لماذا يلجأ الرؤساء العرب للدين في كلّ مرَّة تحيط بهم الهزيمة؟ فيلبسون مسوحه، وتكثر على ألسنتهم أقواله. هل لبقايا إيمان لا يزال في خفايا أنفسهم؟ حتّى إذا ما أوشكت الدنيا على الزوال عادت النفس المنهزمة الضعيفة تلتمس العون من بارئها، فهم كمثل ذلك الذي وصفه الله سبحانه بقوله: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)(فصلت:51). أم هو ملعوب عرفته السياسة في استجلاب عواطف الجماهير؟ فيوظفون الدين درعاً لحمايتهم عن النقد حال الإخفاق، أو ضرعا حلوبا حال الحاجة؟ أو لفصل الجماهير عن التأثر بالمعارضين من الخصوم؟
هذا كلّه جائز ومعقول في حقّ الرؤساء، فهم أحوج بشر لذلك، وقد تكرر منهم كثيراً عبر التاريخ، فكلّهم وظّف الدين لخدمة قضاياه وظروفه، ليس في عالمنا الإسلامي فقط، بل في كلّ أمّة يكون للدين أهميّة في صياغة عقولها ومواقفها، ففي تاريخنا دينار الخليفة ذو وجهين ووجهتين: الندماء والعلماء، أهل الأنس وأهل الذكر، القصر والجامع، فهو ينفق في شرائهما سراً وجهراً، لأنّهما من عدّة الحكم وآلته، وللزعيم أثواب وحالات مهيأة للمقامين.
ولعلّ في الرئيس الراحل صدام حسين المثل الصارخ، فبعد حياة علمانيّة ممتدة في مفهومات القوميّة والاشتراكيّة، وبعد الإيغال في التنكيل بكلّ ما هو ديني، بل وبعد استلاب التاريخ الديني الإسلامي لصالح التاريخ القومي، نراه وهو في محنته الكبرى قد تعلق بالقرآن، وأكثر من استقبال القبلة، وعاد يذكر الآيات ذكراً كثيراً، ويتكلم بكلام الزاهدين العابدين، على الأقل في الأوقات التي لا ينفلت منه عقال نفسه عند ما يُستغضب فيغضب.
وليس صدّام شاذا بين الرؤساء العرب، بل هي سنّة جارية فيمن ابتلي منهم، مما لفت انتباه الباحثة الألمانية (كرستينا ستوك) فألفت فيه دراسة بعنوان “اللغة كوسيلة للسلطة”.
وليس الأمر مقتصرا على رؤسائنا معنا، بل الأجانب أيضا حاولوا لعب الملعوب نفسه، فيذكر لنا التاريخ القريب أن (نابليون بونابرت) عندما غزا مصر، تشهد بالتوحيد، وعظم المشايخ الأزهريين، فظنّوه أسلم وساندوه في حربه ضد المماليك، وأفتوا له بجواز حربهم، بل وظلّ بعضهم يترحم على أيامه حتّى بعد انقلاب الأزهر عليه وحربه ضد الشعب المصري، بعد أن كان يتظاهر بأنّه جاء ليخلّصهم من طغيان المماليك، حتّى أنّك تجد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي يؤازره في بعض تاريخه ويدعو له بالنصر عليهم.
وأما في تاريخنا الإسلامي فقد كانت هذه عادة جارية في الخلفاء غير الراشدين، يقولون في الدنيا بقول الزاهدين ويعملون فيها عمل أشد الراغبين، فكانت اللّغة والخطابة وسيلة أساسيّة من وسائل السلطة، يتقمص فيها الخليفة طريقة الراشدين فيطمئن العامّة أن الدنيا بخير.
