رحلة إلى خيبر

منذ أن واجهت الفيل لأول مرة وأنا أتفهم قول أهل العرفان ” الألفاظ حجب المعاني “، بل وآمنت أن الألفاظ حجب لا للمعاني الربانية والصفات الإلهية والعوالم الأخروية فقط، بل هي حجب لما لم نعاينه ونجربه ونعيشه من الموجودات الدنيوية والحوادث الواقعية في هذه الحياة، فقد كنت منذ نعومتي وأنا مغرم بالطبيعة وحياة الحيوان، وشاهدت الكثير من الأفلام الوثائقية والعلمية عن الحيوان، وقرأت تفاصيل حياتها، ودرست بعضاً من أسرار حياتها وتكوينها، فقد كنت أعرف ارتفاع الفيل ووزنه ومعادل حجمه وقوته ومزاجه وطريقة حياته، وخصومته للأشجار، وغير ذلك مما يفترض أنه يكوّن عندي صورة واضحة عن الفيل.

ولكن كل هذا كان حجاباً عن الحقيقة عندما وقفت أمامه وجهاً لوجه، حينها فقط تبين لي مدى عظم خلقه، وضخامة حجمه، وقوة بدنه، وتبين لي كم أن الألفاظ بل وحتى الصور والأفلام وسائر أدواتنا المعرفية في نقل المثيل للعقل، كم هي قاصرة عن مطابقة المثال، وأنه قد صدق من قال ما بعد العيان بيان، فاللغة تظل قاصرة عن نقل الحقيقة كما هي في الواقع، مهما كانت الحقيقة بسيطة وساذجة، فلو وصفت ببالغ ما تقدر ملعقة، لما قدرت أن تكون في ذهن السامع دقة الموصوف وكامل صفات وجوده، التي تجعله ماثلاً أمام الذهن كما لو أنك وضعت الملعقة أمام الحواس لتنقلها بكل أبعادها للعقل.

ولعل ذلك يوضح لنا بعضاً من عقدة أهل الكلام وأهل العرفان، في حديثهم عن طبيعة كلام الله وكلام البشر، وكيف يتكلم الله بكلامه الذي يقول للشيء كن فيكون، بألفاظ بشرية قاصرة عن أداء المعنى بل هي حجب عنه، ولم قالوا أن الكلام يكتسب مزيداً من القدرة على البيان وبلاغة التأثير كلما كانت روح المتكلم قوية وبالغة، وأنه إن كان قلب المتحدث حياً يقظاً صادقاً عارفاً اكتسى كلامه بروحه وحمل من قدرة التأثير ما لا يحمله نفس الكلام من متكلم آخر أضعف روحاً وصدقاً ومعرفة وإن تساوت العبارة، حتى ليبلغ الإيمان بالعبد أن يكون كلامه ككلام الرب يقول للشيء كن فيكون، فقد أرى الله سبحانه رسوله (ص) شبحاً وهو خارج إلى غزوة تبوك ، وكأن الرسول (ص) كان يفتقد أبا ذر ويحزنه أن يفوت هذا الصدّيق مثل ذلك الفضل، فلما رأى الشبح علم أنها عطية من عطايا الله له، فما عليه إلاّ أن يتمنى كوناً ما لذلك الشبح فقال كن أبا ذر فكان.

