استعمل علماء الأمة العربية والإسلامية الأوائل كلمة «حيلة» كمصطلحٍ يعني توظيف قوانين الطبيعة بطرق حاذقة غير اعتيادية للوصول لغايات عملية لا يمكن الوصول لها إلا بالالتفاف على القوانين أو تسخيرها. تعارفوا على تسمية علم مبادئ الميكانيكا بعلم «الحيل» قبل تطوره وظهوره باسمه الحديث «الهندسة الميكانيكية»، فالعلماء ينفذون لغاياتهم بسلطان «الحيلة»، لغايات مشروعة أحيانا وفاسدة أحيانا أخرى، لخدمة الناس وتحسين الحياة ورفع مستوى الرفاهية أحيانا، وأخرى للاستعلاء على الناس ومصادرة حقوقهم لتحقيق أرباح مادية أو اعتبارية، فالإنسان الذي صنع الطائرة بمحاكاة الطيور سخّر هذه التقنية للنقل والحرب معا، هو ذاته الذي يتحايل بتوظيف معرفتهِ لتحقيق مكاسبَ معنوية كما فعلَ السحرةُ حينَ «أَلْقَوْا وسَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» طلبا للحظوةِ والمال عندَ السلطان إذ «قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ» فأجاب «نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» يواطئون مآرب فرعون في تغييب الحق والحقيقة.
فما هو الاحتيال؟
لا نريدُ تعريف الاحتيال كما قالتْ العربُ عن هندستها -علم الحِيَل- ولكننا نريد تناوله بما هو فعل سلبي مضادٌ للشرفِ والمقاصد السامية، فالاحتيال خداع قائم على استغلال ثقة الآخر، وهو الوسيلة التي نحقق بها كسبا غير مشروعٍ أو نَعْبِرُ بها لغاياتٍ شريرةٍ، وهو في الجُملةِ وسيلةٌ لتحقيقِ المقاصد الدنيئة والخبيثة البعيدة عن الشرف.
وفي القانون يُعرف الاحتيال بسرقة الأموال أو كلَّ ما كان له قيمة عن طريق الخداع، وذلك للتَّملصِ من دفعِ الثَّمن، وهو أيضًا جريمة لها خاصِّية تحقيقِ الرَّبح كهدف.
نجد الاحتيال في مصاديق كثيرة، منها:
1) الزيف: لغة يستخدم في وصف الدراهم، فيقال: زافتْ عليه دراهمه أي صارت مَرْدُودةً لغش فيها، وقد زُيِّفَتْ إذا رُدَّتْ، أما في زمن تطوّر النقد ورقيا ورقميا، أصبحت فرص تزييف العملات أكبر من أي وقت مضى، فضلا عن التلاعب في أسعار صرفها كشكل من أشكال التزييف، ولعل قدرة أمريكا على طباعة الدولار من غير غطاء من الذهب كباقي العملات تفتح أبواب الاستفهام للمهتمين بالاقتصاد عن مدى مشروعية العملية وحصانتها من التلاعب بمصائر البلاد والعباد، لا لشيء إلا لأنها تتربع على عرش سيادة النظام المالي العالمي. وفي الزيف قال الشاعر أمرؤ القيس:
ترى القومَ أَشْباهاً إذا نَزَلُوا مَعاً وفي القَوْمِ زَيْفٌ مِثلُ زَيْفِ الدَّراهم
الشاعرُ يُحدّثنا عن زيف الرجال، فالقوم يظهرون بالمظهر الحسن والكلام البليغ فيستوون مع أقرانهم من الشرفاء ظاهريا ويختلفون في الجوهر والقيمة الحقيقية الكامنة، فيكونون كالدراهم الزائفة لا قيمة حقيقية لها، ولا يُقْتَصرُ الزيف على الدراهم والرجال وإنما للزيف أوجه كثيرة كالأفكار والآمال والأحلام والعلاقات، وما علينا سوى رصدها وتأمّلها في واقعنا.
