تصوّر لو أنّ شجرة تروى بماء ملوّث فسرى عبر أغصانها حتى غذّى ثمارها ونضجت، فلن تعود «هي»، إذ سيختلف طعمها وتفقد جودة مزاياها.
هكذا هي الأسرة تتغذى على القيم والمبادئ وتثمر الأبناء الأخيار الذين يُعمّرون الأرض بالسلام ما لم تصبهم لوثة الاحتيال. فكيف يُصابون بهذه اللوثة؟
دعونا نتصور المشهد في أوّله، لمّا أراد الله سبحانه أن يستخلف الإنسان على الأرض، كانت الأسرة هي اللبنة الأساس والمؤسّسة الأولى المسئولة عن إعداد الإنسان وتنشئته على القيم والفضائل الملائمة لإنجاح المشروع، فأجواء الحبّ والوفاء بين الزوجين وإصرارهما على إنجاح الزواج ومواجهة التحدّيات بالألفة بالتسامح ونكران الذات تعلّم الأبناء قيَم الحبّ والصدق والإخلاص، وبالتجاوز والتفهّم والصفح يتدرّب الأبناء على حفظ العهد وحفظ المواثيق والتعايش وتقديس القيم. أما تضحية الأم وسهرها على أبنائها، ومشقة الأب وكدّه، وما يشهده الأبناء من مشاعر التقدير لكل منهما باتجاه الآخر، دروس حياة تعلم الأبناء الخدمة والإيثار والتشاعر والتضحية. هذه اللبنة الأولى تساندها مشاهد تعزّز منظومة القيم الأسرية، حين يعيش الأبناء في مجتمع متلاحم، حتى الجار أبٌ وناصح، والجارة أمٌّ وموجّهة، كل ذلك قنواتٌ لتعليم الأبناء التواضع والتناصح والعمل للصالح العام، وهكذا تتوسّع الدوائر دائرة تلو أخرى، كلٌ فيها راعٍ ومسئول، قائمٌ على ما هو مسئول عنه.
ولكن تآكل القيم المذكورة غيّرت الكثير، فتوجّه تفكير المجتمع اليوم نحو اللهث وراء حلول سهلة، سطحية ومادية ساهمت في تفشي ظاهرة “الاحتيال في العلاقات”، ظاهرة بمثابة الآفة المفسدة التي تنخر العلاقات الاجتماعية، من ضحاياها التصدّع في أوّل وأهمّ مؤسسة وهي “الأسرة”، هذا الأمر ينعكس في تفكّك المجتمع بأكمله. أوّل تجلي لعملية الاحتيال تبدأ في المراحل الأولى لمشروع الزواج، حيث يتعمّد الخاطب إخفاء العيوب بدلا من إصلاحها أو البوح بها على أقل تقدير، ويكون بذلك قد روى بذرة الشجرة الزوجية بماء ملوّث سرعان ما يظهر أثره على الأغصان والثمار.
ها هو الزوج (الخطيب) يتجهّز لمقابلة خطيبته بأبهى الثياب وأجمل العطور، وتتجهّز هي بالثياب الزاهية وبمستحضرات التجميل والمجوهرات، يبذلان جهودا كبيرة لتجميل مظهرهما بكلّ الطرق، ولكنهما يتغافلان عن تنقية دواخلهما، وتصفية عقلهما، عبر فلترة ما يشوبهما من صفات سيئة، واستبدالها بالحسنة وما يعينهما على بناء عشّ زوجي آمن يَمْلَؤُه السلام والحب، يتجنبان به العيش مختبئين وراء صورة مزيَّفة تغاير ذواتهما الحقيقية.
في مجتمعنا القليل من الأزواج من يقدم على الزواج مستعدّا، ومخالفًا ربما لما اعتاد ونشأ عليه، فيعيد النظر في عاداته اليومية كالجدّ وتحمّل المسئولية، الخدمة، النظافة، طريقة الأكل والكلام، عادات الاستهلاك الخ، ويغربل صفاته الشخصية غير اللائقة؛ كالإهمال، العصبية، سوء الظنّ، التسرع، الغضب الخ، فيخطط لإصلاحها استعدادًا لأن يكون شريك حياة أفضل. وعوضاً عن إصلاحها، يُخفي الأغلبُ تلك الصفات بكل دقة وحذر، وهم يعلمون بتأثيرها الخطير على مسئولياتهم تجاه الآخر، الذي ينخدع بدوره ويعتبر ما يراه هو الحقيقة، ويجعله ضحية لاحتيال من الصعب التخلص منه.
ولربما ساهم نمط حياتنا الحالي في تمكيننا من التخفّي بمهارة عالية، فمن يطّلع على الأبحاث والمقالات والكتب التي تتناول موضوع النجاح والسعادة ويقارن ما بين الحاضر والماضي يجد أنّ أكثر الكتابات القديمة تضع معايير التمسك بالقيم لدى الفرد نفسه هي الأساس نيل السعادة الداخلية الحقيقية والنجاح في العلاقات والحياة. ولكن الملاحظ أيضا أنّ الكتابات الحديثة قد تغيّرت بوضوح، فأصبحت تركز على زيادة الاهتمام بالماديات، وبالمظاهر المادية، ومهارات جذب الآخر وإقناعه عن طريق التلاعب بأساليب الكلام وظاهر الأفعال، واعتبرتها الأساس للوصول إلى النجاح ومن ثم تحقيق السعادة.
الأخطر من كلّ ما سبق يحدث حين يتواطأ العقل مع صاحبه، لكن ضده، فحين يجد العقل تخاذلا عن مواجهة عيوب النفس وتحمّل مشقة إصلاحها، يتّجه لإخفاء هذه العيوب حتى عن صاحبها، عن طريق الانفعالات العاطفية، الأمراض النفسية، الأمراض الجسدية والتغييرات السطحية الظاهرية. فمثلا قد نلاحظ انفعالات مبالغ فيها من بعض الأفراد حين يُوجّه لهم النقد أو النصح، فنراهم يتجاهلون جوهر النصيحة ويركزون على طريقة الناصح أو الناقد وسوابقهم معه. وقد يتطوّر الأمر في بعض الأحيان ليصل إلى انهيارات عاطفية وتشنّجات جسدية حقيقية تنتجها عقولهم كوسيلة للدفاع عمّا ترّسخ بداخلهم مع مرور السنين والأيام مما يشكّل خطرا عليهم. وهم بذلك يحجبون الخير والتوجيه السليم من الوصول إليهم، بل ربما يقنعون أنفسهم بأنّ الآخر قد تعدّى عليهم، في حين أنّ العواطف حجبت الحقّ والنصح عن الوصول إليهم.
أما بعد الزواج فتسقط الأقنعة عاجلا أم آجلا وتظهر الوجوه الحقيقة للزوجين، فيما يتصوّر كلّ طرف أنّ شريكه قد تغيّر للأسوأ مع أنّ ما حدث هو سقوط الأقنعة وانكشاف واقع الشخص وحقيقته، لاستحالة الاستمرار في إخفاء هويّته الأصلية، وصعوبة المضيّ في التجمّل والبهرجة. معلوم أنّ الزوجين قادمان من أسَرٍ مختلفة، ولديهما عادات مختلفة، أمَا وقد عقدا العزم على المشاركة الزوجية، فقد أوجب عليهما أن يعملا معا لإيجاد حلول تمكّنهما من حفظ كيانهما المشترك. في مثل هذه المواقف لا مُعين سوى المبادئ والقيم، لأنّ الشخص الذي يضع الأسرة والزواج موضعاً مقدّساً، وقد اعتاد على حفظ أمانة هذا الميثاق عبر التفهّم والإيثار والصدق والإخلاص، سيستطيع تخطّي العقبات، أمَّا فاقد القيم في حياته فهو أوّلا شخصٌ لا يرى أنّ الزواج ميثاقٌ مقدّس يجب حفظه، فيلجأ إلى الحلول السريعة، كالانفصال والطلاق، الذي لا يراه “أبغض الحلال”، ويكون من الصعب عليه تفهّم أنّ الطرف الآخر قد أتى من بيئة مختلفة، وأنّ احتياجات كلّ جنس مختلفة عن الآخر، وبالتالي لا يُؤثر سعادة الشريك على نفسه، ولا يتواضع للنصيحة والإرشاد، فتطغى النفس الأنانية المتكبرة التي لا تترك مساحة لأيّ تفاهم مطلوب.
ولكلّ منّا نصيب من الاحتيال، نسرد لكم بعض الأمثلة توضيحا لما تخفيه نفوسنا وتغفل عنه أعيننا:
يتفق الزوجان على بطاقة ائتمان مشتركة لا يتمّ سحب النقود منها إلا للحاجة، فيتفاجأ أحدهما أنّ الآخر قد سحب كل النقود من غير استشارة الشريك ولا إخباره.
يُظهر أحد الطرفين عفّته وجميل إيمانه قبل الزواج، أمّا بعده فتظهر السلوكيات غير اللائقة، ربما المسكرات أو المخدرات أو العلاقات غير الشرعية أو فساد في الذمة المالية أو غيرها.
يحرص الطرفان على إظهار نظافة المنزل في بداية الزواج، أما مع الوقت فتتكشف العادات السيئة من إهمال وفوضى وغياب أي شعور بالمسئولية.
يخفى أحد الطرفين أمر مرضه عن الآخر قبل الزواج، ليُفاجأ بمعرفته بعد الزواج مما يربك العلاقة الزوجية منذ بدايتها.
تستخدم الزوجة عبارات ومصطلحات من عالم التجميل التي قد لا يعرفها الرجل، وتوهم زوجها بفوائد متوهّمة، وتصوّر للرجل بأنها أمر مهم وضروري، فتقنعه بصرف المبلغ من أجل ذلك. وقد يستخدم الزوج عبارات من عالم السيارات والالكترونيات والتي قد لا تعرفها المرأة لإقناعها أن ما سيقتنيه أمرٌ مهم جدا، بينما هو ليس ذلك.
يعمد أحد الطرفين لتذكير الآخر بنقاط ضعفه التي اكتشفها مع الأيام والسنين، ويقوم بالتلاعب بعاطفته ومشاعره ليشعره أنه غير قادر على اتخاذ قرار أو بناء أسرة، وأنّ كلّ القرارات وإدارة المنزل يجب أن تسلّم له.
إذا ما كانت الحاجة الأساسية للمرأة هي الأمان، فإنّ انكشاف الحقيقة من بعد هذا الاحتيال والتدليس يفقدها الشعور بالأمان، وبهذا تتغير كلّ المعادلات في عقلها، وتبدأ بتفسير واستيعاب الأمور بطريقة مختلفة عن الواقع كالتي اختطفت ولا تدري أين هي! فتترجم “حنان” الزوج وسيلة تخدير أو احتيال أخرى يمارسها لتكبيلها وإخضاعها، وتترجم هي تواصلهما معا ونقاشهما في الأمور الحياتية شكلاً من الأوامر والنواهي والمساءلة. أما قيادة الرجل فتعتبره حينها عبودية تعمل على التحرّر منها بكلّ الطرق. وبنفس الطريقة يفقد الرجل شعوره بالاحترام وهي أول وأكبر حاجة لديه، فلا يعود قادرا على التواصل مع زوجته ولا إظهار الحنان ولا الحب والمودة باتجاهها، والعكس صحيح.
حينها يصبح المنزل الزوجي ممتلئاً بالمشاعر السلبية من كلّ ناحية، يفتقد التفاهم والحبّ والسلام، وتنشب ربما حروب قاسية أولى ضحاياها الأبناء، ومع مرور الأيام يتعلم الأبناء الاحتيال من آبائهم بقصد أو عن غير قصد، لكونهم ترعرعوا في بيئة لا اعتبار للقيم والمثل فيها، ولا غرابة إن استولت عليهم الأمراض النفسية – أمراض العصر- وقد يلجأون حينها للهروب للشاشات المحمولة والتي تمارس أدوارها في تغذيتهم بأوهام ومفاهيم خاطئة عن الجنس الآخر، وعن الزواج والحبّ، ومن جانب آخر تعلّمهم وتكرّس فيهم الاحتيال ربما بأشكال عدّة، بل وتجعلهم في بعض الأحيان يمارسونه دون شعور.
في مجتمعنا وواقعنا، تصنع مواقع التواصل الاجتماعي قدوات بسمات وصفات جديدة لا صلة لها بالقدوة الحسنة الحقيقية، لكونها لا تمت إلى سمات القدوة وقيمها وطيب منبتها. فمَن يتظاهر بالسعادة، ويدّعي الأدب والاحترام، ومَن يزعم أنّه يعيش حياة وردية مثالية مع شريكه، هل يستطيع أن يخفي حقيقة حاله عن أبنائه؟ في ظنّي أنّ الأبناء سيكتشفون ذلك حتما، وإن حصل ذلك أليس هذا الاحتيال بعينه؟ وهل نستغرب بعد هذا أن تتسلل ثقافة الاحتيال لعقولهم وتصير جزءًا من تكوين شخصياتهم؟
تواصل العجلة الدوران، فقد بدأت بالزوج والزوجة وانتقلت للأبناء الذين يكبرون ويتخرجون ويتوقع منهم أن يكونوا كوادرا لبناء المجتمع، فما هي النتيجة؟ في الغالب، إن أصبح طبيبا فسيحتال على مرضاه بمصطلحاته الطبية وشهاداته ليتكسب ما يستطيع من الأموال، وإن صار صحفيا فسيتلاعب بكلمات مقاله ليحظى بعدد قراء أكبر، وإن عمل مهندسا فسيغش بمقاييس البناء مستغفلاً صاحب المنزل، وإن كان عاملا فما أن يأمن الرقابة حتى تراه يضيع الوقت ويقلل الإنتاجية، ويمضي دون أن يرف له جفن.
هؤلاء ستدعوهم طبيعتهم البشرية بالطبع للتكاثر، وسيسعون لتأسيس أسرهم الخاصة، وعوضا أن تكون دارا مؤسسةً على القيم والتقوى، ستقام على قواعد الاحتيال التي تعلموها ورسخت في خلاياهم العصبية، ما لم يستنقذوا أنفسهم ويتحرّروا منها بسعي حقيقي للتخلص من آثار التربية ما صنعت يد آبائهم. شجرة الأسرة التي يريدون زراعتها ستسقى بماء الاحتيال الآسن، فهل يُرتجى من شجرة كهذه ثمرٌ طيبٌ -أبناء جُدد- تُرفد بهم حركة المجتمع نحو الكمال والازدهار والتطور؟!
استجابات