“الألفاظ حجب المعاني”، “ومن ذاق عرف”، “وليس المعزي كالثكول”، إلى غير ذلك من أقوال أرادت أن تعكس ذات التجربة ، هذا ما جعلني حريصاً كلما أمكن على معاينة أكثر ما يمكن من رحلات النبي (ص) وأصحابه الكرام في غزواتهم وجهادهم، فكلما سنحت لي فرصة لزيارة مكة المكرمة و طيبة المدينة المنورة، حرصت على زيارة المواقع التي تقلبوا فيها، فقاتلوا وقتلوا، وابتلوا وافتتنوا، فأصابوا وأخطأوا، ليكون المرء أقرب ما يكون لصدق تجربتهم، فيذكر فضلهم وصبرهم وليعذرهم في زللهم عند ما يجد حقيقة عظيم بلواهم وتعبهم وجهدهم، فشتان بين أن تقرأ أن رسول الله (ص) كان يعتزل الناس أياما في غار حراء يتأمل، وبين أن تذهب بنفسك لترى مشقة الصعود، ووحشة الليل، فتعلم أن ما ألمّ بمحمد وأوحشه من الناس أمر عظيم ملك عليه كل قلبه، وإلا لما قدر على الأنس بوحشة ذلك الليل في ذلك الغار القصي عن كل أنسي..

أن تقرأ أن ( خيبر ) على مسافة 165 كيلو متراً شمال المدينة، يختلف تماماً عن أن تقوم بنفسك بقطع هذه المسافة، لتكتشف أنها لست مسافة هينة كما في الكلام، وحتى لو قطعتها بالسيارة وعلى شارع ممهد، فإن الأمر يظل مختلفاً عن مجرد قراءة مقدار المسافة، لأنك ستجد كم قد قطعت من الفيافي والقفار، وكم قد مررت على جبال وصخور ووعورة وحر وشمس ووحشة وتعب، هذا وأنت تقطع المسافة بدابة سريعة وعلى طريق ممهد، فكيف بمن قد قطعوه مشياً على الأقدام، أو راكبين الجمال، حاملين على ظهورهم وعلى دوابهم مؤونة سفرهم، وعدة جهادهم، تحت الشمس المحرقة، على حذر من العدو، وعلى توتر من استقبال حدث مجهول العاقبة، متوغلين في بلاد الأعداء، فهذه يهود خيبر وهناك أحلافهم من غطفان، هكذا مسيرة ( لا تقل عن 3 أيام وأكثر ) فكم قد قعدوا وكم قد قاموا، وما الذي تحدثوا فيه فيما بينهم، وما الذي كابدوه في طويل ساعاتهم وقد كانوا ألفاً وأربعمائة راجل و200 فارس و20 امرأة بينهم صبيّة واحدة!!

نعم كتمت النساء أمرهن ضمن الجمع فلم يُشعر لهن إلاّ وهن مع الجيش عشرون امرأة، فلما بلغ النبي (ص) أن معه نساء أرسل إليهن فقال ما أخرجكن؟ وبأمر من خرجتن؟ فقلن: خرجنا نناول السهام ونسقي الناس السويق، ومعنا ما نداوي به الجرحى، ونغزل الشعر ونعين به في سبيل الله.

ورأى بينهن فتاة صغيرة، 11 سنة، فأشار إليها تعالي أنت، ماذا تفعلين هنا؟ قالت أخرج معك، فضحك (ص) وأردافها، فلعله(ص) لم يجد مكاناً أكثر أمنا لها من إردافها خلفه، ولما فتحت خيبر جعل للنساء نصيباً من الغنيمة سهاماً كسهام الرجال المقاتلة، وألبس الصبيّة قلادة من الغنائم.

لم يكن الجهاد فرضاً على النساء، ولكنهن لما بادرن قبل الرسول (ص) مبادرتهن واحتسب الواحدة منهن مجاهداً من الرجال سواءً بسواء، فكل من خرج فله سهم، الضعيف والقوي، الجبان والشجاع، من قتل نصف الجيش ومن لم يقدر على قتل احد، فالنصر إنما يأتي بفعل مجموع العمل المتكامل، مبدأ سارت عليه الجيوش كلها.

سرنا على الطريق المعبّد بين المدينة وخيبر، وهو طريق موحش مقفر، إلاّ أن مسيرة جيش المسلمين قد أخذت مساراً مخالفاً حينما بلغت حرَّة الرجيع، فقد استدار النبي (ص) بالجيش مغرباً ( يساراً) تم استدار ( يمينا ) حتى أتى خيبر من أعلاها، فاصلاً بينها وبين أراضي قبائل غطفان حلفاء اليهود وشركائهم في غزوة الخندق، وكانت غطفان تعتزم نصرة خيبر إلاّ أنها تخوفت إن هي ذهبت لخيبر أن تخلي أهلها وبلادها للمسلمين، ويعلمون أنهم قد سبق منهم عدوان على المسلمين في الخندق، فآثرت الحياد والترقب وخلوا بين اليهود والمسلمين.

أما نحن فقد بلغنا قرية خيبر ولا زالت كما هي أرض لينة خصبة في ذلك المكان القفر غزيرة الماء مزروعة نخلاً، ومن هنا جاء اسمها، سألنا عن مكان حصون خيبر فدلنا رجل من أهل باكستان على الجهة وقال لن يسمحوا لكم بالزيارة، ثم مشينا عبر الطرق إلى نهاية البلدة الحديثة ولكن على غير هدى فلا توجد معالم تدل على الأثر، فتوغلنا بين نخيل محترقة لازال الدخان يتصاعد منها، حتى بلغنا نهاية العمران فعدنا أدراجنا، توقفنا أمام مزرعة لأحد أبناء خيبر وسألناه عن مقبرة الشهداء، ويكفي الإطلاق فليس ثمة شهداء غيرهم، ولو كان غيرهم فهو الذي يحتاج إلى إضافة ليعرف، أما شهداء الإسلام مع الرسول فهم سادة يعرفون بمجرد إطلاق اللفظ، فقال هي على الطريق وقد خلفتموها وراءكم، ولما رأى كثرة أسألتنا الكاشفة عن حيرتنا، بادر مشكوراً وقال اتبعوني، فأخذنا إلى المقبرة وكانت مجرد سور لا يكشف إلاّ عن صخور مبعثرة، لا يدري أيها قبر وأيها صخرة، قد أخفيت معالم الشهداء في محيطها الصخري، ولأن الشمس قربت تغرب سألناه أن يأخذنا إلى الحصون، فقال: حصن مرحب؟ قلنا نعم فسار بنا عبر طرق القرية القديمة (التي أخلتها البلدية من أهلها إلى المناطق الجديدة) ثم نزل بنا في دروب ضيقة بين النخيل والمزارع في وهدة هابطة، ثم قال ترجلوا، ثم سار بنا في طرق ضيقة بين النخيل يمينا وشمالا ثم قال هذا هو حصن مرحب وهذه هي عين علي! وتركنا تأدبا لأن معنا نساء، ولكن لا ليذهب لبستانه، بل ليتأمل هو المنظر نفسه الذي جئنا نتأمله ولكن من جهة أخرى، فكأننا قد نبهناه إلى أمر طرأ على عقله للتو..

كانت روائح الدخان تنبعث من المكان وأكثر النخيل محروقة بقصد قاصد ولمسافات واسعة، وبعضها لا يزال يتصاعد منه الدخان، وكانت العين مغطاة ومسوَّرة، وحصن مرحب محاط بالسياج وبابه مقفل، كانت القرية ( خيبر القديمة ) تقع على تله مرتفعة ثم النخيل في أسفلها وكان حصن مرحب يقف شامخاً في جانب الوهدة تحيطه النخيل من جهات ثلاث، والرابعة امتداد لنفس الصخرة التي يقوم عليها .

عند ما اقتربنا من أسفل الحصن تبين لنا مدى خصوصية غزوة خيبر، ولماذا كل هذا الحديث عن بطولات خيبر، ٍوتبين لنا مدى الخطأ والخلط الذي يمكن أن يتحدث به راوٍ لم ير خيبر ولا حصون خيبر، لم نتمكن من رؤية بقية الحصون لأن أكثر قد تهدم ولأنها أقل شأناً من هذا الحصن، حصن مرحب الذي دارت عليه أم المعارك وكان سقوطه فاتحة لتساقط الحصون واستسلامها، حصن مرحب، وهذا هو اسمه الشعبي عند أهل خيبر اليوم، وليس اسمه التاريخي، بناء من الطين والصخر ليس بالضخم كالقلاع وليست هذه هي سر منعته، ولكنه يقع على صخرة منتصبة بارتفاع بناء من 3- 4 طوابق شبه ملساء، تواجهك وجهاً لوجه من كل الجهات، وليس لها مدخل إلاّ من جهة الحصون التي وراءه، والمساكن التي بعده، في مدخل صعب وعر محصن بالطبيعة، فإذا ما تقدم جيش المسلمين نحو الحصن فهو مكشوف لليهود من كل الجهات، وبمقدورهم أن يرموه بالصخور والسهام والنيران، ولا يوجد مدخل ولا مرقى، ولا يملك المسلمون يومها سلاحا مضادا للدروع، فليس إلا الاقتحام والالتحام بأسلحة فردية، ولو رأيت بأم عينك لدهشت كيف لم يهزم المسلمون؟ فسهام اليهود تصل للمسلمين قوية هاوية، وسهام المسلمين لا تصل لليهود، وإن وصلت ففي أضعف حالاتها، والمسلمون مكشوفون واليهود من وراء جدر، كان ميزان القوى في الميدان يرجح كفة خمسة من مقاتلة اليهود على مائة من المسلمين والحال هذه.

تقدم المسلمون نحو الحصن بقيادة محمود بن مسلمة فرضخه اليهود بالحجارة فقتلوه مهشما، فجبن أخوه محمد بن مسلمة وفرّ وقال لم أر يوماً كهذا اليوم، وقد كنت ألومه على جبنه وفراره لو لم أر الحصن، ولكن لماّ رأيت الحصن أعذرته، إذ ليس ثمة حيلة أمام الحصن إلاّ مواجهة الموت وبدون جدوى، فماذا عساك أن تفعل وليس أمامك إلاّ صخرة شامخة صماء ملساء قائمة باستقامة إلى 15 متراً وعدوك فوقها يرميك بكل ما لديه، ولقد أعذرت أبا بكر وعمر والمسلمين حينما هاجما الحصن فأجهدا وأجهد المسلمون ولم يكن فتح، فإلى اليوم لو أعيد المشهد وبنفس أدوات ذلك الزمان لحدث ما كان قد حدث.

استدرنا حول الصخرة من جهاتها كلها، إنها أشبه بشبه جزيرة يحيطها البحر من كل الجهات إلاّ جهة واحدة هي في نفسها كالحصن في الارتفاع والانتصاب، ترى كيف اقتحم المسلمون هذا الحصن المنيع وبدون آلة؟!

كان المسلمون يعلمون صعوبة خيبر وقوة تحصينها، ولعلك تكتشف هذا في حداء عامر بن الأكوع حينما طلب منه النبي أن يحدو لهم، فالحداء يؤنس النفس العربيّة وليس الإبل العربيّة فقط فحدا لهم

والله لو لا الله ما اهتدينا ولا تصّدقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لا قينا

ولعلك تفهم ذلك من حاجة المسلمين للدفع المعنوي في كلمات رسول الله (ص) إذ أنه نزل على خيبر ليلاً ولم يُعلم أهلها، فخرجوا عند الصباح إلى عملهم بمَسَاحيهم فلما رأوه عادوا وقالوا: محمد والخميس! ( يعنون الجيش ) فأدبروا هرباً، فقال النبي (ص): الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم ( فساء صباح المنذرين ) .

كانت توجيهات النبي (ص) للمسلمين بعد مقتل محمود من مسلمة ورهبة أخيه وتراجع المسلمين ، أن قال: لا تمنوا لقاء العدو واسألوا لله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم، فإذا لقيتموهم فقولوا اللهم أنت ربنا وربهم، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت، ثم قال: الزموا الأرض جلوساً، فإذا غشوكم فانهضوا وكبّروا ، الأمر الذي يدل على أنّ اليهود كانوا يشنّون هجمات بين الحين والحين على المسلمين ثم يعودون لحصونهم.

بقي الحصار 17 ليلة والمسلمون لا يجدون حيلة، وكأنما قد تأثر النبي (ص) لضعف أداء المسلمين، فقال لأبعثن غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا يولي الدبر، فقويت عزائم المسلمين وعلموا أن معركة الغد مؤزرة بالنصر المحتّم، وتشوّقوا أن يكون كل منهم صاحب حظها، فلن يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وهم يؤمنون بأن النصر من عند الله، وليس بقوّتهم وجهدهم فما هي إلا سبب للنصر ليس إلا، وإذا أراد الله شيئا يسر أسبابه، فلم يقعدهم عجزهم عن الفتح بالأمس عن الثقة بأنهم قادرون على النصر غدا، خاصة وهم لم يقصروا في بذل الجهد والجهاد، ولكن الله أرادها لبطلهم الأول بلا منازع، فلما كان من الغد نادى (ص) علياً (ع) وهو أرمد شديد الرمد، فقيل له إنه أرمد، فلما حضر قال يا رسول الله إني أرمد كما ترى وما أبصر موضع قدمي، فأخذ (ص) كفه وقرأ عليها ثم نفخ في عينه ووضع كفه على العين المصابة.

عقد له اللواء ودفع إليه الراية فقال على ما أقاتلهم يا رسول الله؟ قال على أن يشهدوا أن لا إله إلاً الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله تعالى ، فخرج بها يهرول لم يلتفت وراءه والمسلمون يسارعون لإدراكه، حتى ركزها في رضم ( حجارة مجتمعة بدون بناء ) من حجارة تحت الحصن.

لقد فتح المسلمون قبل حصن مرحب حصوناً لليهود في خيبر ولكن حصن مرحب كان صعباً، فخرج مرحب يتحدى وقد جمع عليه سلاحه قائلاً:

قد علمت خيبر أني مرحبُ شاكي السلاح بطل مجربُ

أطعن أحياناً وحينا أضربُ.

فبرز له عليٌ متقدماً جيش المسلمين والمسلمون من خلفه، كما تقدم مرحب وبقية من أبطال اليهود من خلفه، تفصلهم عنه مسافة، وحينها أجابه عليّ برَجَز على رَجَزه قائلاً:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات شديد القسورة

أكيلكم بالصاع كيل السندرة.

والسندرة ضرب من الكيل غِراف جِراف، فبادره على بضربة فَقَدَّ الحجر الذي على رأسه والمغفر الذي على وجهه وقدَّ رأسه حتى أصطك السيف بأسنانه، فكانت ضربة منكرة لم ير الناس مثلها، ففزع اليهود وتراجعوا نحو الحصن، فتبعهم عليٌ والمسلمون من خلفه في هجمة حامية قوية المعنى، فبلغ عليّ الباب باب الحصن وهو يقع في جهة حصينة فرماه اليهود بالحجارة من فوق فاقتلع الباب ببسم الله، وكأنما هو يستحضر قول الرسول (ص) الآنف

” وإنما تقتلهم أنت ” فأحدث ذلك الأمر الغريب فوق العادة مزيدا من الرعب في نفوس اليهود وانهزمت نفوسهم فتقهقروا وأطبق عليهم جنود الله من أبطال المسلمين متخذين الباب متراساً حتى غشوا أهل الحصن وسقط حصنهم المنيع ثم تهاوت خيبر واستسلمت تباعاً .. وفرح المؤمنون بنصر الله.