هذه إذاً سيرة قد حفظها التاريخ حتّى أصبحت كالسنّة في الرؤساء، فهي عدّة من عدد الشغل والإدارة، فلا عجب ولا غرابة، ولكن العجب كلّ العجب هو في استمرار نجاح تأثير هذه الوسيلة في الجماهير المسلمة، فعلى كثرة ما كررها الزعماء فهي لا زالت تؤتي ثمارها في الناس حتى اليوم، فلو تصفحت مقالات المتدينين حول صدام قبل الغزو الأمريكي وبعده، وهما مرحلتان انتقل فيهما صدام من الخطاب القومي البعثي العروبي العلماني، إلى الخطاب الديني، وصار يتأبط كتاب الله أينما ذهب، ويقرأ منه في جلسات المحاكمة، لوجدت في خطاب المتدينين السنّة بالذات، حيث الشيعة قد شغلتهم عداوتهم له عن تصديقه، انقلابا هائلاً بلغ فيه صدام من الكرامة أن أعلن توبته بعض كبار العلماء، ورفعه آخرون إلى قائمتنا الفقيرة في الخلفاء الراشدين، فكان عندهم سادسهم! ولست أدري أيّ الوجوه هو أشد مأساوية؟ أهو افتقار تاريخنا لذوي الرشد من الخلفاء حيث لم يبلغ تعدادهم إلاّ ستة خلال ألف وأربعمائة عام؟ أم هو تأهل صدام حسين ليكون سادس القوم بعد كلّ مجازره التي لا تعدّ ولا تحصى في العرب والمسلمين أينما امتدت يداه ؟
إذاً لماذا تصدّق الأمّة في كلّ تاريخها أكاذيب حكامها، كلّما سمعت منهم قولة في الدين والتدين؟ حتّى لو كانت مصحوبة أو مسبوقة بتاريخ مديد من الطغيان والظلم والاستبداد؟ هذا سؤال كبير يجب على المفكرين دراسته بعمق، لأنّه سيكشف لنا أدواءً (عقل نفسيّة) تنخر جماهير الأمّة إلى اليوم.
ولكن ابتداء يمكن توسّم الأسباب التالية:
1. لقد ابتلي الإسلام بطواغيت المتغلبين على الأمّة طوال تاريخه، وابتلي جمهور المسلمين وجماعتهم بالذات ابتلاء عظيماً وعسيراً أكثر من غيرهم من المعارضين الرافضين، فالشيعة والخوارج وغيرهم من صنوف المعارضة كانت على قول واحد في رفض الخلفاء، وهو موقف صعب ولكنّه واضح، وقد لا يعني أنّه كان صحيحا، لأنّ الرفض المطلق قد يكون موقفاً غير واقعي، ولكن أكثر جمهور المسلمين وجماعتهم اعترفوا إجمالاً بصحة الخلافة والخلفاء بعد الراشدين، وبافتقادهم لشروط صحّة الخلافة في أنٍ معاً، وذلك لما صححوا في وقت متأخر كلّ ألوان الحكم التاريخيّة. أمّا جيل القرن الأوّل فقد كان منه المعارضون فكرا وموقفا، ولكن أجيال القرون التالية تسربت لوعيهم الأحاديث الموضوعة، وحسبوها شريفة، فأربكت موقفهم، فهم نظرياً مع الخلافة بشروطها الشرعية، ولكن عملياً يعتبرون غير المستوفية للشروط شرعية أيضا، حتّى شرّعوا في القرون المتأخرة كلّ ألوان الخلافة بما فيها خلافة الصبيان. فقال بعض الفقهاء: “الإمامة هي صغرى وكبرى، فالكبرى استحقاق تصرّف عام على الأنام، ونصبه أهم الواجبات، فلذا قدموه على دفن صاحب المعجزات، ويشترط كونه مسلما حرا ذكرا عاقلا بالغا قادرا قرشيا، ويكره تقليد الفاسق، ويعزل به (الفاسق) إلا لفتنة، ويجب أن يدعى له (الفاسق) بالصلاح، وتصح سلطنة متغلب للضرورة، وكذا صبي”[1].
ولما ظن الجيل المتأخر وهم في مماحكاتهم المذهبية أنّ الطعن في صحّة خلافة معاوية والأمويين وأهل التوريث، يمتد ليطعن في خلافة أبي بكر وعمر، جعلوا خلافة الفريقين الصالح والفاسد، العادل والظالم، الملتزم بالقيم والخارج عليها، المستوفي للشروط وغير المستوفي لها، في سلّة واحدة، جرَّاء ظنون مذهبيّة وسياسة خاطئة، فكأنّما صار لزاماً عليهم ليحافظوا على صحّة خلافة الراشدين أن يصححوا خلافة الفاسقين، في ملازمة ظالمة، ولا مبرر لها، ولم تكن معروفة التلازم عند أهل القرن الأوّل.
فكانوا مع السلطان كخليفة شرعي، وكانوا بخلافه كمفتقد للشروط المؤهلة للخلافة، ولهذا فهم يشعرون أن واجب النصح له وتحمل محاولة رده عن غيه وظلمه واجب عليهم، ولكن ماذا يفعلون بمثل يزيد وعبد الملك والحجاج والمنصور؟
فظلت روح الجمهور وعقولهم مع الخلفاء في حيص بيص، وتلونت مواقفهم بين معارض معلن، ومعارض مهادن وموالٍ راضٍ، وظلّ الأمل في نفوسهم بأن يَصلُح خليفة الرسول والمسلمين يوماً أملاً قائماً، بل رغبة مكبوتة، وإن خيبها الخلفاء، فكان الخليفة العادل هو أمل الجمهور المنتظر، وحاجة ملحة ترتجى، ولهذا فما أن تستمع العامّة وغير العامّة لدغدغات الطغاة الدينية، وتوبتهم الظاهريّة الظرفيّة أو الاضطراريّة، حتّى تسرع إلى تصديقهم، وتفرح بعودتهم للجادة، وتطمع أن قد آن لها أن تضيف خليفة راشداً سادساً أو سابعاً.
فانظر كم فرح الجمهور بعمر بن عبد العزيز، ورفعوا سَنَتَي حكمه، وأكثروا فيها الثناء، ذلك أنّه مثّل حاجة نفسيّة وحاجة مذهبية. إذ حينما تقول بصحة طريقة ما في الخلافة ثم يُخيب ظنك من أَمّلته، وتتكرر الخيبات تلو الخيبات، وتفشل معهم المحاولات على أثر المحاولات، فإنّك تشعر بالقلق وضعف الموقف العملي حتّى وإن جادلت عنه نظرياً.
ولازال هذا الموقف النفسي قائماً إلى اليوم، فهناك أمل بل قل أمنيّة عند المسلم في الخليفة العادل ولو كان مستبداً.
وأما الأقلية المعارضة لنظام الخلافة كالشيعة والخوارج وغيرهم التي رفضت الخلافة ولم تعتبرها شرعية منذ البداية، فهم يزدادون ثقة مع كلّ خليفة منحرف عن الجادة، لأنّه يمثل نصراً مذهبياً.
ولكن لو تتبعت تاريخ الملوك، فستجد أنّ كلّ أتباع المذاهب المعارضة سلكوا مع الملوك من مذاهبهم كما سلكت الموالاة من الجمهور مع الخلفاء، فعلماء الشيعة ساندوا وأيدوا الوزراء والملوك الذين على مذهبهم من البويهيين والصفويين والقاجار، وتعاطفوا معهم مذهبياً، وانطلت عليهم ألاعيبهم، وكذلك الأمر مع الإسماعيليين والإباضيين والزيدية.
فالحكام كانوا يوظفون المذهب والعصبيات المذهبية لصالحهم في الهيمنة على الجمهور، فمع كلّ إعدام لمفكر أو معارض عليك ببناء ميتم، ومع كلّ سلب للمال العام اجعل طريق الحاج آمناً، ومع كل هدم بيت أقم منارة ومسجداً، واذهب وتمرغ في الحرم أو في الضريح، فهذه هي أدوية نفوس العوام، وهذه هي بعض أدوات الحكم.
ولكن الجمهور لا زال ينتظر ابن خطاب جديد، يعدل فيأمن فينام مستظلا بشجرة على قارعة الطريق، وهو وهم لن يعود، فقد اغتيل الراشدون وبقي غيرهم، ولن تتخلص الأمّة من مأزقها ما لم تمسك زمامها بنفسها، وتفصل بين السلطات.
2. إنّ المسلمين وإلى اليوم يعيشون بين تجاذبين من الشعور أولهما الثقة العظيمة في فكر الدين وثقافته، وأنها رسالة السماء لأهل الأرض، وأنهم أصحاب الكتاب المقدس الصحيح الوحيد في الدنيا، والذي سيظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، والثانية هي روح الهوان والمذلة، والحسرة على ما كان من عز سياسي، وما صاروا إليه من ضعف واستلاب.
ومن كلّ طرف من الشعورَين تولد سبب في الفرحة بتوبة الطواغيت، فمن الثقة المطلقة بالدين وعظمته، سهل على المسلمين أن يصدقوا أن الطاغية قد استبصر وفاء إلى رشده، وخاف على آخرته، أو أنّه أبصر من عظمة الإيمان وذاق من حلاوته ما لم يكن قد ذاق، ولم لا؟ والدين شيء عظيم قد آمنت به الملوك بمجرد أن سمعت به، حدث هذا لملك البحرين وعمان، وأسرَّه ملك الحبشة ومات عليه، وأسرَّه هرقل الروم وكتمه خوفاً من قومه، هكذا دغدغ عاطفتنا تاريخنا، وقد آمنت به شعوب عظيمة كالفرس، وانتشر كأسرع دين في الآفاق، فلم لا يثوب له الضالون من أبنائه؟ ولهذا فما أن يُظهر التمساح دموعه حتّى تصدقه القلوب الوالهة، لأنّها تريد أن تصدق ذلك، وتريد أن ترتاح لبارقة من أمل بعودة الراشدين، عودة ومضة من زمن العدالة الذي سمعت به ولم تره.
ومن الشعور بالهوان بعد العز، تولَد بالأمّة شوق حارق لوقفة عزّ، تعيد لها مجدها أمام الأعداء، ولهذا فما أن يقلب طاغية ما موقفه من الخنوع والاستسلام للغرب المتجبر ولأمريكا الشيطان، حتّى ترتفع الأهازيج الشعبية، وتخفق قلوب الأمّة كلّها معه، متناسية جبروته وظلمه، ولسان حالها يخاطبه: فلتكن قاتلي وظالمي؛ لا بأس، فقط أسقني كأس عزّ تحرقت نفسي إليه، وسأصفح عن ظلمك وجبروتك، فقط قف ممانعاً ضد الهوان.
وهذا الشعور لا يختصّ بصنف من العرب المسلمين دون آخر، بل ولا بالمتدينين من أبناء الأمّة، بل ولا بالمسلمين منهم، فهو شعور يجتاح كلّ أبناء الأمّة العربيّة والإسلامية تقريباً، بما فيهم العلمانيون وغير المتدينين والمسيحيون، إنّه شعور أمّة عزيزة النفس قد شبعت ذلاً، ولا يهم بداهة أن يكون عمل الممانعة هذا صحيحاً أو خاطئاً، فقد يرفضه العقل كتفجير البرجين، ولكن هامشاً من الارتياح النفسي الذي لا يعلم مصدره يعمّ العرب والمسلمين وربما كلّ المظلومين، لأنّ الشعور بالإذلال والمهانة على يد أمريكا والغرب أعمق أثراً في نفوس أبناء الأمّة من ظلم وطغيان جبابرتها، وهو السبب الأكبر في نموّ اتجاهات التطرف فيها، فهي موضوعيًّا غير قادرة على تحمل المذلة لما لانهاية.
3. لقد تغير العرب والمسلمون أثناء الخلافة الراشدة، حيث مالت أنفسهم للدنيا، وتضخم الأمر في تاريخ غير الراشدين، واستعملت الدنيا وسيلة لكسب الأنصار وقمع المعارضين، واستمرأ الجمهور حلاوة المتع، ورويدا رويدا خبت روح المسؤولية والتضحية فيهم، وماتت روح الواجب، واجب تغيير المنكر والأمر بالمعروف، ولكن أثرا من ضمير يبقى يشاغب النفس ويحرمها من نيل كل الرضا والسكينة للمتعة، شعور بترك الواجب في التغيير ولو بالقلب واللسان، وهذا فيه بعض تنغيص، فما أن يظهر الطاغية وجها من دين حتى تتسارع النفوس الراغبة للمباركة، هي ليست راغبة في توبته، بل في نفاقه، فليكن عمري الكلام معاوية المضمون، فما لجمهور المتعة ودرة عمر ومرقعة علي، فهذا زمن النعيم، والخليفة المحبوب هو من وسع المتعة وليّن الدنيا، ولو جاءنا اليوم من يريد بنا حياة الراشدين لقتلناه من يومه، فدنيانا ونفوسنا لم تعد تحتمل زهد علي وتقشف عمر، بل هي معجبة بمعوية والرشيد.
- – الحصفكي، الدر المختار، ج1، ص592. ↑
استجابات