الحق معيار كوني

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة:147) لقد قطعت البشرية شوطا طويلا من الاتفاق على معايير موضوعية نافذة وحاكمة في المجال المادّي أكثر بكثير مما ضبطته في المجال المعنوي، ففي حين نرى التجربة الإنسانية في مجال الأقيسة (المترولوجيا) قديمة جدا، حيث وُضعت أُسس تلك المعايير منذ أن وعى الإنسان القديم حاجته لتبادل الطعام والمنافع فوضع وحدات القياس والمقايضة، نرى أنّ المعايير في المجال المعنوي لا زالت مضطربة في سلّة المصالح الذاتية للأفراد والجماعات والطوائف والدول.

فعلى الرغم من وجود نسبة من المعايير الدولية المتفق عليها بين الدول مركونة في مكاتب الأمم المتحدة، لكننا لا زلنا نشاهد يوميا نتائج ذلك الاختلاف في المجال المعنوي قتالا مميتا وداميا في أكثر من بلد، فهل سبب هذا الاختلاف والتضارب سوء التطبيق؟ أم أنّ ذلك يتعدّاه ويشير لثغرات في المعايير نفسها؟

فكثيرة هي دلائل غياب المعايير في المجال المعنوي فتقسيم العالم على أنه عالم أوّل وعالم ثان وثالث لهو من سنخ ذلك الغياب، وتقسيم العالم على أنه سماطيْن للحرب والعداء أيضا دليل آخر، وفرز الناس على أنّ قسما واحدا منهم فقط هو شعب الله المختار أيضا دليل، وأخيرًا التصريح بوجود فرقة من الناس أنها “الفرقة الناجية” وبقية الفرق إلى النار أيضا دليل، أمّا الفوضى في المعايير المفهومية فحدّث ولا حرج، إذ هي أشرّ الشرور؛ كمفاهيم الإرهاب، الدين، الحقّ، الشرعية، التقوى، الحرّية (بل ومفهومي الخير والشرّ أيضاً)… هي عرضة للتحرّك صعوداً ونزولاً، والحشو بمضامين خفيّة تناسب مستخدميها لاجتياح الآخر المختلف أو المخالف، ولم تثبتْ بعدُ لتكون معيارًا عالميا قياسيّاً نزيهاً صالحاً لتبرئة الجميع أو إدانتهم وفْقَه.

فما لم يتم البحث في تلافي ذلك، بإشراك كل من يستطيع المساهمة في بلورة وصياغة تلك المعايير (والمفاهيم) مما تختزنه سجلات الأمم من ثقافة وضياء وإخراجها من أسر الذاتية والعلوّ لتتلاقى مع نور الموضوعية؛ معايير ضامنة للفكر وللسلوك السليم وفاعلة في الواقع، كمعيار “الحقّ” في الفكرة، “الصلاحية” في التطبيق، “التقوى” في السلوك، “الوعي” في المهمّات والإدارات، “الأمانة والكفاءة” في المسئوليّات، “الخيريّة” في المشاعر والمقاصد والأفعال،.. الخ، فلن تنجو الإنسانية.

الأمر يتطلب الخروج من شتات المعتقدات الفئويّة المتضاربة، بوجود مؤسّسة نزيهة جامعة تستطيع التعبير عن مطالب المستقبل، بعيدة كل البعد عن المصالح الذاتية وأخواتها، لبلوغ تلك النتيجة الملحّة جدّا.

“الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ”

إنّ المدلول الإنساني الذي تحويه هذه الآية يحثنا على التعامل مع الحقّ كحقيقة موضوعية خارج ذواتنا، حقيقة شاملة لا تكاد تحتويها ذاتُ فرد ولو كان نبيّاً، فضلاً عن جماعة أو طائفة أو دين، ومعيار صدق الارتباط بها هو أمرٌ خارجي قابل للقياس والرصد والمحاكمة المنطقيّة، لا هو إرثيٌّ ولا ادّعائي، يمكن أنْ ينهل منه الجميع كلّ بمنهاجه وشرعته، وبسعة فهمه وقدرته، وبحدود طاقته واستيعابه وإخلاصه.

فالحق معيار ثابت، لا يميل ولا يدور مع أحد، ولا ينقص أو يتأثّر باختلاف الناس أو تخالفها عليه، فالناس تسعى وتتحرّك تجاهَ أو بعيداً عن الحقّ، لا فضل لأحدٍ على آخر، ولا احتكار لأحد له دون آخر، فلا سيّد ومسود، ولا تمايز لقوّة أو لحجم دولة متقدّمة حضاريا أو متخلّفة، فالكل سواء أمام هذا الحقّ والكل مسئول (مُساءَل).

فكما كان الرشد سمة الناس في تعاملاتها بالمقاييس العلمية (المترولوجيا)، فمن يتقدّم عليها ويُزايد يكون واضح البطلان أوالغشّ في تعاملاته وتبادلاته التجارية، ومن يتأخّر عنها يكون واضح التقصير والتخلّف في مستوى التقنية والصلاحية، فالمطلوب أن يحرص كل طرف على أن يكون راشدًا كيلا يضرّ أو يُضار.

كذلك الحال في المعايير المعنوية المطلوبة، فحاكمية هذه المعايير لازمة للسلام والنماء فلا تأخّر عنها ولا تقدّم عليها.