لم يتجاوز قتلى المسلمين يومئذ الستة، منهم الشهيد محمود بن مسلمة رضي الله عنه، ومنهم راع لليهود أسره المسلمون في الطريق فجاءوا به للرسول (ص) يكلمه، فقال له الرجل إني آمنت بك وبما جئت به فكيف بالغنم فإنها أمانة، وهي للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك، قال أحصب وجوهها ترجع إلى أهلها، فأخذ قبضة من حصباء أو تراب فرمى بها وجوهها فخرجت تشتد حتى دخلت كل شاة إلى أهلها، ولا غرو فلا ينبئك مثل خبير، ثم تقدم إلى الصف فتعمد اليهود التركيز عليه لأنه قادر على كشف أسرارهم فأصابوه بسهم فقتلوه، فاستشهد ولم يصل لله سجدة قط!!

إن عدد قتلى المسلمين هو في حد ذاته آية عجيبة، ومن رأى حصن مرحب أيقن بذلك، فكيف وهي حصون عدة؟! ولكن وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .

تساقطت علينا حبات من المطر، ولم نتمكن من صعود الحصن ودخوله لأنه كان مسيّجاً، وغربت الشمس ولم يكن المكان مسكوناً، حيث أخرجت البلدية كلّ الناس من حول الحصون وأخلت البلدة القديمة، وأحرق أحد النخيل، ونشرت الصحف رغبة أمير المدينة بإعادة إحياء معالم تاريخ المدينة العظيم، ولعل كل ذلك مقدمة لهذا الإحياء، إن مثل هذه المعالم هي أمانة تاريخية لا بل هي كنز من كنوز الإسلام، ومركّب من مركّبات روحه وتاريخه، وأثر من آثار التضحيات الجسام التي بذلها الصحابة الكرام مع رسول الله (ص)، والتي بفضلها أصبحنا نحن ذرية قوم مسلمين.

عدنا أدراجنا نحو مقبرة الشهداء حيث لا معالم تذكر إلاّ أرضاً مسورة، فدعونا الله لشهدائنا الأبرار، وأدينا لهم واجب الشكر، وقرأنا لهم الفاتحة، فقد صبروا وجاهدوا وبذلوا في سبيل الدين الحنيف، يوم كان الدين واحداً والقلوب متوحدة، والهدف واحد، الله ما أحلى تلك الأيام على شدتها، وما أقبح أيامنا هذه على رخائها، فالدين الواحد غداً مذاهب، والقلوب تفرقت، والأهداف اختلفت، وكأن الله لم يناد فينا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)

رجع النبي والمسلمون بالظفر، بعد ما عقدوا صلحاً مع يهود خيبر على نصيب من الغلة للمسلمين، فقد تصالح اليهود بعد ما يئسوا من النصر، وفي خيبر حرِّم الرسول(ص) زواج المتعة، ولعله(ص) لم يرد أن يتلوث المجاهدون بدُنيا اليهود بعد ما عقد الصلح، وهم أهل بيعة الرضوان أهل الحديبية قد نزلت فيهم قبل شهر (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18)

والصلح دائماً تصحبه أخطار ومفاسد، وهؤلاء اليهود أهل غدر، فلو استمتع المسلمون بنسائهم ما يدريك ما ذا يكون من غدرهم، ولابد أن ذلك سيؤثر في روحانية المؤمنين ويضعف تعلقهم بالآخرة في تلك الساعة، رجع النبي (ص) بالمسلمين أتقياء ظافرين قد أرهبوا قريشاً وسائر العرب الذين كانوا يتمنون أن تكون الدائرة لليهود على المسلمين وأن تمنعهم حصونهم دونهم.

ورجعنا نحن ليلاً نحو المدينة، وقطعنا الطريق الموحشة ليلاً كما قطعناها نهاراً، لنعيش بعض ما عاشه الصحابة المجاهدون في ليلهم ونهارهم، وشتان، عدنا لنرحل إلى سادة مجاهدين آخرين لا زالت قبورهم حول المدينة شاهداً على جهادهم وتضحياتهم العظيمة.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *