دولة الأديان.. دولة الإسلام

على مرّ التاريخ، ظهرت على خريطة العالم الإسلامي نماذج عدّة للدولة ولأنظمة الحكم، وتوسّع الجدل في دينيّة الدولة أو مدنيّتها، ووقع الالتباس في فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية، واختلفت الآراء حول طبيعة النظام وعلاقته بالعقيدة، إلا أنّ المشكلة تبقى في تقديم نموذج للدولة الإسلامية الواقعية، نموذج يأخذ في حسبانه القيم العليا للدين، وينظر بعدالة وإنصاف إلى أطياف المجتمع وتنوعّاته واختلافاته الدينية والثقافية والعرقية.

تدعو نظرية “الدولة الإسلامية” بحسب أبرز المفكّرين الإسلاميين لإقامة الدولة الدينية بتكليف إلهيّ تتحمّل بموجبه مسئولية تطبيق الشريعة الإسلامية، والاهتمام بفرض الاندماج شبه التام بين الدين وبين كافة أنشطة الدولة والتزاماتها، لقد قدّم هؤلاء مشروعهم حول “الدولة الإسلامية” كنظام صالح لدولة سكّانها مسلمون، ولم يكن للآخر من السكّان غير المسلمين اعتبارٌ حقيقيّ يضعهم مع المسلمين على حدّ المساواة في الحقوق والصلاحيات والفُرص والتمكّن.

تتشكّل أغلبية “الدول الإسلامية” أو بوصفٍ أدقّ “دُوَل المسلمين”.. مِن مسلمين وغير مسلمين، فهناك أقليات مسيحية ويهودية، وهندوس، وبوذيّون، وكونفوشيوس (كما في أندونيسيا)، وهناك الصابئة، وهناك اللادينيّون وغيرهم، ومع ذلك فإنّ نظريات الدولة الإسلامية الحديثة افترضت نماذجها ووضعت تصوّراتها بالنظر إلى المسلمين دون غيرهم، فقدّمت نظاماً يتوافق مع عقائد المسلمين ويتلاءم مع “الشريعة الإسلامية” بحسب التقعيد المتعارَف، واعتبرت الآخر استثناءً، فصنّفته Ðوإنْ ضمناً- من أهل الذمّة، محاكاةً بما فعل المسلمون في زمن الخلافة الأول وما بعده، مع أنّ هذا “الآخر” صاحب الوطن بحكم التاريخ، ليس بالدخيل أو الطارئ، له امتدادٌ وجذورٌ في الأرض وهو جزء من ذكرياتها وحاضرها ومؤثّر في مستقبلها، تمامًا كما المسلمين، لكنّه في الدولة الإسلامية يلزم بشريعة المسلمين دون شريعة دينه، وله أن يتساءل على أيّ أساس فُرض عليه دين غير دينه وشريعة غير شريعته؟ وهل صار لزامًا عليه الانصياع لتلك التشريعات مع أنّه لا يؤمن بها وله خصوصيّته الأخرى؟ وهل “الأغلبية” مبرّرٌ كافٍ للسيطرة وفرض صبغتها التشريعيّة الخاصّة؟

إنّ المشكل الذي وقعت فيه أغلب نظريات “الدولة الإسلامية” يتمثّل في اتّجاهها لبناء أنظمة لدولة مفصّلة على مقاس تشريعات الدين الإسلامي (كما هو السائد)، تستجيب لما يُصلح المسلمين ويخدم عقائدهم وعباداتهم ويعينهم على تطبيق نظمهم الاجتماعية والاقتصادية، فالدولة Ðوفق تلك النظريات- تتشكّل أصلا لخدمة هذه الحاجات، ثم بعد ذلك تحدّد التعامل مع الآخر، فتسنّ له الأنظمة والقوانين لكن على هامش قوانين المسلمين، فلا يُعطى من الحقوق إلا بما يتناسب مع “الشريعة الإسلامية”، فالآخر مادام يعيش في ديار أغلبها من المسلمين يعتبر من الأقليات، ولا تعني النسبة شيئا 90% أو 52% سيّان، نعم هم لا يقولون بتجاهل حقوق الآخر أو إلغائها، ولكنّهم يضعون الاعتبار الأوّل للإسلام وللمسلمين، ويحمّلون الدولة واجب توفير السبل التي تكفل للمسلمين أداء مناسكهم وعباداتهم وشعائرهم وتسيير حياتهم ومعاشهم وفقا لما تمليه الشريعة الإسلامية، فإن تعارضت أو اختلفت مع تشريعات الأديان الأخرى أو الأخرى الوضعيّة، فيحكم بحرمان الآخرين من حقوقهم مادامت تمسّ بندًا من بنود شريعتهم الخاصّة بهم!

تعود أسباب المشكلة إلى الاختلاف في تعريف “الآخر” عند بعض الإسلاميّين، فعلى الرغم من الإقرار النظري باحترام التنوّع القومي والديني والعرقي، والاستدلال على ذلك من القرآن الكريم وسنّة النبي (ص)، إلا أنّ الأمر يختلف حين الممارسة والتطبيق، فعمليا يمكن القول بأنّ “الإسلام المطروح” ينبذ أو يهمّش الآخر غير المسلم، مرّة بفعل الإقصاء والتضييق، ومرّة بنظرة الازدراء والتخطئة، وأخرى بتصنّع التجاهل وكأنّه غير موجود، ففكرة أنّ المسلم أفضل من غيره هي العقيدة السائدة، وأنهّ على شيء والآخر ليس على شيء، لأنّ للمسلم Ðبنظر هؤلاء- كرامة وامتياز لا يملكها غيره، فقد طهرته شهادة لا إله إلا الله وإتّباع النبي محمد (ص)، أما من سواه فهو أقلّ شأناً وأدنى مقاما، وإن أقروا له بدينه وتركوه يمارس شعائره.. والحقيقة هذه آفة تضرب الأديان جميعاً وراكزة في عقول أتباعها.. فكلٌّ يرى هو الأحقّ وإلاّ لبدّل دينه.. ولسان حال الكلّ للكلّ “إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون”!

إلا أنّ هذه النظرة القاصرة النابذة للآخر لا تمتّ إلى الإسلام الأصيل بصلة، وأغلبها من موروثات ما عرف في التاريخ بفقه أهل الذمّة، وهم أهل الكتاب الذين عاشوا بين المسلمين، فقد ارتكز التعامل معهم على أمرين: الأوّل اعتقاد كفرهم وشركهم وحتّى نجاستهم، والثاني فرضية بغض وعداوة وخيانة أهل الكتاب للمسلمين، والقول بأنّ الله أهانهم وأذلّهم، فلا يحقّ للمسلمين إلا أن ينزلوهم منزلتهم التي وضعهم الله بها من الذلّ والصغار، فحرّم الفقه الإسلامي الاستعانة بهم في ولاية أمر من أمور المسلمين ضمن بند مغلوط تأويلاً: }ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا{، فلم يرتضِ مشاركتهم في الشئون العامة، كالتدريس والكتابة وسائر الأعمال، بل وفي كثير من الحالات أقصوا من دور عبادتهم وجرّدوا من ملكيّاتهم الخاصة، ناهيك عن إجبارهم على التميّز في اللباس وتعليق صور الشياطين على أبوابهم ومنعهم من ركوب البغال. لقد وقفت السياسة بامتياز وراء هذه الأفعال، ورغم تباين أساليب التعامل معهم باختلاف أخلاق حكّام المسلمين وأطوارهم ومصالحهم، إلا أنّ غالبيتهم جنح إلى التنكيل بهم (كما نكّل حتّى بالمسلمين ومذاهبهم المختلفة ولاسيّما المعارضة لسياساته)، وعمد إلى توظيف الدين والاستعانة بفقهاء البلاط لاستصدار أحكام ضدّهم، لأجل ضمان استتباب حكمهم واستقرار ملكهم وإحكام قبضتهم، وخشية من تعاظم مكانة “أهل الذمّة” وخوفًا من مكائدهم وتآمرهم ضدّهم، فامتلأت كتب الفقه بما عرف بأحكام أهل الذمّة، فتُوورثت واعتبرت جزءًا لا يتجزأ من دين الله.