2) التَّزوير: عملية ترتبط بالميلِ والعدولِ عن الصوابِ أو الحقِ والحقيقةِ، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عنه قائلا: “واجتنبوا قول الزور”، حيث يأتي المُزَّوِرُ – فردا كان أو مؤسسة اعتبارية – الناسَ عن طريق ما يعلون قيمته ويمنحونه الثقة، فيقال لهم مثلا: “الدراسات العلمية تقول” بغرض تمرير معلومة كاذبة، أو “التجارب المختبرية أثبتت نجاعة العقار أو اللقاح” ولا يقولون أية تجارب وفي أية مختبرات وما هي العينة وكم نسبتها من مجموع المرضى.. الخ.
ولا يتوقف التزوير عند هذه المصاديق فحسب، فقد طال التاريخ الإنساني ومصادر المعرفة الربانية، يَدسّ فيها ما يُغِيبُ وعيَ الناسِ لأغراضٍ خبيثة، يسردونَهُ على أنه حقائق مُبرمةٍ لا تَنالها شبهةٌ بعباراتٍ مُوهِمَةٍ، بما يملكون من ألقابٍ ووجاهاتٍ قائلين: “التاريخ يقول!” و”الأديان قالت!” و”الإجماع!” وغيرها.
الشواهد كثيرة على عمليات التزوير التي عبثت بحوامل المعرفة، لكنَ القرآن يبقى لسان الحقيقة المهيمن على الكتاب والمحفوظ من العبث، شاهدًا على تلاعب رجال الدين – أحبارًا وكهنةً– بكلامِ اللهِ وإلصاقهم بالوحي ما لم يقله بشهادته الخالدة فيهم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : 79] وقال أيضا (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : 91]، وما حدث للشرائع السابقة حدث للإسلام لغفلة أهله، فتراث الإسلام لمْ يسلمْ رُغمَ تكفل يد الغيب بحفظ القرآن في صدور المؤمنين، فالمحتالون نفذوا بسلطان الاحتيال من ثغرة تزوير الحديث وروايته عن رسول الله (ص) أوّلا، ومن ثم تفسير آيات القرآن بما سرّبوه من الإسرائيليات لثقافتنا، حتى صار كتاب الله مُهَيْمَنًا عليه بأقوالهم.
3) التَّدليس: هو عملية احتيال باستخدام التعمية على الحقائق كما يُسَوِقُ بائعٌ مدلسٌ بضاعة وهو يعلم عيبها ولا يفصح به لمشتريها بحجّة أنّ هذا منطق السوق السائد، ونراه في متقاضٍ يَرومُ الظفر بقضيته وهو يعلمُ أنّ الحقَ مع خصمهِ لكنه يستخدم بيانَه وقدرتَه على رصفِ الحُجَجِ ومَنْطَقَةِ الاعوجاج للتعمِيةِ على الحقائقِ، ودحض منطق الطرف الخصم أمام القاضي، وقد نهى رسولنا الكريم (ص) عن هذا الخلق في الحديث المأثور (إنَّما أنا بشر، وإنَّكم تختصمون إلَيَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألْحَنَ بِحُجَّتِه من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا فلا يَأخذْه؛ فإنَّما أقطع له قطعة من النار)، ومن التدليس ما يفعله الشاب أو الأهل من سَترِ وتعمية انحراف أبنائهم حين يتقدّمون لتزويجهم أملاً في إصلاحهم بالتزويج، فهم بذلك يُدلّسون الحقائق ويوهمون الطرف الآخر – الزوجة وأهلها – بالصلاح والكفاءة والحياة السعيدة كمن يبيع الهواء.
4) الاختلاس: هو ما يُؤخذ سلبا ومكابرة ومخاتلة في نهزةٍ أي فرصة، وكأنما ينتظر فيها المحتال سانحة لتحقيق ربحٍ غير مشروع، ومنه سَطو أمين صندوقٍ على المال المؤتمنٍ عليه واخفاء الجرم بقيود حسابية وهمية، ولقد شاع هذا السلوك اليوم بين الناس والمسلمين خاصة، فقد تجد المسلم يعيش آمنا في دُولِ الغربِ ينتهزُ الفرصَ لاختلاس ما تصل إليه يده على أنه غنيمة باردة يسّرها الله له فيأخذها دون وخزة ضمير! ومنه أيضا اختلاس النظر لما لا يحلّ النظرَ إليه، والآيات شاهدة والأحاديث متواترة في ذم هذا السلوك المعوّج (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور:30].
5) الغش والرَّشوة: مصاديق شاعت وتفشت وسرت كما تسري النار في الهشيم في كلّ المعاملات، تحطّ من قدْر الفرد لأنها أفعالٌ تناقض الأخلاق الإنسانية، تحرق مقدّرات الدول والمجتمعات وتشيع الفساد بكل أنواعه، وكلها وسائل يتوسّل بها المحتالُ خداع الآخرين واستغلال ثقتهم لتحقيق مكاسب آنية دنيوية دنيئة بوسائل غير مشروعة من غير استحقاق، منها شراء الأصوات الانتخابية أو رشوة بعض الكتّاب لتلميع صورة هذا المرشح أو ذاك، ومنه ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي من شراء للمتابعين.
6) الرِّبا: في اللغة: هو الزيادة، ويقال: ربا المال: زاد، وغاية التحريم هي الإقراض واسترداد المال بعد مدة بفوائد ربوية فاحشة وهو من أشد أوجه الاحتيال تفشيا اليوم، وقد نهى الإسلام عنه لأنه كان يمثل بوابة مُشْرَعةٍ للمُرابين (أغلبهم من يهود الجزيرة وساداتها) لاستغلال ظروف الناس ودفعهم دفعا نحو العجز عن السداد، ثم يُستغلّ العجز لاستعباد الأبناء والبنات خصوصًا، وتسخيرهم في تجارة الرق والدعارة، لذلك هتف القرآن بالناس محذّرًا من الربا ومُبغّضا فيه (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:275] حيث سعى المرابون لتبريره بمساواة البيع والربا والتلاعب بالتقويم وهذا ما رفضه المنطق الرباني بقوله حاسما (أحل الله البيع وحرم الربا).
مصداق للاحتيال في عصر الاستغلال
نسوق شاهدًا اجتمعت فيه جملةٌ من الاحتيال في عصرنا الذي يشهد سيادة الاحتيال، حيث أصبحت له مدارس ومناهج ونظريات وأطر عمل وتكتيكات تدرس، فما يتعلّمه المصرفيون في مدارس الرأسمالية يجعل من الكسب المادي هدفا للعمليات المصرفية والرادع الوحيد هو عصا القانون، بينما تُغْفِل هذه المدرسة دوافع الشرف بما هو نزعة للسمو تجعل من الممارسة التجارية عملية أخلاقية بعيدة عن الخداع. الواقع شاهد على أن قيادات المصارف تجنح في الغالب الأعم لاقتناص فرص مضاعفة الأرباح حتى لو شابها شبهة الاحتيال ومخالفة الضمير. ليس هناك من شاهد أبرز من شركة ليمان براذرز “Lehman Brothers” التي تأسست في سنة 1850 وبعد 159 سنة من تأسيسها، وبالتحديد في سبتمبر 2008، تقدّم ليمان براذرز بطلب الإفلاس. كان ليمان رابع أكبر بنك استثماري أمريكي إبان انهياره بمجموع 619 مليار دولار من الديون مقابل رأس مال لا يتجاوز 23 مليار دولار، أي أنّ المديونية مثّلت 30 ضعفا من رأس ماله، وكان لديه 25000 موظف حول العالم. كان انهيار بنك ليمان حدثًا كبيرًا أدى إلى تكثيف أزمة عام 2008، وساهم في تآكل ما يقرب من 10 تريليون دولار من القيمة السوقية للأسهم العالمية. مفتاح الأزمة كان في تحوّل البنك من الاستثمار إلى عمليات الرهن العقاري، هذا الجنوح من وظيفة البنك الأساسية للرهن العقاري كان هدفه تحقيق عوائد سريعة، مغانم مغرية في متناول اليد والأمر لا يتطلب إلا استغلال حاجة الأفراد وإقناع الحالمين بسكن مريح باقتناء منازل بمقدمٍ يسير وأقساط تَسْتَقطعُ جُلَّ مواردهم المالية الشهرية، تَدافَعَ الحالمون وتعاظمت ديونهم وفوائدها وسقط المقترضون في العجز عن التسديد، فسُحِبتْ البيوت وتشردت آلاف العائلات، فتصاعدت رائحة العفن الأخلاقي وتسبب ذلك فيما يعرف بالأزمة المالية العالمية “عام 2008” لأن المصرفيين من جميع أقطار العالم أغرتهم العوائد، ووهم استقرار المؤسسة المصرفية وتاريخها الطويل، وثقوا بقيادات تصنّف على أنّها صفوة “العقول الرأسمالية” ولم تكن هذه القيادات سوى حَفْنَةٍ من المحتالين في أبهى حلة يُسوّقون أبشع أنواع الغش.
أين هذا السلوك مما يدعونا له الدين القويم من التيسير وعدم التعسف في المطالبة بالسداد لحفظ كرامة المعسر من الناس، وعدم استغلال حاجاتهم! أين هذا من سلوك اصطناع حاجات وهمية للناس ثم إقراضهم بفوائد ربويّة ترهق عاتقهم وتَسوقُهم سوقًا للارتهان لأرباب المطامع وسادة الجشع في حاضرنا من أباطرة المال والبنوك!، أين هذا مما يهتف به الوحي من قيم لتحفيز دوافعنا الإنسانية (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:280] وما أحكمه وأسماه من نداء وأرفعه من خلق.
الاحتيال بعين القانون – الوضعي والأعلى
الحيلة والاحتيال موجودان منذ وجد الإنسان، يقوم على الخداع واستغلال الثقة لتحقيق كسب غير مشروع، بعض الكسب مادي وبعضه معنوي، يكمن جذر دوافع الاحتيال في تدني همّة المرء وعزوفه عن التطلّع نحو السمو، وذلك يجعله عرضة للوقوع في شرَك التماس طرقٍ غير أخلاقية للكسب، لأنّ الشرف يتطلّب تحمّل المعاناة والألم والجدّ والصبر والاجتهاد وتحمّل الإخفاق والسقوط والنهوض من جديد.
إذن الاحتيال مرتبط بسلوكنا اليومي وأدائنا الأخلاقي والغايات التي ننشدها والوجهة التي نقصدها، فإمّا أن يكون التفكير والسلوك عاكسًا للاستقامة والتناغم مع طبيعتنا الكونية الأخلاقية أو انعكاسا للشذوذ والفسق عنها، فالأوّل يورث الطمأنينة لأننا نتمسك بقيم ومبادئ وأسس الحياة الطيبة، والثاني يسلب الطمأنينة لأننا نقوّض السلام في ذواتنا ونسعى للإفساد فيها بالتخلّي عن القيم، وبالتالي هو جريمة في حقّ النفس بظلمها قبل ظلم الآخرين وظلم البيئة الحاضنة لجنسنا الإنساني.
لا يخلو زمان ومكان من محتالين، والحيلة في تطوّر مستمرّ كما القانون الذي يعاقب عليها في تطوّر هو الآخر، وكلّما تطوّرت وسائل الاحتيال سعى رجال القانون لسدّ جوانب النقص والقصور فيه. لقد عرف الناس القوانين وطوّروها منذ آلاف السنين، كما دوّنوا معها الوصايا الأخلاقية في أدبيات الشعوب كالأغاني والأهازيج والأساطير المكتوبة نقشًا على الجدر والبرديات أو على الجلود والأوراق لتتوارث الناس الحكمة وترسخ المُثل العليا التي ترسم معالم الاستقامة العملية وتتجنب الاحتيال.
رغم كل هذه الجهود المبذولة على امتداد تاريخ الإنسانية، تظل هناك أوجه للتحايل استعصت على الكشف بسبب خفاء وتعقيد دوافعها وأساليبها وتشابهها مع الصواب، بعضها يظل طي الكتمان ولا يتم عقابه وفق القانون الوضعي أبدًا، وبعضها ترسّخ كممارسة شرعية بقوانين وضعية تجيزه وتمضيه رغم وجود كنه الظلم والغش فيه، تلك الاحتيالات تتمّ أحيانا تحت غطاء سياسي أو تاريخي أو علميّ، وقد تجتمع في عملية احتيال كبرى تسلب الناس عقولها – مكرٌ سيئ – وما قضية اغتصاب فلسطين إلا شاهد حيّ أمامنا؟! حيث تمّ تزوير حقائق التاريخ والجغرافيا، لقد ابتُدِعتْ بحوثُ آثارٍ موجَّهةٍ لإثبات كذبة أرض الميعاد في فلسطين من أجل ترحيل فائض اليهود (المرابين المفسدين) من أوربا لخاصرة المنطقة العربية لتحقيق أهداف استعمارية لا زالت الإنسانية تعاني آثار إصرها وأغلالها، أجيالاً من شعب يهودي مُستلبْ الوعي بِكَذبِ أحباره المتصهينين، وأجيالاً من شعب فلسطين تعاني القتل والتشريد والحرمان من أبسط الحقوق التي تقرها شرعة حقوق الإنسان، كل ذلك تحت مظلة الشرعية الدولية، فهل هناك أكبر من هذا المكر السيئ وهذا الاحتيال؟!
من حقبة المشاع حيث كان الناس يتوسّمون تلبية احتياجاتهم بالقوة – بالصيد والغزو والسبي – حتى ظهور المجتمعات الإنسانية المتطورة وتدوين الشرائع الأولى وقوانينها، وصولاً لحاضرنا وما نعرفه في نظمنا القانونية، وما نشهده من تطوّر في النظم والوسائل التي يتم فيها الكشف عن الاحتيالات، ثمة مسار طويل وشاق وجدل وتدافع لا ينتهي بين الاحتيال ورجاله والقانون وسدنته، بين الفوضى والنظام، بين المصلحين والمفسدين، وفي خضم هذا المسار هناك حيل تتطور وأخرى تكتشف، وهناك جرائم احتيال لا نفطن لوجودها فضلا عن كشفها، وحتى إن فطنا لها فلا يمكن إثباتها وبالتالي لا يمكن وضع القوانين الملائمة لعقابها، أفلت مرتكبوها من العقاب ومازال أشياعهم يفلتون، وربما رحل فريقٌ منهم من الحياة وسيرحل آخرون ولم تطلهم يد القانون الإنساني الوضعي، فهل نجى أصحابها المحتالون فعلا من العقوبة؟
يد “القانون الأعلى” بالمرصاد
القانون الأعلى هو النظام الكوني، فالكون كله نسيج واحد يعمل بشكل متناغم ومنسجم، وعلى هذا النظام تقام الحياة بحساب دقيق وقوانين تعمل على الصادق والكاذب، والمحتال والشريف، والمؤمن والكافر، لا يُظلمون شيئا. فهل وجدت ذرة واحدة في هذا النظام الأعلى تُظلَمُ أو تَظلِم، بل كلها تؤدي ما خلقت من أجله، تملأ مكانها وتتفاعل مع محيطها، تستجيب لمتطلبات الوفاء لدورها سواء كانت جزءا من تكوين نجم عملاق أو في خلية حشرة في أعمق نقطة في المحيط، يستقيم الكوكب في مكانه بقانون فإن ضعف خرج من مداره بقوة أخرى أكبر منه حتى يتحقق التعادل في النظام.
