قالها: هاينرش هاينه – شاعر ألماني
ليس غرضنا بيان طبيعة وسمات الاستبداد المكمّم للأفواه المُصادر للآراء، إذ أغلب الشعوب على وعي بسلطاتهم البوليسية المستبدة الظاهرة، لكنّهم في غفلةٍ تامّة عن سلطات أخرى مستترة تلجم عقولهم بأشدّ وتُميت وحي رأيهم وهم لا يشعرون.
وإنّ الغوص في سمات “القادرين على تكوين الرأي” يكشف جانباً من تلك السلطات المستترة، فالنُخب مثلاً والكفاءات الحزبيّة والمثقفون والرياديّون والموجِّهون الدينيّون يرفعون ألوية “حرية الرأي” كمخرج للأوطان من أزماتها وتخلّفها، لكنّهم يغفلون عن تحليل مبادئ أفكارهم ومواقفهم ومشاعرهم، لفحصها و”تحريرها” أوّلاً من جبروت استبدادٍ كامن في سطوة المذهب، الطائفة، القبيلة، أو الحزب، على عقلهم المُقوْلَب، وبالتالي على سلوكهم ومقولاتهم وتحليلاتهم ونظرتهم التي ستخرج معوجّةً عن حاضر واقعهم نفسه، بل وتجاه التاريخ والأنا والآخر، إذ صناعة “الرأي الحرّ” تتطلّب إنساناً توّاقاً للانعتاق من عسف المصادرة على عقله ورأيه أوّلاً، ثمّ يوجّه إرادته في تقييم وتقويم مكوّنات عقله ونفسه لخلاصهما ممّا بُرمجا عليه لاإراديّاً ومخالفة منظومته السالبة، وليس في مخالفة الآخر المختلف فكريّاً أو سياسيّاً ومجاهدته بعناوين شتّى.
استنساخ الأبناء من آبائهم:
﴿َقَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾
داخل كلّ فرد إنساني بذرة مميزة تشكّل بصمته في هذه الحياة، بشرط معرفتها والسعي في تحقيق وجودها، بذرة تحدّد سمات شخصيته ومهاراته وقابلياته، وبمقدار انفتاحنا على ذواتنا، وحبنا الحقيقي لصلاحنا ندرك مسؤوليتنا الشخصية لحياتنا، ويكون حينئذ معنى لهذه الحياة، فيسعى الفرد لتقديس العمل والدفع به للنفع العامّ؛ من ميادين نفع البشرية ورفعة أخلاقها وعقولها وأوطانها وكمال إنسانها، وتوافقا مع هذه الحقيقة لا عجب أن ترد عن النبي الكريم (ص) مثل مقولة: “لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”، لتنبيهنا كآباء ومعلّمين وواضعي مناهج وتربويّين أو ذوي مسئوليّات دينية؛ ألا نمسخ شخصيات الأبناء، ونجهض موارد تميّزهم، ونقتل الإبداع لديهم، بإجبارهم على نهج سالف حياتنا وفق قناعاتنا رغمًا عنهم وقمعاً لمنطق عقولهم ومواهبهم، دون شعورنا أننا ننطلق من نزعة تسلّط قابعة فينا، وبذلك نستنسخ دورة الاستبداد والاستعباد والجمود جيلاً إثرَ جيل.
رسائل العليم الذي خلق عقل الإنسان وجعله حرّا، ذمّت الذين ألغوا عقولهم وخضعوا لسلطة تمنعهم من استقلال النظر بمسمّى التقليد والخضوع لسلطة الآباء متى جهلوا وتخلّفوا وتعمّقت أزمات حاضرهم، فيقول تعالى: ﴿َوإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ وفي موضع آخر: ﴿َوَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ….﴾، وللإمعان في استقلالية الذات والتجرّد العلمي والسلوكي لإصابة الحق من خلال أدلّته يأمرنا عزّ وجلّ أن نكون مع الحقّ والعدل مهما خالفنا أيّ انتماء لجمْع، فنقرّ بالشهادة على أنفسنا وعلى الوالديْن والأقربين وإن كان الآخر خصمًا لنا ولانتماءاتنا، فنكون بذلك حياديّين في الشهادة بالحقّ دون أن نتحيّز لآبائنا خوفًا من سلطانهم أو ميلاً لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾..
نموذجان: إبراهيم الحرّ وآزر العبد
قبل تكّونِ كيانات الأوطان وتكفّلِ مواثيقِها ودساتيرها بحقوق أفرادها أيّاً كانت قبائلهم وعشائرهم ومذاهبهم وطوائفهم، كانوا يحتمون بالقرابة والقبيلة ليضمنوا وجودهم وحقوقهم، مع ما في هذه العلاقة من الذوبان والركون للتسلط.. والانتماء لسيادة مطلقة، وما زلنا مع وجود الأوطان نعيش استبداد هذه العلاقات والهويّات بل ونفخر بها على أنها دلالات على الترابط، بغضّ النظر عمّا تمحقه من حقوق الفرد وفرادته وحرّيته وبالأخصّ الفكريّة.
هنا برز وعي إبراهيم (ع)، وأوّل ما استعاد حين استيقظ حرّيته، التي تترجمت مباشرة عبر تفكيره البحثيّ الحرّ وتوقفّاته الفاحصة الناقدة التي أملت عليه لاحقاً مواقفه المناهضة، تَباين بالضرورة مع ما عليه أبوه من التقليد والتمسّك الأعمى بعقيدة الآباء وإرثهم، بدأ رحلته المعرفيّة بالشكّ العقلي: أيمكن للشمس والقمر الحادثيْن الآفلين أن يكونا ربّاً معبودًا للإنسان!؟ إنّهما يعتريهما النقص وليسا مطلقيْن! أليس الأولى للربّ ألاّ يكون يأفل، وشامل الإحاطة والاقتدار، حيّاً لا يموت؟! أليس سخيفاً اتّخاذ أجرام أو أصنام منحوتة لا تسمع ولا تبصر محطّ تقديسنا؟! أيّ منهج شيطاني ضارب قد استحوذ على باهر العقول واستخفّ بها وخدّرها حتّى عن التفاتة إفاقة؟! لمَ تُواصلُ الناس العكوف بسكرةٍ على ما هو فاشل ومن هو فاشل ولا يأخذهم إلاّ إلى مزيد الفشل والإحباط؟!
يبادر إبراهيم -والذي لم تتّصل به السماء بعدُ بل فقط استرشد باتّصاله بعقله- إلى محاورة أبيه مشفقًا عليه عبوديّته الزائفة، وعلى رهنِه مصيرَه للجهل المتفشّي إن بقي يُسلّم عقله لكهنة منظومة الجهل المتوارث التي أضاعت المنطق ومعه قيَم الإنسان الفطريّة، وبكلّ أدب وتسامي عن الغرور يُخاطب أباه بشفقةٍ بمنطقٍ سهل: ﴿.. يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)﴾
لكن الاستبداد رابضٌ لا فقط في قسوة النظام السياسي أو الاجتماعي والديني خارجاً، بل في عمق كل فرد مسحوقٍ بتلك العبوديّات دونما شعور، ليصير العبيدُ (الأتباع الموالون) مجرّد نُسخٍ مصغّرة للمستبدّين (القادة) الكبار، يرشح عنهم مزيجُ الاستبداد والاستعباد في تقليدية أفكارهم البالية المستنسخة المجترّة دونما محاكمة عقل، وفي ألفاظهم التهديدية المتعالية باسم دنيا أو باسم آلهة دين، تلك اللغة التي لا تعرف الحوار والاحترام وحقّ حرّية الآخر واختلافه، والتي نضبت من مشاعر الحبّ ولو لأقرب قريبٍ كالابن نفسه، فلذلك يظلّ “عذابُ” تلك المجتمعات منزوعة “الرحمة” متغلغلاً بعمق ومتوارَثاً لأنّ موجباته “الشيطانيّة” راكزةٌ في برمجة عقولهم وتغذية مشاعرهم، يُصمّهم ويُعميهم (كحال ما يعبدون ويُقدّسون مِن أصنامٍ أو رجالٍ) عن كلّ ما يُعرَض عليهم مِن حقّ ونُصحٍ ونقدٍ خارج قوقعة إرثهم ومذهبهم وتقليدهم، فلا يُواجهون الجديد إلا بالعنف ومحاولة الاستئصال:
﴿َقَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾!
المفروض أنه يحبّ ابنه ولا يريد “هلاكه”، فلماذا إذاً يتوعّد “بإهلاكه” رجماً بدلَ محاورته بالحب والعقل؟! إنّما لنُدرك مدى الضرر العقلي والقلبي للإنسانية المعذّبة المُستبَدّ بها لتوحيش عواطفها وتشويش أفكارها.
الرجم أو الهجر! يُفضيان لغايةٍ واحدة؛ تغييب فعل المصلح المستثير للعقول من واجهة المشهد، أي وجوب استتاره، أو بمعنى آخر إسكات الصوت المعارض وإطفاء نوره، لأنّ العقول كلّت وأذعنت لما هو مألوف حتى استحْلَتْ لامبالاتها بالعواقب، وهذه اللامبالاة لها ما يَعدُها ويمنّيها بأنّها الصواب، وبأنّ وراءها الأجر، وأنّها عين الثقة بالحقّ وبالهدى!
فإذا كان الأب يُهدّد ابنه بهذه الأحكام الوحشيّة المخالفة للفطرة والعقل.. فكيف بأوباش المجتمع المخدَّر؟ وكيف بجلاوزة السياسة النفعيّة؟ ما يدلّك أنّ عيّنة الاستبداد أحكامُها واحدة، وأنّ الدفاع عن الاستعباد والاستبداد يسري متفشّياً بنسقٍ من أقزم مسئولٍ في الأسرة والحيّ حتى أعتاه في الدولة، وأنّ محاولة الخروج عن العبودية الذهنية هو خروجٌ من الملّة المقدّسة دهراً، وكبيرةٌ عظيمةُ الحرمة لدرجة أنّ أقرب أقربيك قد يغدو جلاّد خروجك الآثم الممنوع!
طبعاً كلّما تطوّرت التقنيات المجتمعيّة، يأخذ “الرجم” باعتباره تصفيةً جسدية، أو “الهجْر” باعتباره تصفيةً معنوية، أشكالا تحقّق الغرض نفسه.. فالرجم، القتل، الصلب، الإحراق، وكلّ أحكام الردّة والهرطقة والتجديف والبدعة وإباحة الدم.. تقنيات مُورست وما تزال ضدّ كل مَن تسوّل نفسُه خروجاً على موروث الجهل التقليدي أو السائد الديني..
والهجْر أو النفي، التهميش، السجن، الحصار، المقاطعة، التشويه والتلويث، التكفير والتفسيق.. وكل صنوف القتل المعنوي، جرت على أنبياء الله وعلى غيرهم كلّما أتوا بجديدٍ يحاول تحرير الناس وانتشالهم من عبوديّاتهم الزائفة، بتحرير عقلهم ودينهم معاً من احتكار أيدي منتفعين قابضين بخناق مصائر الناس ديناً ودنيا، لذلك كان شعار التحرير الديني يبدأ بالرفض دائمًا لا بالإثبات، رفض الآلهة المصنوعة، ورفض الارتهان لرجال يحتكرون الله والدين والآخرة والناس والفكر، وينصبّون أنفسهم كسادةٍ للتحريم والتحليل، والإماتة والإحياء: (ما لكم من إله غيرُه) (ألا نعبد إلا الله ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا) (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا).. كلّها فعلُها النفي.
فنطقَ عندها سادةُ الإماتة والإحياء لتغييب العقل الجمعي أن يستفيقَ أحدُ أفراده:
﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾!
نصْر الشيخ، نصْر المذهب، نصْر الدين، نصْر الطائفة.. الخ، ليس شيئاً آخر يختلف عن نصْر الآلهة، فالإنسان المغلوب على عقله حين يفقد الحيلة والوسيلة، وحين يفتقر إلى رؤية علمية صحيحة فإنّه سيبحث عن السلوى والعزاء ليتعالى على واقعه المأزوم، ومن ثمّ يُساق جمعيّاً إلى ارتدادات ومساحات خارج إطار فطرته وعقله، تنتكس به ولا تخدم واقعه، أملاً أن يلتمس عندها الخلاص أو السكينة، فيعيش مفارقات خطيرة متتالية!
بهذا ننتهي إلى نموذجيْن يملآن العالم كلّه ويقفان على طرفيْ نقيض؛ نموذج إبراهيم الذي اختار أن يكون حرّاً، ونموذج أبيه آزر الذي دافع بشراسة لامنطقيّة عن عبوديّته، نموذج يطلب الإله الحقَّ والحكمةُ ضالّته أينما وجدها أخذها، وآخرون صنعوا إلههم وحقائقهم على مقاس أهوائهم وطوائفهم، نموذجُ مَن تحرّر فكوّن رأيه بناءً على ما “جاءه من العلم” متى استقرأ واقعه بنزاهة وموضوعية حياديّة غير محابية لنسبه وتراثه ومهنته، وآخر خانعٌ متيبّس على تقليده الشائع وعقائد مجتمعه، قد أسلم عقله بالكلّ، واستعدّ لوأد كلّ نداء تحرّر ودعوة انعتاق ولو بانتهاك أقدس قيَمه الفطريّة، وبسحْق ضميره وجوهره الإنساني!
فهل يا ترى يُوجَد نظيرُ إبراهيم اليوم؟ وكم يا تُرى أشباه آزر؟!
“حرّية الرأي” الشعار الأجوف
فالكلمة المفتاحية (حرية الرأي تفترض أنّ لديك رأيا) لها ما يناظرها في مأثورنا الإسلامي: (لا تكن عبدًا لغيرك وقد خلقك الله حرّا)، وهذه الميزة تفترض أن يعيش الإنسان سيّد نفسه في رحاب أحكام العقل والعلم فقط وفقط، ليكونا قيمةً أساسية وسمة مميّزة من حياته، فيُصبح إبراهيميّاً قادراً على التحرّر من العبوديّات الزائفة والاستحواذات الجمعيّة المفروضة، لتكوين رأي ممحَّص حرّ ذي قيمة يطوّر به مجتمعه والإنسانية، دون خوف من حجْر، أو اتّهام بالزندقة وبخروج على الموروث ومِن الدين.. الخ!
فالكثير اليوم يُنادي بالديمقراطية، ويثور بشعار الحرية، مطالباً بحريّة الرأي، ولكن الأغلبيّة ليسوا أحراراً في واقع الحال، وليس لهم رأيٌ ذاتيّ نابعٌ من عقلهم المتجرّد ومبنيٌّ على معطيات علميّة حقيقيّة، بل هم فقط يردّدون كببغاء آراء مَن استبدّ دونهم بالرأي، هم مساكين كالمسكين آزر، يردّدون بإيمانٍ حارّ لا نظير له مقولات التراث، أو الكبار، أو آبائهم وساداتهم القبليّين، العلميّين، الدينيين، الحزبيّين، الإعلاميين..الخ، فهم نُسخٌ كربونيّة متقنةٌ لرأيٍ قد تلبَّسهم وتسيّدَهم وصار كرأيهم، أو يؤولون مجرّدَ مضخّمات لصوت فوقانيّ أوحد ليس هو صوتهم يجهلون دواعيه وتضميناته، وحين يهتفون بـ”حرية الرأي” لا يقصدون رأيهم المستقلّ حتماً لأنّهم بلا رأي في الحقيقة، فعقولهم مغلوبة وصوتهم الحقيقي مقموع.. بل يقصدون ضمناً السماحَ طوعاً بتسييد ما تَسيّدَهم، لتوسعة نطاق الاستعباد وتأصيله!
هذا تجده جليّاً في كلّ البرمجات الحشدية؛ سواءً باسم النظريّات العلمية أو المذاهب الدينية أو الاتّجاهات الحزبية والقبليّة، بحيث لا يستطيع التابع، المتحزّب، المتمذهب، الموالي.. أن يشذّ عن النمط ليُكوّن رأيًا يُخالف القوقعة المعرفيّة السائدة، وحتى ما يُسمّى بالرأي العام فليس برأي، بل برمجة للرأي في اتّجاه محدّد يُفبركه الدعايات والإعلام، نلمس هذا بسهولة في ما يُسمّى أصوات الناخبين مع أنّهم ملقّنون حزبيّاً أو مسيّرون دينيًّا، فالصوت مستعارٌ وليس صوتهم، مثلما أنّ الرأي مفروضٌ على من يُفتَرض أن يكوّن رأياً بعد دراسة جدّية كممثّلي الأحزاب (المنتخبين!).
إنّ حريّة الرأي تفترض أنّ لديك عقلاً مستقلاًّ بمنطقٍ سليم يُكوّن رأيك بحرّية وفق معطيات حقيقية ملموسة، أو يزن الآراء المعروضة بنزاهة وحياديّة ليتخيّر أحسنها بميزان الصدق والعدل، ثمّ أن يكون ولاؤك وتبنّيك لأحسن الأفكار وأصلحها، لا لأقرب الأفراد والكيانات والانتماءات إليك.
فحين يبدأ المرء يعترف بمشكلاته المزمنة (الاعتقادية والسلوكية والاجتماعية والسياسية) كما هي دون تزييف وتحجيم أو تزيين، ويواجهها بحريّة ونزاهة وتحليل علميّ، فقد بدأ لأوّل مرّة يستعمل عقله بحرّية ويُكوّن رأيه، ومع أنّه سيُعاني حقّا، لكنه يُدرك أنه يعاني، أمّا أخطر ما يتهدّد المريض فهو أن يتجاوز صوتَ المشخِّص ويُنكر مرضَه خلفَ أوهامٍ وادّعاءات بأنّه (أو الأمّة، الوطن، المذهب، الحزب…) بخير، وعلى هدى وبتطوّر وأمان وكمال! مع أنّ الزوال وشيك.
استجابات