لقد تطوّر الزمان، وتقسّمت الأوطان، ورُسمت الحدود، فاندمج غير المسلمين مع المسلمين، وفَرضت الأنظمة الحديثة مفاهيم عصرية، لكن بقيت نظرة الاستعلاء ومشاعر الأفضلية راجحة في عقائد كثير من “الإسلاميّين” (حالهم كحال متديّني كلّ ملّة)! وبعيداً عن وجهات التاريخ، فللإسلام -كدينٍ إلهيّ عادل- رأي واضح في هذه المسألة، الإسلام قرّر بأنّ الناس عند الله متساوون، لا يفرّق بينهم الدين أو المعتقد، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم الصالحة ومساعيهم الخيرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات-13) فقد جعلت الآية “التقوى” بيضة القبّان لإنجاح وتعمير الاجتماع والتلاقي الإنساني، و”التقوى” ليست ديناً خاصّاً، بل ذخيرة إنسانيّة خيّرة توجب الورع عن الشرور بحقّ الآخر، بموجبها “يقي” الإنسانُ -أيّ إنسان- شرَّه عن الآخر، ويكفّ أذاه عنه (وكان هذا تفسير النبيّ (ص) لحقيقة المسلم أنّه من يسلم الناس من لسانه ويده)، فيعود للالتقاء مع غيره على قاعدة الرابطة “الإنسانية” وعلى مبدأ “المساواة”، بعيداً عن الاستعلاء والاعتداء بالطبقية والعنصرية وكافة أشكال التمييز، “فالتقوى” رادعٌ حقيقيّ ضامن للتعايش السلميّ، وهي حامية القيم وراعية الأخلاق وصائنة السياسة.

في “الإسلام الأصيل” لا يتمايز الناس على أساس عقائدهم، لأنّ عقيدة الإنسان شأنٌ خاصٌّ به وحده، وفي أغلب الأحيان -بحسب المُشاهد- هو خيارٌ موروث لا إرادة له فيه، فقد خرج للدنيا إمّا مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو بوذياً أو غير ذلك أي كما قال النبيّ (ص) أبواه يمجّسانه أو ينصّرانه أو يهوّدانه وأيضاً “يُؤسلمانه”، فأيّ امتياز لإنسان في أمرٍ لم يملك فيه إرادة الاختيار، وعليه -في أحكام الاجتماع الإنسانيّ- لا يفضّل المسلم على غيره ولا العكس بسبب دينه الموروث، ولا يقبل أن يُستصغر أهل الكتاب أو سواهم بسبب عقائدهم، ولا يقول “الإسلامُ الأصيل” للمسلمين بأنّهم على كلّ شيء، ولغيرهم بأنّهم ليسوا على شيء، بل يقول أنّ المسلمين على شيء، والآخرين على شيء حتماً، والكلّ على شيء، ولكنْ ليس أحدٌ في هذا العالم كلّه على كلّ شيء يحتكره ويحوزه دون الآخرين.. إذن فما فائدة التلاقي للتعارف؟!

وقد ذمّ سبحانه من اعتقد وقال مثل ذلك ووصفه بعقائد الجهل بقوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (113-البقرة)، ذلك هو جوهر الإسلام الحقيقي النقيّ، احترام الجميع بما هم عليه ودعوتهم لتصحيح ما أمكن من عقائدهم بالتي هي أحسن ودون إكراه، لأنّهم نظراء في الإنسانية والكرامة، ومن الأولى لهم أن يتوجّهوا جميعًا للتوادد والتآلف على العمل المصيريّ المشترك والصالح العام.