القانون الأعلى يعتمد على تبادل القيم المتساوية بعدل، والنَّصب هو عملية غير جائزة، هدفها الإخلال بالقانون الوضعي بدهاء، وهذا يجعلنا مطالبين بأن نضع تحت مجهر التقييم الكثير من أنشطتنا كأفراد لنتعرف على دوافعها الخفية بحثا عن تشخيص مصاديق الاحتيال فيها، نعرّيها بحثا عن الطمأنينة قبل أن ننهار في الحياة أو تنتهي المدة فترتدّ علينا شقاءً أبديًّا لا شفاء منه.
بهذا اللحاظ – أي وجود الدوافع الدنيئة التي تقود سلوكنا- ليس مستنكرا أن نظنَّ أنَّ الشَّر والجريمة والفساد تكثر في العقل كما الهذيان في عقل مريضٍ نفسي، منها ما كشف عنه وكثير لم تكتشف، وهناك أخرى أكثر تعقيدا سيخترعها المحتالون مستقبلا، لغياب أو خمول سلوك تحرّي التبادل العادل وفق القانون الأعلى، التحرّي الذي به يبرّر المرء لنفسه وجوده في الحياة، أخذه وعطاءه فيها، وهي عملية تتطلب أقصى درجات اليقظة الذاتية والوعي لاكتشاف إخلاله بالقانون الأعلى وهي لعمري عملية مستصعبة حتى على من تمرّس الحياة الهادفة وقيمها الأخلاقية.
النفاق أيضاً، ليس ممارسة جديدة بل جريمة قديمة تُمارس بدهاء للنصب على الآخرين وإيهامهم بالتماهي معهم، فالمنافق يظهر للآخر ما له قيمة في منظوره ليحقّق مكاسب مادية أو معنوية كالاحترام والثقة أو المال، وهو تبادل قائم على الغش. النفاق أصبح في زماننا أعرافا وتقاليد مبرّرة بمسميات كالبروتوكول، يُجازُ التدريب على تقنياته في معاهد وأكاديميات مصرّح لها وفق القانون، فهل شيوعُها يخرجها من مصاديق الاحتيال وطائلة يد القانون الأعلى؟!، وهل ينعم مرتكبوها بالاستقرار النفسي مهما تستّروا بأقنعة البراءة وأمعنوا في إظهار التفاؤل؟! فأين نحن من ذلك؟!
يجب الاعتراف أنَّ هناك العديد من الاحتيالات هي في الحقيقة أنواع من النَّصب لا يعاقب عليها القانون الوضعي بسبب صعوبة إثباتها، فضلا عن عدم اهتمام النَّاس بالانتباه لها والتركيز عليها لأنها خارج دائرة وعيهم أو لغفلتهم عن القانون الأعلى، ومما يساعد على هذه الغفلة هو الظن والقناعة السائدة بأنّ عدم وجود قوانين وضعية تجرّم أفعالا وممارسات يبيح لهم مسالك وطرائق إجرامية لا تتوافق مع منطق القانون الأعلى ويجعلهم خارج طائلة عقوبته.
هذا الاعتراف يجعلنا متوثبين لالتقاط أدنى حركة لدوافع الاحتيال في سرائرنا، ومحاكمتها في عقولنا بوعي القانون الأعلى لا ببنود القانون الوضعي، واجتنابها في خياراتنا، وتطوير الوعي بها في بيئتنا، وتثبيت قوانين تجريمها في ضمائرنا، ومن ثم إقرار حوكمة رشيدة تحكم طرائقنا في واقعنا وتردع عن مسالكها، وبنية قانونية وضعية تعاقب من تسوّل لهم أنفسهم نصبًا واحتيالا للخروج عليها، ومهما سطرنا من قوانين سيظل الوعي واليقظة الذاتية ووازع الضمير هو مسار كدح الإنسان لربه بالتناغم مع القانون الأعلى (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:14]، إذن فالدعوة قائمة للناس أن ينفذوا لسموهم وازدهارهم وسلامهم واطمئنانهم بسلطان الشرف والقيم السامية للتناغم مع القانون الأعلى، واجتناب تحقيق النفوذ في الأرض بسلطان الاحتيال.
استجابات