لقد صار الفتى في مقتبل العمر، هاهو ينمو ويكبر، جسمه صار كأجسام الأبطال وعقله صفّه إلى جانب الرجال.
ظاهريا، لم يكن يختلف عن أبناء محيطه سوى في أنهم كانوا ذوي بشرة بيضاء بينما كان هو أسمرها، وهم لم يكونوا يختلفوا عنه في شيء سوى أنهم خدعوا بشرب ماء العنصرية من ينابيعه المنتشرة في كل مكان، ورفض هو شربه … ومهما كان.
عندما كان صغيرا كانت الملاعب خاوية على عروشها بمجرد دخوله لها، الأعين كلها تنظر إليه بنظرات ملؤها الاحتقار، الأفواه لا تعجز و لا تكل عن توجيه السبائب والشتائم إليه، وحاجياته لا تدوم له أكثر من يومها.
لكن إحساسا داخليا غريبا كان يدفع به إلى التحلي بالصبر، كان يحس في نفسه أنه يستطيع تغيير مجرى هذه الأمور، أسئلة تدور في عقله تدفعه إلى هذا الشيء، كلنا بشر، هم وأنا ذوي دم أحمر، أجسامنا لا تختلف، وكلها خرجت من بطون أمهاتها، إذا لا بد من أنهم يملكون ذلك الإحساس الذي يجعل منهم ثوارا على الظلم، و لكن ذلك الوتر لم يمسسه أحد، فكل العزف كان على أوتار العنصرية.
حمل هذه الفكرة في عقله، وجعل إثبات صحتها هدفه الأول، فقد صارت شغل العقل الشاغل.
إتخذ قرارا بأن يكون ذلك الإثبات ملموسا، وأن تغيير ما بداخل الإنسان ليست نظريات تكتب على ورق، أو خطب تلقى على المسامع، إنما هي أعمال تعكس نورها في قلوب متلقيها.
إنه الآن في منتصف العشرينيات من عمره، وذلك الإيمان بتلك الفكرة مازال بداخله، ولم يتغي.
لقد بدأ مرحلة جديدة من عمره فها هو ذا قد اقتحم مجال العمل، ظن أن الأمور ستتغير بحكم تغير الطبيعة و المكان، ولكن الأمر لم يكن كذلك فمن أصغر الموظفين إلى أكبر المدراء، كانوا ينظرون إليه كما نظر إليه أحقر الطلاب في المدرسة، وما كان ذلك إلا ليزيده إيمانا بفكرته وحماسا لإثباتها.
صار يعمل وكأنه خلية نحل بحالها، كانت جميع الأنظار تتجه إليه استغرابا وحسدا ولكن ليس عبرة، وبالرغم من أنه كان الأكثر إتقانا وإخلاصا لعمله، إلا أن الحوافز كانت دائما ما تتخطاه، لتحل في حضن من هم دونه مستوى وعطاء للعمل، لا لشيء سوى أنه أسمر البشرة. مضت الأيام تلو الأيام و الأشهر انقضت، حتى سنحت له الفرصة ليثبت لمن هم حوله أن اختلاف الإنسان عن أخيه الإنسان ليس في كونه أبيضا أو أسود، فليس ذلك مربط العقلاء، بل هو اختلاف يكمن في ما أنت عليه، الشخصية، الأخلاق، المعاملة، فمن هنا تستطيع أن تفاضل بيني وبينك.
في ذلك اليوم قررت إدارة الشركة التي يعمل بها إقامة اختبار يظهر فيه الممتحنون كل ما لديهم من مهارات وقدرات في مجال عملهم.
كانت المسابقة تقضي بأن ينزل المتسابق تحت الماء وعلى عمق عشرة أمتار ليبحث عن مفك، وفي حال عثوره على ذلك المفك يعطي إشارة لمساعده بالأعلى عن طريق حبل يربط به، فيرمي له بكيس يحتوي أجزاء مفككة، ليقوم هو بجمعها تحت الماء، وكل من يستطيع إنجاز المهمة، يكون قد اجتاز الاختبار، ومهما كان الوقت المستغرق.
وكان صاحبنا ضمن مجموعة من عشرة، وكان أولها بعثا للإشارة، ولكن الأوامر العليا قضت بأن يكون كيسه ممزقا، وأن تكون الأخريات صحيحة.
الوقت يمر والساعات تمضي، وجميع الممتحنين كانوا قد أنهوا المهمة عداه، فبالرغم من أن مهمته كانت مستحيلة في نظر الجميع، إلا أنه لم يكن يستطيع أن يضيع فرصة كهذه قد لا تتاح له مرة أخرى أبدا.
ومع مرور الساعات تلو الأخرى كانت المشاعر قد بدأت في التحرك، فهاهم يرون المستحيل آخذاً
في التحقق، بإصرار وعزم شديدين، وممن يعتقدون أنه أحقر من بينهم.
عشر ساعات تحت ماء أقرب بالمتثلج، وفي مهمة أشبه بالمستحيلة، كانت كافية لتغيير نفوس طمرت بأحقاد العبودية والعنصرية، فمن كان أشد المطالبين بموت ذلك الزنجي، صار قبيل نهاية ذلك الموقف أشد المطالبين بإنقاذ حياته.
إيمان، إصرار، وعمل، حققت المهمة المستحيلة.
استجابات