فما هو الحق؟ وما هو الطريق إليه؟

الحقّ هو الأشياء كما هي، أو كما ينبغي أن تكون..

هو القوانين الكونية الثابتة الناظمة للموجودات (بمن فيها الإنسان والمجتمعات) لتقوم بكمال وظائفها نحو غاياتها المثلى، وفي عالَم السلوك فإنّ “الحق مجموعة فضائل مطلقة تنتج قانونا صارماً”، لذلك فالحقّ مرجعية المختلِفات.

مما تقدّم أعلاه فإنّ مسئولية الوصول لهذا المعيار الضامن لسلوك إنساني رفيع في المجال المعنوي يتطلّب ان تستخرج كل أمة فضائلها (رشدها) لتضمها مع كل الفضائل وتستخرج منها قانونا ناظما للسلوك ومسيّرا له وحافظا له من الاستغلال.

فكل طريق تقطعه أمّة للصواب فهذا جزء من الحقّ، وكل فكرة أو مقترح أو قانون يقرّب الناس للصواب فهو جزء من الحق، فما يُوحّد الناس ويجمعها (التوحيد) على محور تلاقٍ ينظّم بها سلوكها ويفعّل اجتماعها ويحفظها من الانتهاك ويستثمر قواها لهو طريق رشد، ومهما قرب الطريق أو بعُد عن الحق في مسألة ما فهو صوابٌ نسبيّ ولا يعني أنّ اقترابه فيها حقّ مطلق فالله (وقانونه الأسمى: مثلُه الأعلى) هو الحق.

ومسئولية الأفراد أمام هذا الدور أعظم وأكبر وأهم، فالحق هو الصراط المستقيم إما أن تمشي معه أو تمشي باتجاه عكسي، والمعترض قد يميل فيقترب أما المختلف فعليه تحويل اتجاهه.

“فلا تكن من الممترين”

المماترة لغةً، مِن متْر الحبل يعني شدّه، تماتر القوم الحبل أيّ شدّه كلٌّ مِن طرف، فالحقّ مِن ربّك، لا منك ولا لك خاصّة، فلا تجرّه نحوك ولا تميل به جهتك، امتتر الحبل أيْ جرّه (قطَره)، ومنها جاءت كلمة مترو (Metro) كمقطورات تجرّ بعضها، والمَتْر قطعة الحبل (صارت مقياسا للطول “متر” (Meter)) ثمّ استخدمت كمصطلح لأداة كلّ قياس.

فإرادة وضع هذا المعيار الناظم والمسيّر والحافظ للسلوك الإنساني تقتضي وجود حقّ معياري ثابت خارج الرجال والجماعات وعلى مسافة واحدة منهم ابتداءً، وأن تنأى كل الأطراف عن فعل المماترة وهي:

  • تفصيل للمعيار بحسب المصلحة الشخصية للفرد أو الجماعة أو الطائفة، لجعل الحقّ يميل ويدور مع الرجال بدل أن يُلزَم الجميع بالدوران معه والميل نحوه.
  • تغليب الرغبات الذاتية على حساب المصلحة الكلية الجامعة.
  • نقض شمول سيادة الحق بإعطاء الرخص والاستثناءات لعقيدة، لدولة، لزعامة، لتكون فوق “الحقّ”.
  • مصادرة لحقّ الآخر في اختيار عقيدته، وتكوين رأيه، والتعبير عن خياراته.
  • كفرٌ بحق الآخر، في كل ما يتعلق بالحياة، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أم غير ذلك.. فالحقّ كالحياة والموت، فإذا كان الموت حقّا على الجميع، فالحياة حقّ للجميع.
  • العلوّ والتفاضل على الأجناس والأنواع، بدل التكامل المندوب له والمطلوب من المتنوّعات العبور له لتحقيق مستوى أفضل وأرقى إنسانيا، فكلّ فرد له طبيعة وميول خاصة به هي أشبه بميول التخصّص كالزراعة والصناعة وغيرها فهي للتكامل وليست للتفاضل.

لقد ورد النهي عن المماترة في أربع سور متفرقات[1]، والدرس الذي يجب أن نتعلّمه من خلال تلك الآيات هو تركيز النظر على ما تدعو وترشد إليه من ضرورات إنسانية لكي ينهض الناس بواجباتهم وبأعباء مستقبلهم، وترك اتّباعهم سبلاً أبعد ما تكون عن مسار الرشد.

فسيادة الحق (المعيار) كمفاهيم منضبطة، وكمؤسّسات وكقوانين، هي الوحيدة الضامنة لبقاء النوع الإنساني وتحريكه معاً نحو كماله، بتثبيت “الحقّ” كمرجعيّة ترجع المتقدّم عنها وتُلزم المتأخّر عنها باللحاق، إذ التقدّم عليها مصيبة والتأخر عنها مصيبة أخرى، فحينها سنوّفر لأنفسنا حياةً كريمةً منسجمة مع قوانين الحقّ الكوني الشامل والمستغرق للأشياء، ولمستقبل أجيالنا أماناً وتطوّراً.

  1. – البقرة (146) آل عمران (60) الأنعام (114) يونس (94)

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *