(الفرقة الناجية) .. في الميزان

ملخص ورقة التجديد في مؤتمر الوحدة الإسلاميّة

تلخيص: غدير الهاشمي

بُعث الرسول(ص) إلى قومه وهم على شفا حفرة من النار، نار الفتن والحروب والاقتتال فيما بينهم لأتفه الأسباب، فأنقذهم من هذه الهاوية، ووحّدهم على رسالة واحدة سامية، فكانوا حقّاً خير أمّة أخرجت للناس. أليس من حق المسلم اليوم -وهو يرى حال خير أمّة يؤول إلى هذا التشظّي والتمزّق والتشرذم والضعف- أن يتساءل عن الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ وهي كثيرة، ومنها إساءة فهم بعض المرويات النبويّة وتوجيهها لخدمة مصالح طائفية أو مذهبية أو فئوية، ولو تمّ إعادة النظر في هذه الفهومات بلحاظ ما أفرزته من نتائج سلبية ومدمّرة على الأمّة لخلصنا إلى سُقمها وبالتالي نبذها، إذ يكفي لاستنتاج الخطأ في الرواية أو في فهمها ما ينتج عنه من فساد، فالفهم الصحيح للرواية الصحيحة يثمر توحيداً وليس فساداً أو تفريقاً بين المؤمنين، فقد ركزّ علماء الحديث في تصحيح الأحاديث النبوية جلّ اهتمامهم على الرواة (السّند)، بدل التركيز على مضمون الرواية (المتن) مما أنتج آثاراً كارثية مدمرة على كيان الأمة.

مثال ذلك ما يُسمى بـ (حديث الفرقة الناجية)! والذي يُفترض منطقياً أنّه يحذّر من التفرّقة والانقسامات ويحثُّ على التمسك بالوحدة، إلا أنه انقلب في عقول البعض إلى مِعوَلٍ لهدم الوحدة وأداةٍ لنشر الفرقة! فهل يُعقل أن تكون هذه النتيجة وما آل إليه حالنا اليوم من الانقسام الطائفي والاحتراب المذهبي هو مراد الرسول(ص) من حديثه؟! ثم ألا يتناقض هذا السلوك مع ما قرّره القرآن الكريم من الدعوة إلى الاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرّق في الدين؟!

1- الرواية في ميزان العقل

وقبل أن نرفض الرواية أو نقبل بها لابدّ من عرضها على منطق العقل كأوّل مستقبلٍ لها، ثمّ بعد ذلك على كتاب الله العزيز، بعيداً عن التحقيق في الأسانيد من الرجال لاختلاف الآراء فيهم، فالرّواية إمّا أن تكون قد صدرت بالفعل عن الرسول(ص) أو لا تكون كذلك، وباعتبار كثرة رُواتها ووُرودها بطرق متعدّدة وبصيَغ مختلفة ولكنها متقاربة في المضمون، فلا يكفي لنفيها القول: ربّ مشهورٍ لا أصل له، وإنّما نحن بحاجة في إثبات بطلانها إلى دليل قاطع بفساد مضمونها بشكل لا يحتمل أيّ وجهٍ من وجوه الصحة، وفي المقابل يقتضي القول بصحة صدورها أن تكون قد صدرت في مناسبةٍ ما ولهدفٍ ما ينسجمان مع مضمونها، وإنْ أخطأ المسلمون بعد ذلك فهْمَ ذلك الهدف قصداً أو بدون قصد. وباعتبار –أيضاً- أنّ الواقع صدّق هذه النبوءة وأنّ الافتراق في الأمّة قد حصل بالفعل، فلا معنى للقول بأنّ الرواية في أصلها غير صحيحة، ويبقى أن نحاكم الفهم السائد للرواية، وأن نتساءل عمّا قد يكون طرأ على أصلها من تغيير حسب هذا الفهم عبر التاريخ، أو من أجل توظيفها مذهبياً أو سياسياً، يدفعنا إلى ذلك تعدّد صيغ هذه الرواية حتى أنّك تجد في بعضها من التناقض ما يمنعنا من التسليم بصدورها كلّها عن الرسول(ص)، فلابدّ إذن من البحث عن أصل الرواية ومناسبة صدورها والهدف منه.

ولعلّ صيغة الرواية التي يقبلها المنطق، ولا يُشمّ منها رائحة توظيف مذهبي، وقد جاءت منسجمة مع سبب صدورها وهو (المراء في الدين)، مما يساعد على فهمها في سياقها بشكل صحيح دون التواء في التفسير أو توظيف لمذهب دون آخر، هي هذه الرواية: (روى عن عبد الله بن بريد الدمشقي قال: حدثني أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع قالوا: “خرج علينا رسول الله(ص) ونحن نتمارى في شئ من الدين، فغضب علينا غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهر فقال: يا أمّة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: بهذا أمرتكم؟ أليس عن هذا نهيتكم؟ أوَليس قد هلك من قبلكم بهذا؟ ثم قال: ذروا المراء لقلّة خيره، ذروا المراء فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان، ذروا المراء فإنّ المراء لا تؤمن فتنته، ذروا المراء فإنّ المراء يورث الشكّ ويحبط العمل، ذروا المراء فإنّ المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإنّ المماري قد تمّت خسارته، ذروا المراء فكفاك إثما أن لا تزال مماريا، ذروا المراء فإنّ المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة بيوت في الجنة في وسطها ورياضها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإنّ أوّل ما نهاني عنه ربى بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر المراء، ذروا المراء فإنّ الشيطان قد أيس أن يعبد ولكنه قد رضى منكم بالتحريش وهو المراء في الدين، ذروا المراء فإنّ بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإنّ أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم على الضلال إلا السواد الأعظم. قالوا: يا رسول الله وما السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي، من لم يمار في دين الله ولم يكفّر أحدًا من أهل التوحيد بذنب. ثم قال: إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء. قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، ولا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أحدا من أهل التوحيد بذنب)[1].

إذْ الملاحظ على صيغ الرواية الأخرى اختلاف الأسباب التي تؤدي إلى دخول جميع فرق المسلمين النار ماعدا فرقة واحدة ناجية! وكل هذه الأسباب قابلة للتأويل والتوجيه والاستخدام ضد الآخر المختلف، كما أنّها ليست منزّهةً عن التوظيف المذهبي حيث أنّ كل فريق يعتمد الصيغة التي تصب في صالحه أو في غير صالح خصمه مباشرة أو تفسيرا، بينما تخلو الرواية التي نحن بصددها من كل ذلك كما أنها لم تذكر الجنة أو النار وإنما اكتفت بوصفهم أنهم على الضلال أي لم تحسم أمر هؤلاء أخرويا.

تناقضٌ يُدين الفهم

من الطبيعي أن يختلف المسلمون في فهم النصوص الواردة عن الرسول(ص) وهم الذين اختلفوا في فهم القرآن الكريم، بناءً على اختلاف مستويات عقولهم، ومناهج بحثهم وقدراتهم الفكرية وأرضيتهم الثقافية، ولا بأس في ذلك، فالاختلاف أمرٌ فطري ولكلٍّ فهمُه، ولكن أن يصل الفهم لبعض النصوص إلى حدّ التعارض مع نصوص أخرى واضحة الدلالة ويمثّل تجاهلها اختراقاً للخطّ الأحمر الذي رسمه الرسول(ص) لأمّته، فهذا يعني إمّا عدم صحة تلك النصوص، أو عدم صحة فهمها، فالتوجيهات النبوية لا يمكن أن تتناقض، ولا يمكن بحال الجمع بين الفهم السائد للرواية وما ترتّب عليه من نظرة استعلائية وازدراء للآخر المختلف وبين الكثير من الروايات التي صحّت عن الرسول(ص) كقوله: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)[2]، (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)[3]، (كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه). ثم إنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- قد سمعوا هذا الحديث بشكل مباشر أو غير مباشر، لكنهم لم يفهموه كما فهمه البعضُ اليوم، ولم نرَ له أثراً على سلوكهم بعد وفاة الرسول(ص)، رغم الخلافات التي دبّت بينهم والتي وصلت في بعض فصولها إلى حد المواجهة والقتال كما في الجمل وصفّين، فلم يكفّر طرفٌ منهم طرفاً آخر أو يُدخله النار أو يُخرجه من الجنة، فذلك موكلٌ إلى ربّ الجنة والنار عزّ وجلّ.

المراء سبب التفرّق

لقد غضب الرسول(ص) غضباً شديداً وهو يرى جماعة من المسلمين يتمارَوْن في شيء من الدين، فحذرهم من إشعال نار الفتن والعداوات، مبيناً خطورة المراء في الدين ونتائجه السلبية (ذروا المراء فإنّ نفعه قليل ويهيج العداوة بين الإخوان).

والمراء المقصود به هنا هو الجدال بالباطل والمحاججة بغية مغالبة الطرف الآخر وإسقاط براهينه بعيداً عن المنطق، هذا هو المراء الذي يؤدّي بنا إلى التفرّق، فالمماري يتعصّب لآرائه ويرى أنه على الحقّ وقوله في الدّين هو الفصل وما سواه فهو خارج دائرة الدين! وكأنّ دين الله سبحانه قد فُصّل على مقاسه هو بحيث لا يشاركه فيه أحد.

وحيث أنّ المراء في الدين ليس من طبيعة الأكثرية من المسلمين الذين تعاملوا مع دين الله عزّ وجلّ بإيمانهم الفطري وببساطتهم دون تطرّف أو تعقيد، وإنما ابتُلي به مَنْ عنده شيءٌ من علمٍ قليل يظنّ به أنه قد امتلك الحقيقة كلها! فقد استثنت الروايةُ من هذا الضلال السوادَ الأعظم أيْ الأكثرية من الناس، لأنّهم يلزمون الجادة بفطرتهم ولا يجاوزونها إلى التطرّف بطبيعتهم فالدين المعاملة، دون أن تشغلَ بالهَم المعاركُ الفقهية والعقائدية الدائرة بين أرباب العلم والتشدّد في التفاصيل إلا أن يُهيّجوا بها، وذكرت صفاتهم العامة من سيرهم على طريقة الرسول(ص) وأصحابه في التعاطي مع دين الله، وعدم انشغالهم بالجدل العقيم (وهو المراء) فيما لا يعود على المسلمين بالنفع سوى إثارة الشقاق والخلاف وتمزيق الصف، ولا يرمون من اختلف معهم بالطعن في إيمانه وتكفيره لارتكابه ذنباً، فإن الناس ليسوا بمعصومين وخير الخطّائين التوابون.

2- الرواية في ميزان القرآن

ثمة جانبان لعرض الرواية على القرآن، الأول: مدى مصداقية الرواية من المنظور القرآني، والثاني: مدى انسجام الفهم السائد للرواية مع حقائق القرآن وتعاليمه.

إنّ الاهتمام البالغ الذي أولاه القرآن الكريم لموضوع وحدة الأمة الإسلامية يُنبئ بما يؤول إليه حالها في المستقبل، الأمر الذي يتطلب قيام أمة من الناس بواجب الحفاظ على حالة السلم ووأد أسباب العداء في مهدها.

إنّ التبشير بفرقة أنّها تمثّل (الدين) و(الأمّة) كما تقول المذاهب وفرقها هو نقيض دعوة القرآن، فليس من فرقةٍ أو مذهب أو ملّة أو ديانة، ستأتي يوم القيامة لتدخل الجنة ويُهال الآخرون في النار، هذا ما ادّعاه من ادّعى نسباً مع الله، وقد أسقط الإسلام هذه الترّهات فليس بين الله وبين أحد نسبٌ إلاّ العمل الصالح، بل وليس بين رسوله الكريم وبين الآخرين نسبٌ، وليس هو أبا أحدٍ بالخصوص دون الآخرين، وإنّما النسبة إليه وأولى الناس به هم مَنْ أحسن اتّباعه وطاعته وأحيى سنّته القويمة وحمل لواءه لكلّ البشرية.

لقد أزرى الله سبحانه بادّعاء اليهود أنّ لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس[4]، وادّعاء الصفوة والفرقة الناجية حين جاءت كمثالٍ على لسان بعض اليهود وبعض النصارى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) فأجاب سبحانه (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين* بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:111، 112) فأثبت سبحانه أنّه سيدخل من اليهود والنصارى الجنّة كما سيدخل من غير ملّتهم كلُّ من يُسلم وجهه لله ويُحسن العمل.

لقد غاب عن حُذّاق الطوائف أنّ حساب الله في مملكته الأخروية ليس قائماً بالجملة والحشد بل على التفصيل والإفراد، فموازين الحساب وإدخال النار أو الجنة هو شأن ربوبيّ خاصّ فرديّ العلاقة بين الله وعبده (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)(مريم:95)، فليس من حسابٍ للأمم وللفرَق بالجملة وإنّما للأفراد، بل أنّ حساب كلّ فرد إنّما يُوكل به نفسُه، فآيات القرآن الكريم تُدلّل أنه حسابٌ ذاتي، أيْ أنّ كلّ إنسانٍ سيحاسب نفسه ويواجه شريط أعماله وسلوكياته وأفكاره مسجلة عليه من المخّ (أو الكتاب والغلاف) الخاصّ به عاكسا حياة الفرد في الدنيا (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(الإسراء:14).

كما أنّ ميزان (الإيمان والعمل الصالح) فقط هو ميزان النجاة في الآخرة لا غيره من موازين الأحزاب والفرق، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الأنبياء:47)، فهي موازين لأنّ لكلّ فرد ميزاناً خاصّاً به، فالحساب الأخروي إنّما هو على الإيمان كعقيدة تستدعي الخير، وعلى ما صدر عنها من عمل حسن أو عكس ذلك، وهذا هو ميزان القسط المناسب لكلّ الأمم والأديان والملل والمذاهب.

ما السبب في دخول النار؟

من خلال استقراء الآيات القرآنية نجد أنّ النار أُعدت أساساً للكافرين برسالات رسل الله (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(آل عمران:131)، وقد حُسم أمر هؤلاء فلا تراجع فيه (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)(غافر:6)، ولكن الله سبحانه توعّد المسلم أيضا بإدخاله النار في حالات أربع:

  1. النفاق، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(النساء:140)، ألحقهم بالكافرين لأنّهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر.
  2. الظلم وذلك لأنّه يترشّح عن كفرٍ بالدين والقيم قال سبحانه: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة:254)، ومنه أكل مال اليتيم والركون إلى الظَلَمة.
  3. الفرار من زحف العدوّ لأنّه إعانة للكافر المحارب على المسلمين (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(الأنفال:16).
  4. قتل المؤمن عمداً (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)(النساء:93).

فإذا ما طبّقنا هذا المعيار القرآني على سلوك الفرق الإسلامية، فإنّك لا تجد ما ينطبق عليها سوى (قتل المؤمن عمداً)، وهذا الفعل معظم الفرق تُجيزه بل أحيانا تُوجبه، لأنّها تفسّق وتكفّر وتُحارب بعضها بعضاً، وتعتقد بدخول بعضها بعضاً النار، وهو يفسّر آية عمدة في موضوعنا عن معنى الاختلاف المُفرِّق والكفر والجماعة هي: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(آل عمران:103) السياق يُري أنّ ثمّة مؤمنين (سيكفرون) بوصية الاعتصام الجمعي ويتفرّقون ويُمارسون ثقافة وسلوكيّات الفِرقة وسيتحوّلون (لعداء) إخوانهم المؤمنين، (يتقاتلون) باللسان واللجاج والهجاء والسباب والسيف، كما كانوا في الجاهلية على شفا النار، وهؤلاء –بشكل جماعيّ- لهم عذاب عظيم وسواد الوجه كما اسودّت قلوبهم ووجوهم تجاه سائر إخوتهم المؤمنين في الدنيا.

فالمسوّغ الوحيد لدخول فئة من المسلمين النار بشكلٍ جماعيّ، في الوقت الذي يكون فيه الحساب فرديّا، هو البرمجة الجماعية التي تُرسل فرقةً بأشياعها إلى النار حين تُجيز تكفير المسلم وقتاله، سواء مارسته أو رضيت به، فهي جريمةٌ جماعية ترتكبها فرَقٌ مسلمةٌ، ولهذا تستحقّ كلّ هذه الفرق دخول النار بحكم العقل والقرآن، إلا واحدة وهي التي لا يخضع أفرادها لهذه البرمجة الجماعية، بل يكون شأنهم الإصلاح لا المماراة، وقبول الآخر لا تكفيره، فمن كان كذلك فهو من الفرقة الناجية من نار الكراهية والحسد والاقتتال في الدنيا، وبالتالي من نار العذاب في الآخرة مهما كانت شاكلة دينه أو مذهبه.

  1. – ابن حبان، كتاب المجروحين، ج 2، ص 225 ، 226.
  2. – ابن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، ج2، ص458.
  3. – البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص8.
  4. – حين قال لليهود: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة:94).

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *