كبروا في عيوننا وكبرت عقولهم في أنفسهم، ستبقى سذاجتهم في البحث عن الله كسذاجة النَّملة وقصر علمها.
من الخطأ أن نبحث عن الله بعقلية «جحور النَّمل»، والأولى أن نبحث عنه في أنفسنا، فهو يتجلى فيها بصورة أوضح وأكمل وأوسع، سنجد الله حتما إن تفكّرنا في الله بدءًا من أنفسنا، حينها يمكن أن نكوَّن معرفة صحيحة المبنى لها قابلية الوصول إلى الحقيقة، لأنّها حتما لن تتقوقع بعقلية جحور النَّمل. ويا أسفاه على إضاعة العمر في هذا الأسلوب من التَّفكير، فربما يطبق علينا حينها الموت ونخرج من هذه الدنيا ولم نتذوّق أجمل ما فيها، كتلك النَّملة التي قد ينتهي مصيرها بوطأة قدم طفل إنسان، وقد قضت حياتها ناكرةً وجوده لأنها محجوزة في حدود جحرها وفرضيّة عقلها!
استجابات