“الإسلام الحقّ” يساوي بين الناس ويعدل، وقد صرّحت بذلك آيات عديدة في القرآن، نذكر منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة-62)، بشارة قرآنية وصكّ القبول وعلامة الرضا، للجميع على حدّ سواء إلاّ الذين ظلموا منهم واستكبروا وحاربوا الحقّ؛ هو للمسلمين المضحّين الذين آمنوا بدعوة محمد (ص)، ولليهود الصادقين، وللصابئة الموحّدين، وللنصارى الحقيقيّين المتابعين لعيسى (ع)، صرّحت الآية بأربعة مللٍ كانت موجودة إبّان الجدلية القرآنية وزمن التنزيل، وهناك مللٌ أخرى عديدة لم تُوجد في قلب الجزيرة العربية آنذاك كالمجوسية والبوذية والهندوسية ولو وجدت لتنزّلت الآية بذكرها، إنّه المبدأ القرآني الكبير، الذي يحفظ لكل هؤلاء حقّهم الفطريّ ما داموا يؤمنون بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً نتيجة هذا الإيمان وعلى ضوء هداه، إنّه الدين الجامع الذي يجذب الإنسان إلى الخير مهما كان موقعه، ويحثّه على التعايش مع الآخر على قاعدة الحبّ لا البغض، والتقريب لا النبذ، والتعارف لا التنافر، وإبراز المشتركات لا الاختلافات، فلم يأت مع كماله لإلغاء ما سبقه من أديان، وليس يعنيه تحطيم عقائد سابقة والانتصار عليها، وإن كان له من حربٍ فمع الطاغوت والطغيان ورؤوس الكفر والعدوان، ما يعنيه كان توجيه الناس ونصحهم لما فيه سعادتهم، عبر توجيههم للعمل للصالح، وترقية ضميرهم الإنساني، وتشجيعهم على فعل الخيرات ونبذ الشرور، ونبذ المكائد الشيطانيّة والأنانية وتحطيم الغير، لأنّ جميع الملل في نظر الإسلام ترجع في الأصل إلى دين واحد وتشترك بعبادة إله واحد، ولا تختلف إلا في اللمم، وذلك اللمم هو مساحة العمل الواسعة التي تفصل حتى بين أصحاب الملّة الواحدة، قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} (الإسراء-84)، فلكلّ أصحاب الديانات تقول آية سورة البقرة أنْ لا خوف عليهم ولا ينبغي لهم أن يحزنوا، لا في الدنيا؛ فلهم مقام محترمٌ كغيرهم تماماً، ولا في الآخرة؛ فمسعاهم أيضا محفوظٌ وحسابهم لن يُكفَروه ويُنتقص منه عند ربّهم العادل الذي يعفو عن السيئات ويجزي الحسنة بعشر أضعافها، بهذه الروح عُرف الإسلام وبذلك المبدأ وجد قبولاً وانتشاراً على أساس الحوار وعلى قاعدة “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”.

ولما اختلطت الأمور وتلاعبت الأهواء والمصالح، وشاع الجهل وهزلت المعرفة وغيّب الوعي، نسب للإسلام ما ليس منه، فظهر متجرّداً من تلك العلاقة الوثيقة بينه وبين الأديان في روحها الأعلى، كما بدت الأديان بلا أي علاقة مع الإسلام، فالرجال حاربت الرجال، هذا الانفصال أدّى إلى تداعيات خطيرة، دفعت ثمنها الأمة غالياً، وكانت القيم الأصيلة أوّل الضحايا، أما من قبض الثمن فهم أعداء الإنسان وأعداء الأمة المتربصون بها، وخلال التاريخ ومنذ اللحظة التي انعدمت الثقة فيها بين أصحاب الأديان على هذه الأرض، وإلى يومنا هذا، تجرّعت الأمة المصائب وتحمّل الناس المظالم وضاعت الحقوق ووقعت الأزمات، واستنزفت الطاقات وضعفت المناعة الداخلية للمجتمعات، واهتزت الثوابت وعلى رأسها ثوابت المواطنة والوفاء للانتماء، وتشتّتت الجهود، وضاعت الخيرات، وعلت نداءات الاستقواء بالخارج، فغرقت الأمة الواحدة في مستنقعات الفتن والحروب الداخلية والخارجية.

إذن في نظام الدولة في الإسلام الحقّ، لا يُعطى المسلمون أولويّة على غيرهم بسبب دينهم، بل يُراعي الإنسان بصفته إنساناً ومواطناً؛ فيوفى له بحاجاته وحقوقه، وتتخلى الدولة تماماً عن مهمة التدخل في عقائد الناس، أو متابعة انتماءاتهم، فتلك حرّيتهم التي تتكفل هي برعايتها، إنّما تتولّى كبح غائلة أحد على أحد أو طائفةٍ على أخرى، الدولة في الإسلام تحرص على بناء دولة الإنسان، بتنوّعاته واختلافاته، فتضع أسس نظام عادل يوفّر سبل الحياة الحرّة الكريمة، يتمتع فيه الجميع بحرية الفكر والعقيدة، ويحتفظون فيه بخصوصيتهم الدينية، بل والتشريعية في معاملاتهم الخاصة وأحوالهم الشخصية {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (المائدة 47) ولن يصلح أن تتوجه الدولة لتطبيق حدود الشريعة الإسلامية كما عُرفت تاريخيّاً ما دامت مكوّنات المجتمع خليطا من مسلمين وغيرهم، فإن تمكّن المنظّرون والمشرّعون من إعداد أنظمة وقوانين عادلة ومناسبة لكافة الأطياف فهذه هي دولة الإسلام، وسيكون هناك متّسع كبير لشيوع العدل، الذي هو روح الإسلام ومقصد الشريعة الغرّاء.

في مثل هذا النظام، من الممكن تصوّر نظام عقوبات عادل إنساني مطبّق على الغنيّ والفقير.. القويّ والضعيف، وفي هذه الحالة لن يخرج عن كونه إسلامياً، لأنّ الإسلام جوهره العدل والمساواة، ومقصده إقامة القسط، وهو لا يقدم نظريات جاهزة وحلولا معلّبة، إنّه نظام يعتمد على التفاعل الإيجابي بين القيم والواقع، ويتعاطى بعقلانية مع المتغيرات والظروف، فنظامه يثبّت القيم ويمنع المساس بها، لكنّه يحرّك ويسمح بالتصرّف بالتشريعات والمناهج، إنّه دين قابل للنمو والتجديد والإضافة والحذف والابتكار بحسب واقع وحال البيئة المحيطة من أفراد ومجتمع وطبيعة اجتماعية ومستوى حضاري، أما السبل لتحقيق هذا الأمر فمفتوحة على مصراعيها بمقدار ما أوتي الإنسان (الاجتماعيّ والاعتباريّ) من حكمة وحسن تدبير، ولن يكون خارج الإسلام إن ارتأى المشرّعون تعطيل عقوبة السارق واستبدالها بعقوبة أخرى مادام ضابطها العدل وغايتها الانتصار للمظلوم وردع المعتدي وحفظ الأمن المجتمعيّ، روح الإسلام هو العدل، ولا يوجد قالب واحد لا غير لسنّ العقوبات، ولا بأس أن يصدر حكمان لموضوع واحد في بلديْن يحكمان في “دولة الإسلام” أعني دولة الإنسان، وقد أصدر سليمان(ع) حكمًا مغايرا لحكم أبيه داود(ع)، لكنّ الحكميْن صحيحان ومقبولان، إنما تفاوتا في أسلوب التعامل مع المعطيات {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء 79).

قد لا تعتمد الدولة وفق هذا المنظور على إجراءات توثيق الدين وكتابة العقود بالطريقة الواردة في سورة البقرة، ورغم تطوّر هذا التشريع قبال ضعف القانون وقتذاك، إذ يُقرأ فيه تطلّع الإسلام لبناء دولة المؤسسات، إلا أنّ تلك الإجراءات وضعها المشرّع حينها لتنظيم العقود وحفظ الحقوق والتأسيس لنظام المعاملات المالية وحلّ مشاكل الظلم والتعدّي وأكل الحقوق، وحماية الناس من الأنانية والجشع، وتيسير أمور الحياة على الناس وضمان منافعهم، فإن تحقّقت تلك الغايات بآليات أخرى أكثر رقيّاً وضبطاً فما خرجت عن الإسلام قيد أنملة.

في هذه الدولة، لا يشترط للحاكم أن يكون مسلماً أو ذكَراً، فمن يصلح من المواطنين الغيورين المؤهّلين له حق التقدّم لهذا المنصب، كلّهم على حدّ سواء بلا اعتبار لعقائدهم أو جنسهم، فهم شركاء الوطن، وغير المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا مبرّر للفكرة الشائعة في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز أن يتولى غير المسلم أمور المسلمين، لأنّه لن يحكم بدينه، وليس من صلاحيته إجبار الناس على دين أو قهرهم على عقيدة، نظام الدولة يجب أن يضع الاشتراطات التي تضمن وصول الحاكم الكفؤ الشجاع العادل النزيه، وعلى ذلك فالنظام يضع في أولويته القيادة الفذّة المخلصة القادرة على النهوض بالأمة ورعاية مشروعها الإنسانيّ الحضاريّ التنموي، علما بأنّ الحاكم في دولة الإسلام لا يملك السلطة المطلقة في تقرير المصير، بل يضع السلطة بيد الشعب لا بيده، ووحده الشعب -عبر المؤسسات المختلفة- المسئول عن مراقبة أداء الدولة وضمان تطبيق دستورها.

يمكن اعتبار مثل هذه الدولة دولة الأديان أو دولة الإنسان، دولة تعمل للإنسان مهما كان دينه بلا تمييز، للمسلمين ولغيرهم دونما تفريق، تحتضن تحت سقفها أصحاب الأديان وسائر الأيدلوجيات، مثل تلك الدولة هي دولة الإسلام حقاً لأنّها حفظت للجميع بلا استثناء حقوقهم، ولأنّها لا تميّز أتباع الدين الإسلامي عن غيرهم، على هذا المبدأ بادر النبي (ص) إلى وضع وثيقة المدينة الجامعة لكل فصائل المجتمع المدني بمشركيه ويهوديه ونصرانيه ومسلميه تاركاً الاختلاف العقائدي ينساب بسلمٍ ومخلياً مسألة حسمه لربّ الحساب

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج:17)، أمّا عمليّاً فقد كره اعتماد الناقوس للنداء للصلاة واستبدله بالأذان احتراماً لهم ومنعاً من مشاغبتهم في عبادتهم ونسكهم.

وبهذه الكيفية تمثّل الدولة الإسلام على حقيقته، وتبرزه كدينٍ شاملٍ تنطوي فيه جميع الديانات السابقة التي نادت بالتوحيد، الدين الذي لا يرتبط بجنس من البشر دون باقي الأجناس، الدين المفتوح غير المغلق الذي تجد فيه جميع الديانات نفسها، الدين الذي أراد لداعيه محمّد (ص) بأن يكون رسولاً ورحمة للناس جميعاً، وحينها يصحّ القول بأنّ الإسلام هو نظام الحياة الأمثل، الذي يستظلّ تحت ظلّه الجميع بمظلة العدالة والمساواة وتقديس الحريات، وينثر السلام والتناغم والانسجام، ويمدّ يده السمحاء ويبسط قلبه العادل للإنسان، يتعاهد معه على حفظ كرامته واحترامه، ويهيّئ له الأرضية للتعارف والتعاضد والتعاون.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *