اسأل الناس من حولك عن معنى الخير ومعنى الشر، بل ابدأ بنفسك فبل غيرك ثم حاول الإجابة على السؤال، هل تجد إجابة شافبة كافية، الخير والشر مفردات عرفها الإنسان منذ القدم وشغلت تفكيره، بل الخير والشر ثنائية تحكم تفكيرنا، ولها تجلياتها على أرض الواقع، ولأنها كذلك فلكل منا نظرته الخاصة وزاويته الفريدة التي منها ينظر وبها يشخص حتى وإن لم يمتلك تعريفا لهما. الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش مثلا أوجد تعريفه للشر وحدد محورا له، وصرح مرارا وتكرارا مبينا مواصفات محور الشر، وسمى دولا كمصاديق له، كما لم يغفل تسمية الخير والإشارة إلى مصداقه، ويقدمه في أنموذج العالم الغربي الذي يسعى لتحقيق قيم الديمقراطية ونشر العدالة. فهل نملك نحن تعريفا واضحا لمعنى الخير والشر على المستوى الفردي؟ وإذا وجد هل يصلحُ ويرقى لكي يكون معيارا نضبط من خلاله سلوكنا؟ ونحدد به ونقرر خياراتنا؟ هل نستطيع ذلك حتى تكون خياراتنا خاضعة لمعايير واضحة ودقيقة وصحيحة؟ ” الخير” لفظة اعتنى بها الوحي وأعطاها مساحات ومعاني عديدة لأنها مفهوم يحمل وجهين، أحدهما ثابت وآخر متغير. نرى القرآن زاخر بلفظة “الخير” والخير لغة كما جاء في المقاييس هو “الخاء والياء والراء أصله العَطْف والميْل، ثمَّ يحمل عليه. فالخَير: خِلافُ الشّرّ؛ لأن كلَّ أحدٍ يَميِلُ إِليه ويَعطِف على صاحبه”، وإجمالا نقول أن اللفظة في القرآن حين تذكر فإنها تعني ما تميل إليه الفطر السليمة من الأخلاق والفضائل وهو ما يمكن الاصلاح عليه على أنه خير مطلق ومثال عليه قوله تعالى ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ… ﴾ (آل عمران: 104)، فالخير هنا اسم مُعرف ولا يفترض فيه أن يشتبه على الإنسان وبالتالي فهو يشير إلى ماهو معروف يالنسبة له، وأي معروف عنده أكبر مما ترضيه الفطرة من القيم والأخلاق، ولذلك هو ثابت لا يتغير بتغير الأشخاص والزمان والمكان.
وأما الوجه الآخر للخير فهو نسبي وفيه أشار القرآن للنعم التي يمن الله به على الإنسان وقد ذكر القرآن أمثلة منها كالمال في قوله تعالى ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْراً… ﴾ (البقرة: 180)،والمأكل كما في قصة موسى ﴿ … رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير﴾ (القصص: 24)، وسائر النعم من خيل وولد صالح وغيرها الكثير، وفي هذا النوع من الخير منطقة ابتلاء وامتحان وفتنة، وفيه يقول المولى عز وجل ﴿…وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً …﴾ (الأنبياء: 35)، فالنعم موائز بين العباد في العطاء وتفضيل للبعض على البعض الآخر، وهي إما أن تكون وبالاً حين يسقط الإنسان بها ويخلد إلى الأرض، وإما أن تكون رافعة حين نشكر وتستثمر في خيره وخير الآخرين، فلذلك النتيجة لا تخرج عن احتمالين تذكرهما الآية ﴿…إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا…﴾ (الإنسان: 3).
ثمة من يجادل بأن الخير والشر قضية نسبية خاضعة لتفضيلاتنا وأمزجتنا، وهذا رأي نرى لأسباب موضوعية أنه لا يمكن الركون إليه لأنه مجاف للحقيقة، فالإنسان اتخذ قيمه وتبلورت مبادئه منذ قديم الزمان، مبادئ استحسنها وعمل بها منذ اصطفاه الله فسواه ثم نفخ فيه من روحه،لأنها في كنه فطرته وتكوينه لاتصاله بعالم الروح، حيث هو صنيعة الرب وخليفته، فهذه الروح بوصلة الإنسان الذي تشير دائما إلى سيادة القيم. الإنسان “الخليفة” يحاول جاهدا تمثل أسماء الرب ليجسدها واقعا فعليا بمواقف يحياها على هذه الأرض، يحاول تسييد الروح وتغليبها على النفس، وفي هذا السبيل عاضدته الملائكة، كرسلٍ من السماء تأتيه بتعاليم الرب بعد خروجه من الجنة لترسخ القيم، فالملائكة تذكر الإنسان بمنسي الفطرة أولا، ثم تهذيب أخلاقة وتطورها جيلا بعد جيل،لتستقر هذه الأخلاق في معاملات الناس وفي ذاكرة الأجيال المتعاقبة من الإنسانية وسلوكياتهم، لذلك قالرسول الرحمة “إنما بعثت لأتمم مكارم الخلاق” التي بدأ بها آدم وحملها الرسول من بعده وبوصفه الرسول الخاتم يتم منظومتها ويضع لبنة تطويرها، وهي قيم تحول بعضها مع مرور الزمن عرفا قد لا يُعرف لهُ أصلٌ ديني ولا مصدر حضاري ولكنه حتما ينمى إلى مستحسن السلوك الإنساني. بعض هذه القيم والمبادئ تحولت بمرور الأيام بنضج تجربة الإنسان وغياب الأصل الذي تنتمي إليها إلى قوانين إنسانية، يتوافق عليها الناس ويعتقدون ظلما أنها فقط نتاج التجربة الإنسانية في العالم المتحضر ولكن المؤكد أن وجهها الجميل لا يمكن له ولا ينبغي إلا أن يكون من ذات المصدر ونفس مشكاة النور التي نهل منها آدم الأول معنى الحب والسلام، والصدق والشرف وغيرها من القيم. فلا مجال إذا للقول بأن الخير رأي شخصي متحول فهذا رأي يرجعنا إلى فوضى وعبثية تُسقط جميع المعايير الأخلاقية وهو عودةٌ لحياة الهمجية وسيادةٌ لقانون الغاب، وحينها فقط يمكن أن تغدو الأمزجة والتفضيلات الشخصية التي تغذيها النفس والمتبلورة كسلوك في خلق كالغدر والبطش والسرقة والكذب سلوك مستحسن في عرف “أخيار الغاية”. الجدل الذي ذكرنا أعلاه يقودنا إلى تلمس حاجتنا إلى وجود تفريق جوهري بين الخير والشر، يجعلنا على بصيرة في جميع أمورنا، فالخير والشر لم يعودا واضحين في أرض الواقع، لأن الشيطان طور أساليبه، وعمى مقاصده، والبس الشر حلة الخير حتى بات لا يعرف هذا من ذاك إلا لمن سما روحيا فوق كل هذا الضجيج الذي يملأ الآفاق، لا يتأتى ذلك إلا لمن ألقى السمع وهو شهيد، لا ينبغي ذلك إلا لمن كان له عين يبصر بها وقلب يعقل كل شيء وكان له فرقانٌ يفرق بين الأشياء وأضدادها، والخير والشر هما الضد الأول الذي كان وما يزال”الواجب” الذي على كل إنسان معرفته ولا يعفيه من هذا الواجب إلى أي دين انتمى وبأي شريعة تعبد.
الخير هو اليقظة من سبات الجهل، هو حالة يكتسبها الإنسان ولا يولد بها، والخير حالة من الشفافية تجعلنا متحكمين في عالمنا لا مسلوبي الإرادة، هو حالة تخرجنا من الغفلة والسبات التي تسيطر على الإنسان، وفي هذا العصر يتم إخلادنا إلى السبات بأدوات تخذير متعددة الأشكال والتعقيد، فالمعركة اليوم بين الخير والشر تتمثل في القدرة على النفاذ والسيطرة على وعي الإنسان، ليصبح بعد ذلك أداة طيعة يوجهها الكبراء كيفما يشاؤون، هؤلاء الكبراء الذين يريدون للإنسان أن يظل إمعة من غير أن يشعر، فتارة يخلعون عليه لباس الذل والاستكانة ليوظفوه في احقر الأعمال كمملوك صريح لأيمانهم “عبد” بالمعنى الحقيقي، وأخرى يستميلونه باسم الحرية الشخصية والخروج على منظومات الأخلاق التي طورتها الإنسانية، فأي خير مثلا في إنسان يريد التفلت من قيم العفة باتخاذ صديقة هربا من مشروع الزواج الذي رسخته الفطرة الإنسانية والشرائع السماوية، وأي خير في تقليد سلوك اجتماعي ما دون محاولة للوقوف على سلبياته وايجابياته لتكون الممارسة واعية تدفعها إرادة حقيقية لفعل الخير المتأتي عنها.
ليس هناك سبات أعمق من الجهل بالذات، فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب “ع” يقول “ما عرض لي أمران إلا اخترت أشقهما عاى نفسي” وهذه تفتح الأفق في وعينا على أن الحياة واللحظات مواقف وخيارات تتجدد وتتعدد مع استمرار أنفسنا، وأن الخيارات الصحيحة تتطلب قرارات واعية تخالف أحيانا طبيعة النفس البشرية وهو ما يشير إليه علي عليه السلام “بأشقهما على نفسي” ولا تكون مشقة من دون معاناة تتمثل أحيانا في الصبر والحرمان من أمور يستجيب لها آخرون طلبا لخير آجل أو حتى منظور، وكذلك فعل سيدنا ونبينا محمد “ص” من قبله حين هجر الناس أولا إلى أخلاق أشد بريقا ولمعانا وتوافقا مع الفطرة من التزام بالصدق والأمانة إلى منهج وممارسة متعففة عن الوقوع فيما يشين ليتميز عن كل أقرانه وهو في مقتبل العمر شابا يافعا، وثانيا وهو رجل بصعوده إلى غار حراء القصي النائي عن العيون والقلوب ليتفكر في كل شيء من حوله بحثا عن حقيقة الوجود، وفي هذا خروج كبير على منظومة الأخلاق والتفكير والعقائد السائدة في مجتمع مكة التي توارثتها أجيالها آنذاك.
فمعرفة الذات درجات، وعددها بعدد أنفاسنا، وأدناها هي أولى درجات رقينا، ولا يعني الرقي كما نراه إلا التطور الشخصي على جميع الصعد في سلم صناعة الوعي، أو بعبارة أخرى الخروج من الممارسة اللاواعية التي تحركها نوازع وأغراض آنية لا تمت لبرنامج واضح طويل الأمد بشيء إلى ممارسة منضبطة بهدف استراتيجي محدد حتى تنتظم كل الأعمال مهما كانت صغيرة أو كبيرة في عقد واحد، وهنا مرة أخرى أشير إلى إنسان نموذج تعلمنا سيرته وترسم لنا معالم هذا الطريق وهو يدعو الله أن يوفقه لأن يجعل “أوراده” التي هي أعماله من عبادة وتعاملات وفكر وقبلها النوايا “وردا واحدا” ليس فيه عمل نشاز لا يؤدي إلى هدف استراتيجي تيقن من الحاجة للسعي له وتحقيقه. نشير هنا إلى أن غاية كل هذا السير والعمل الحثيث هو الوصول إلى هدف حددناه مسبقا بتوافق إرادتنا مع إرادة خالق هذا الكون ورب الوجود، فالله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نصل لقمة الكمال الروحي الذي يمكننا من العودة إلى جذورنا، يمكننا من تحقيق جوهر وجودنا ” الإنساني”، هذا الجوهر الذي يريد لنا تفعيل الروح الذي هو نفحة الرب فينا، فنحن نظل دائما وأبدا نحن إلى جذورنا، ولن نلتحق به ونحظى بشرف التمتع بلقائه سوى بتحقيق الكمال والخلود، ولا يمكن لنا أن نتعرف الخير إلا بالتحلي بأعلى درجات اليقظة فالمزالق كثيرة ودقيقة ومتعددة الأشكال والأحوال.
عرفنا الخير فما هو الشر؟ انه عكس ما ذكرنا، تكلمنا عن الوعي واليقظة والصعود في سلم الكمال الروحي حتى الوصول إلى أعلى درجات الوعي والالتحاق بمصدر النور الذي يشع في داخلنا، فنحن إذا حين نتكلم عن الشر نتكلم عن كل ما يؤدي إلى تخدير الوعي، بل نتجاوز ذلك إلى كل ما يمنع التخلص من تلك الغيبوبة التي نغط فيها، وكل ما يعرقل مساعينا ومحاولاتنا لتحقيق ذواتنا الحقيقية للوصول إلى كمالنا الروحي، فالشر يتجلى بصورة كبيرة في الممارسات اليومية التي تغرقنا في التعلق بالقشور والانشغال بها حتى نصبح في غيبة تامة عن إدراك أبسط حقائق هذه الحياة، فالمنشغل بجمع المال مثلا من أجل تكديسه يستحيل عليه الوصول إلى حقيقة أن هذه الأموال إنما يجمعها لورثته ليستمتعوا بها من بعده وقد يدرك الوارث بها من الآخرة مالم يستطع المورث تحصيله بها وهو جامعها قبل أن يدركه الموت، فينفقها الوارث الذي تحلى بمقدار ما من الوعي وسار محققا كماله الروحي على مساعدة المحتاجين والفقراء والمساكين عملا بما تمليه عليه فطرته الإنسانية، فأي غفلة قادت الأب للتكديس وأي شر احتطب لنفسه وهو يغط في سبات غفلته. أخيرا ينبغي لمن يتعامل مع مفهومي الخير والشر أن يعي أنها منظومات تتعدى الخير الظاهري والشر الظاهري إلى معاني أعمق، وينبغي فصل الخير والشر عن مظاهرهما المادية فقط فلا يجوز أن نعتقد بأي حال من الأحوال بأن كل ما يسبب ألما هو شر، وليس كل ما من شأنه أن يحقق متعة آنية هو خير مطلق، وإنما المعيار يبدأ بتغيير نظرتنا ووعينا بهدف وجودنا، بمعرفة إرادتنا الحقيقية وتعريفها، بتعميق نظرتنا للهدف الأوحد لعلة وجودنا، بذلك نصل إلى مقياس دقيق مؤداه أن نُكَونَ إرادة تدعونا لأن نكون في أعلى مقامات الكمال الروحي، ونسعى لذلك بفعل كل ما يحقق هدفنا وإرادتنا مهما تعاظم ألمه، ومهما تطلب من مجالدة لأنه داخل في جوهر الخير.
بمعرفة الخير على أنه حالة من اليقظة الدائمة، والشر على أنه حالة من السبات التي تغرقنا في الانشغال بالقشور بعيدا عن جوهر القيم التي تسموبنا يُصبح لنا “فرقان” مقياس نرصد به ونقيس مثل مقياس رختر الذي يقيس درجة الكوارث التي يمكن لها أن تنزل على معمورة وعينا وإدراكنا.
استجابات