مدخل:
كان الوحي يأتي للمؤمنين بالقطعة تلو القطعة، لإحلال عقيدة العلم مكان قذارة الجهل، وكان مِن جملة المعالجات سردُ ما حدث زمن نبي الله سليمان (ع) بالحقّ، ومع ذلك وما دام للجهل صولاَت وصيحات ودول – فقد نالت قصّة سليمان (ع) بغرائبها حظّها الأوفى من طغيان الدسُ والإسرائيليات والتفسير المغلوط لاحقاً، لتزيد الطين بلة، فعادت كما لو ما صحّحت معتقداً ولا غرستْ هدىً!
وسيبقى عسيراً فهمُ أحداثها العجيبة ما دمنا نبحثها بمعزلٍ عن منطق العقل وحكمة السماء، وبعيون مسحورة فقط بمحكيّات التراث المُكرّر فوق كلّ منصّة.
ولا سبيل لفك ألغازها إلا بإزالة اللوثات العالقة في العقل، وبتثبيت الحقائق والمبادئ المنطقية أولاً. عندها فقط نكون قد عنّدنا الطريق وهيّأنا الفكر للدخول في حضرة كتاب الله مطهّرين من دنس العقائد الفاسدة الفارضة نتائجها سلفاً، ليكون كتاب هدىً لنا لا عمىً علينا.
رسالة سليمان (ع) ومهماته
تولّى نبيّ الله سليمان (ع) مسئولية تطهير المسالك في مملكته وتعبيدها تجاه الأرض المباركة، فكان (ع) قائدًا جوّالاً «بجنودٍ لا قبَل لأحدٍ بها» من تلك القرى، لتأمين الطريق التجاري / العبادي، المؤدّي من اليمن حيث دولتُه وسلطانه إلى بيت الله مكة وعداها شمالاً، باستئصال قطّاع الطرق وملوك الغزو والغارات وقطع دابر المعتدين. لإرساء الأمن والسلام بإقامة التحالفات ومواثيق الشراكة وقوانين العدل (كما استلهم نبيّنا (ص) ذلك وكرّره)، لإدخال الناس في «السلم كافة».
ولإنجاز مهمته الكبرى، أعدّ خطة عمل، يستهلّها بإرسال رسائل السلام والهدى لمن يروم السلام مع الاستعداد لمواجهة العُتاة التي تعلو عليه مصرّةً على الإبقاء على نظام الغارات ورافضةً لخطّة نشر التحضّر والسلام، وبما مكّنه الله من قدرات علمية واقتدارات، الهبة الذي وهُبَها دون ورثته الذين سينخر الفساد مِن بعده سلطانهم، كما أوردها قوله: « قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ » (ص:٣٤-٣٦) .
وحين واجهت التفسير عبارةٌ ( فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ ) فَتح مخزونَ الخرافةِ على مصراعيه لتفسيرها، مع أنّ «الريح» لها دلالات أخرى ذكر القرآن إحداها، فلم يتخيّروها، بل نسجوها بالوهم كما نسجوا أخواتها قبلَها فأصابها ما أصابهنّ (ريح، هدهد، نملة، جنّ، جنود الطير، عفاريت ردّ الشمس، طفق مسحاً بالسوق والأعناق، الاسم الأعظم، نقل العرش بسرعة الضوء، من اليمن لفلسطين!!! … الخ).
فالله سبحانه أمر المؤمنين ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: 46)، فالريح هنا القوّة وليس الزوابع، وباعتبار أنّ القرآن يتخيّر ألفاظاً ذات دلالات متعدّدة. لتصلح بوصف المشهد في طبقات عدّة، فـ«الريح» هنا لها ظاهر وباطن، الظاهر عسكري بأنّ الله سخّر لسليمان (ع) أدوات القوّة والغلبة (كتائب) تتحرّك بأمره وتمسح المناطق المستهدفة ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ﴾ [الأنبياء ۸۱] تعصف بالمفسدين. ﴿ وَلِسُلَيْمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ (سبأ: ١٢) المسالك محروسة بقوى رادعة (ثابتةٍ كحاميات، ومتحركة كسرايا ودوريّات) لمسافة مسيرتها شهر أي (بين 1000-1500 كم( كالمسافة بين سبأ ومكة (١٠٠٠ كيلو) كلها آمنة في عصره، والباطن زراعيّ بأنّ الله سخّر فعلاً الريح لتحمل البذور وقطر الأمطار وتلقّح الأرض رائحةً غادية عليه كقوله تعالى ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾ (الحجر ٢٢). وتجعل أراضي مملكته التي مسافتها شهر مخضرّةَ ملأى بالثمار ومباركاً فيها.
بينما التفسير يقول: (سخّرتْ له الريح تجري بأمره، فكان يغدو من إيلياء، ويَقيل بقزوين ثم يروح من قَزْوين ويبيت بكابُل) أيْ الصبح بفلسطين والظهر بإيران والمغرب بأفغانستان، مع أنّ سليمان لا علاقة له بإيران وأفغانستان؟! بل لا علاقة له بفلسطين إلاّ بإقرار الجغرافيا الصهيونيّة المزوّرة. ثم نسج التفسيرُ لسليمان.
سليمان ومنطق الطير:
نحاه التفسير في مفهوم «الطير» ما نحاه مع «الريح». واخرج القصاصون خزعبلات قصصيّة بين سليمان (ع) وأنواع الطيور، فجعلوه يتكلّم بلغاتها، بل تتكلّم بمنطق الحكماء والعُرفاء، تجد هذا في أكثر الكتب الدينية، فمرّة يُصلح بين عصفوريْن، بعد أن بكى من شكوى وكلام العصفورة في «إخلاص المحبة»، ومرّة يُحدّث القُبَّرة المتحيّرة أين تبيض، ومرّة يُفسّر لأصحابه صيحات الطيور (والتي جعلوها حكَماً موّجهةً للأدميّين دون أنْ يفهمها أحدٌ منذ آدم! بل وتُصوِّت بآياتٍ قرآنية قبل نزولها على نبيّنا (ص) بآلاف السنين!)، ( فالورشان يقول للآدميين: لِدُوا للموت وابنوا للخراب، والفاختة تقول: ليت الخلق لم يُخلقوا (ولا ندري لماذا هكذا هي ناقمة!) ، والطاووس يقول: كما تَدين تُدان، والهدهد يقول: مَن لا يَرحم لا يُرحم، والصرد يقول..، والخطّاف..، والحمامة..، والقمريّ..، والغراب يدعو على العشّارين (وقبل وجودهم ماذا كان يقول؟!)، والحدأة تقول: «كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه»، والقطا يقول..، والباز يقول: سبحان ربي وبحمده، والدرّاج يقول: «الرّحمنُ على العرشِ استوى» (مع أنّ متكلّمة العلماء تنازعوا في فهم معناها، لكن الدرّاج يقولها!)، أمّا نحن فنقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون مِن هذه المصائب على العقل. وزاد أحدهُم الماءَ على هذا الطين فقال: (كان للنملة جناحان فصارت مِن «الطير»، فلذلك علِمَ سليمانُ منطقَها ولولا ذلك لما علمه) الله أكبر!
إنّ كلمة «الطير» هي من الألفاظ المتشابهة أو لفظ مشترك، فلها مدى لغوي جامع تقع فيه أشباهٌ ونظائر، وهي كأيّ كلمة في القرآن لا يُدرك تعينُّها الخاصّ إلا مِن سياقها النصّي والتاريخي، وهي في اللغة «كلّ ما يتطاير أو يرتفع»، قد تعني الطير بجناحين، الكتاب المُرسَل، الكلمة الشاردة، الغبار والرذاذ، الرسل المُبتعثة، الخير المنتشر، المقذوفات المتطايرة، العمل المنبثّ، ما ينقشع ويذهب، التشاؤم، الشرّ..الخ، وكلّ هذه المعاني لـ «الطير» ذُكرت في القرآن.
كانت العرب تزجر الطير (Bird) لمعرفة (الخير من الشرّ) في الاتّجاهات المسلوكة، فيذهبون جهة الحمامة لأنها تحلّ على خير وأمان، لا جهة الغراب لأنه يحلّ على شرّ وموت.
وسليمان داعية خير وناشره، محنّك وحكيم، يعرف هذا المنطق الذي يكشفه زجرُ الطير، جهة «الخير» وكيفية نشره وجهة «الشر» وكيفية توقيه، فهو يعلم بنص القرآن منطق الطير».
نقرأ ذلك في قوله تعالى: « عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ». وكلمته «عُلِّمنا» يعني بها نفسه وأباه عُلّما «منطق الطير» أي الحكمة في معرفة الخير وتمييز الشرّ، وأوتيا كلّ ما يحتاجانه من أدوات فعل الخير ودرء الشرّ.
وهناك أيضاً «الطير» إرسالياته السريعة إلى القرى، «تطير» إليها بأمره وتؤوب إليه بالأخبار، (تماماً كرسل نبيّنا ومبعوثيه ووكلائه إلى الملوك والأقطار ففي الحديث: « رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنانَ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللهِ، يَطِيرُ علَى مَتْنِهِ »).
فإرجاعاً للآيات حيث حكمتها، ووضعاً لكلم «الطير» في مواضعه، وتجاوزاً للتفسير الذي انشغل بالإعجاز لإثبات قدرة الله، متجاوزاً حكمة الله، ليخرج تفسيرٌ قائم على «الوهم» الذي صيّر القرآن من كونه «فرقاناً» إلى مادّة «عمى»، يُباعدنا به عن معرفة السبيل الأقْوم والطبيعي لحلّ مشكلاتنا الإنسانية والحضارية.
فما هو إذن المعنى الحقيقي للطير في مواضعها القرآنية بما يتناسب مع المنطق والسنن ؟!
آيات «الطير» الواردة في داوود وسليمان (ع) هي ستّ، إذ مهمّتهما كلاهما وإمكانياتهما واحدة (عُلِّمْنَا .. الطَّيْرِ) :
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ (الأنبياء: ۷۹)، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ﴾ (النمل: ١٦)، ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ )النمل: ١٧( ، ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ )النمل: ٢٠(، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ (سبأ: ١٠)، ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ (ص: ۱۸-۱۹).
تفقد الطير: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ (النمل:20) تفقد روّاده التي يُطيّرها إلى الجَهات لجلب الأنباء (أنباء الخير والشرّ) ليرسم أولويّات خارطة تحرّكه التنمويّ الحضاري، كزجر العرب للطير (Bird) لمعرفة الخير والشرّ في الاتّجاهات المسلوكة.
منطق الطير: ﴿ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ (النمل: ١٦) : حين يُنادي الملكُ رعيّته «يا أيها الناس» أنّي وأَبي عُلّمنا «منطق الطير»، فلابدّ أنه يتكلَّم عن قُدرة لها علاقة بحاجاتهم، أيْ بالإدارة السياسية للناس لتنعم بالخير، ويكون خطابُه الناس عبثًا إن كان يستعرض أنه وأباه يعرفون لغة الطيور بأنواعها! والأعبث منه أن ينقل القرآن أمراً عبثياً كهذا لنبيّه الهادي (ص)، ثم لنا!
الناس لا تريد مِن زعمائها أنْ تُجيد رقصاً فوق المنصّات وتدبيج الخطابات، أو تحوز الأحزمة والميداليات، أو تُكلّم الطيور والحيوانات، او ذات خوارق فردية وبطولات، في شعر أو ملاكمة أو بهلوانيات، تريدها فقط تُحسن سياستها وتُوّفر لها الراحة والرفاه وحلّ المشكلات، ولا يُضيرها لو كانوا مُقعدين على كرسيّ متحرّك، لذلك تُجرى بين المرشحين المناظرات، إنما لإقناع الناس بأفضلية برامجهم في تيسير الخدمات.
إنّ علم «منطق الطير» كمهارة قيادية وإدارية لحاكم ربّاني مودود، المنطق الذي زُجِرت الطير أساساً لمعرفته، هو ما الحُكّم بحاجةً لحيازته؛ معرفة جلب الخير ودرء الشرّ (فنّ خدمة العامة بنشر العلم والرفاه، تعليمهم المهارات والصناعات النافعة، استثمار الموارد للصلاح العام، استصلاح الأرض والطرق، مكافحة الآفات، درأ الشرور).
تأويب الطير: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ (سبأ: ١٠).
الصحيح أنّ «أوّبي» هو للجبال فقط بخلاف التفاسير، وسيأتي.
حشر الطير: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾ ( ص :18ـ 19)، الحشر هنا هو للجبال حصراً أيضاً، لكن التفسير قال: أنّ الطيور تقف في الجوّ مستمعة أو تتمايل مع داوود حين يتغنّى ويرتّل زبوره، على طريقة عازف المزمار مع جرذانه! والتي لا مغزى رساليًا لها.
وأعربوا الألفاظ لتُناسب تصوّرهم («الطّيْرَ» معطوفة على الجبال، «مَحْشُورَةَ» حال للطير: أيْ سخّر الله الجبالَ تسبّح، وسخّر الطيرَ تُسبّح محشورةً)، فماذا لو كان حتى إعرابهم خطأ؟ لنُحلّل هذا:
(سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ)، في القرآن هناك (تسخير لـ) و(تسخيرٌ على) و(تسخير مع)، والجبال هنا مسخّرة معه، أي مخضّعة لتعمل معه، كقول بلقيس (وأسلمتُ مع سليمان) أخضعتُ مملكتي لتعمل معه.
ثم إنّ «الجبال» هنا هي جغرافيَا (أي مواقع جغرافية مأهولة) قبل أن تكون جيولوجيَا (أيْ مادة صخرية)، وبلُغتنا فتأويب الجبال وتسبيحُها هو سياسيّ أو جيوسياسي)، قبل أن يتمّ تسخيرها واستثمارها اقتصاديًّا وتجاريًّا وزراعيًّا وعسكريّاً، فداوود وسليمان يحرّران الشعوب أوّلاً لينشرا الخير والسلام ثانياً، ومَن يملك الجبال تدين له السهول.
و«التسبيح» ليس ترانيم صوتية وما شاكل كما توّهم التفسير سواءَ من الجبال كمادة صخرية أو من ساكنيها، بل هو «حركة انتظام عمليّ دائب مع الهدف الحقّ»، فالجبال (دانتْ كجغرافيا واستُثمرتْ كجيولوجيا) دانت وتحالفت قبائلها اليمنيّة مع داوود عبر وسطائه ومبعوثيه (طيره) و«حُشرت» أي أدْمجت في النظام لتعمل ضمنه، بهذا ستُقرأ الآية هكذا: إنّا سخّرنا الجبال محشورةً يُسبّحن معه ومع الطيرَ)، فواو «والطير» واو معيّة لا واو عطف أي (سخّرنا الجبالَ -مع الطير- محشورةً)، فالمسخّر والمحشور هو الجبال فقط. لذلك كانت الآيات تفْصل «الجبال» عن «الطير» ولا تعطفهما على بعض، بهذا يكون الإعراب هكذا: «الطير»: مفعول معه، «محشورة» حال من الجبال.
(كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) كل الجبال له أوّاب، بدليل آية (يَا جبَالُ أَوِّبي مَعَهُ)، فالذي يؤوب هو الجبال حصرًا بخلاف مقولة التفسير، فأقوام الجبال بايعته وجعلت أمورها ومواقعها تؤوب إليه، فهي سيطرة جغرافية وجيولوجية، لكن بالحب والإحسان والعدل ونشر الخير (أي بسياسة: «منطق الطير»).
فمُلخصًا:
سليمان تفقّد روّاده المبعوثين للأقطار (تفقّد الطير)، قبائلُ (الجبال) أذعنت ودانت (أوّبت)، وانتظمت بمنافعها (سبَّحت)، وأصبحت مُدمجة (محْشورة)، في مخطّط داوود وسليمان الحضاري، بعد أن تجاوبت وتعاونت (مع) وكلائه المبعوثين (الطير). أحدُ طلائعه العديدين «هَدَدٌ بنُ هَمّال الهدهد»، ذكره القرآن (والتوراة) كنموذج لغيره من مبعوثيه (الطير)، قال أهل الأخبار واللغة:
هَدَدٌ: اسم لملك من ملوك حِمْيَر، وهو هَدَد بن همّال، ويروى أَنّ سليمان زَوَّجَه بلقيس «بنت بَلْبَشْرَح»، وفي مصادر أخرى «بنت شراحيل» ولعلّ في اسمه خلافاً أو أحدُهما لقب)، فانظر استعجام اسم والد بلقيس على أهل اللغة مع أنّ الاسمين واحد: «بلبشرح» بعل بشرح، و«شراحيل» شرح إيل و«شُرَحبيل» أيضا شُرَح بعل، و«شرح» تعني نصر وفتح، وبعل وإيل أي الإله /الله، فمعناها «فتح الله» أي «نصر الله».
(الهَدْهَاد بنُ شُرَحْبِيل أَبو بِلْقِيس (انظر، جعَله بعضُهم أباها بينما هو مَن تزوّجها)، والهُداهِدٌ: حيُّ من اليَمن).
وفي سفر الملوك ۱۱:۱٤١ (وَأَقَامَ الرَّبُ خَصْماً لِسُلِيْمَانَ: هَدَدَ الْأُدُومِيَّ)، وهذا قبل أن يُذعن له.
وفي اللغة (يُهَدْهَدُ إِليَّ، ويُسَوَّلُ، ويُهَوَّلُ، ويُوَسْوَسُ) بالمعنى نفسه، وهذا يناسب اختيار القرآن لهذه التسمية (الهدهد) بدل «الهدهاد» و «هدَد». ليُكدّس فيها مراميه، أنّ اسمه «هدهد / هدهاد / هدد» وانتماؤه هو من هداهد حيّ من اليمن، وجاء بُهدهد لسليمان أي يُهوّل ويُخيّل.. فانظر عجيب كلام الله.
فالنتيجة: الهدهد جندي مُرسَل لمهمّة حضارية، وليس طائراً بمنقار وزغب.
أرسل سليمان (الطير) هدداً (الهدهد) إلى قرية سبأ ليستطلع شأنها وإلى مَن صار مُلكها، وسبأ نموذج لقرية من مئات القرى التي أرسل سليمان رسله (طيوره) إليها لتحريرها عقائدياً من الوثن، وسياسياً من الظلم، وتطويرها حضارياً، فتأخّر هناك، ثم جاء متبجّحاً مُهوِّلاً بمعلومة مهمّة، أنّ مُلك سبأ صار للابنة (بلقيس: بعل قيس = كاهنة بعل) بعد موت ابيها (شرحبيل: شُرَح بَعْل = نصر الله)، وأنّ قريتها ازدهرت، ولها قوّة أتبِاع، وأنّ سلطانها (عرشها) عظيمٌ بإزاء بقية القرى المجاورة.
﴿ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ (النمل: ۲۰): سليمان هو مَنْ أرسله إلى سبأ وَيُنتظَر رجوعه في المهلةَ المحدَّدَة بتقريره الاستطلاعي الشامل لاتّخاذ قرار بشأن سبأ، فتأخّر عن الاجتماع المنعقد، فافتقده، فتوجّس منه التآمر، لسوابق منه. ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل:17): ضمير «هم» يعود على «الناس» المذكَورة في السياق قبلاً، وليس كما تقول التفاسير، فالناس والأمم هي التي تُوزَع وتُكفّ عن الشرور، بواسطة قوانين العدل وقيَم السلام، والإدارة الحكيمة لسليمان، وانغماس جنود سليمان المتنوّعة وحامياته وحمرها في مهمّات محاصرة الشرّ، وكذا بالتحالفات الأممية المثمرة على البرّ والتقوى التي قام بها «الطير» الرسل المبتعثة، وأيضا لتوفّر الخير وانتشار الرفاه وسدّ الحاجات، فكانت السبل كلّها محمية بسليمان وجنوده فتُزَع الناس عن الشرور (فهم يُوزَعون)، وأنّ الأمن والسلام يعمّ الأرجاء، ووَرديّاتُ الدوريات العسكرية المتحرّكة (الريح) والحاميات ( «الجبال» / «القرى الظاهرة») تحفظ الأمن وتقوم بواجباتها (تُسبّح) ليل نهارَ (بالعشيّ الإشراق) بالعشئ لتحفظ أمان الليل، وبالإشراق لتحفظ أمان النهار، لتنعم الناسُ بالأمن ليلَ نهارَ (وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ ۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ) .. بل وصنع السجون لـ «الشياطين» الإنسيين (الخارجين عن القانونَ) واستثمر خدمات الصُنّاع منهم في الخدمة العامة وهم مصفّدون (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ) (نظام اشغال الشاقّة)..
وورث سليمان داوود ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (النمل:١٦) : خلَفَه في العلم والفضيلة والمهمّات الرسالية، ليسوس الناس بالعدل والفضل، وورث المشروع الخيريّ الحضاري الذي عليه استكماله، بعد أنْ مُدَّ بكامل أدواته.
إذن، عبارة «منطق الطير» تتّسع بمعناها وإيماءاتها لتشمل الآتي:
- منطق الطير: (Bird) أي علّمنا تقنيّات الخير الحضاري الذي ينبغي نشره»
- منطق الطير: (Gossip) ما «يتطاير» وينبغي «مَنْطَقته» أي «تطويقه» (في اللغة: مَنطقَ الشيء أي طوّقه وحصره ووضعه في نطاق)، فـ «منطق الطير» «تطويق ما يتطاير» من كلمات ذات إشارات مدمّرة وإشاعات ونمائم. فيفهم «بفطنته» دوافعها نيراتها وإيحاءاتها وأبعادها وآثارها، ثمّ «بحكمته» يعرف كيفية «تطويقها» وتوفير مضادّاتها.
- منطق الطير: عِلْم الكتاب / الرسالة (Letter)، قال تعالى (الْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء :۱۳) وهو «كتاب» الأعمال، فالكتاب / الرسالة يطير حيث وجهته، فمنطق كتابة هذه الرسائل المؤثّرة في الملوك بلغاتهم واهتماماتهم كان لدى سليمان علمُه إتقانُه، ونبيّنا (ص) حاكاه أيضاً).
هذه المدَيات المضغوطة في تعبير «منطق الطير» قد أدرجت في القصّة السليمانية.
الهُدهُد وهَدْهَدَتُه التهويلية:
قلنا أنّ «الهُدهُد» من معانيه أنه يُهوّل ويُسوّل، وقد سجّل لنا القرآن في ثنايا كلماته هذه الأغراض، وحين جعل التفسير «الهدهد» طيراً بجناحين، ثم أنتج القصّاصون بإزائها حكايات مخترعة لطيور أخرى، لم يرجعوا للقرآن ليدرسوا النصّ نفسه يفحصوه. ويُحكّموا العقل ضمن سُنن الخلق؛ أهناك طيرٌ مدى التاريخ كلّه، واعٍ لدرجة الإتيان بتقرير وصفيّ محيط بمفاهيم بشريّة؛ عن حال قوم وأفعالهم ونظامهم معتقدهم؟ ثمّ يفتخر بإحاطته؟ ويُقلِّل بغروره من إحاطة سيّده؟ ويسمّي القرية التي زارها؟ ويصف نبأه «باليقين»؟ ويُحتمَل منه الكذب في عُذره؟ ويتمّ توعّده بالتعذيب؟ ثم يُحمَّل رسالة إلى القوم؟ ويُطلب منه إلقاؤها عليهم؟ والمراقبة ورصد الانطباعات؟ لتسجيل أقوالهم وانفعالاتهم؟ فيفهم لغتهم وحوارهم، ثم يرجع ويخبر من ابتعثه التفصيل ما رآه وسمعه؟!
إنّ واحدة مما ذُكر يستحيل لحيوان أن يفعلها، هُدهدًا كان أم نملةً!، بل ربّما الإنسان العاقل يقصر عن بعضها، لم تعرف البشرية مطلقاً طيرًا خارقًا بهذه المواصفات، فالحمام الزاجل لا يصل برسائله إلاّ إلى المكان الذي ألفه وبُرمج عليه، والحمامة تصل صمّاء بكماء دون خيلاء وعاطفة، لا تعقل حدثاً ولا تنقل مداولةً بل ولا تدري ما الكتاب، فلا يُقال لها: اذهبي بالكتاب وألقيه عليهم!
لم يخلق الله (إلا في مخيّلة التفسير) طيراً يتحدّث، ويعرف اللغات والعقائد والمناطق الجغرافية، ويغيب عامداً، ويتفاخر، وقد يكذب، ويجوز تعذيبه أو إنهاكه بالأشغال الشاقة!
عقد سليمان (ع) اجتماعًا لقيادات جيشه، فـ (تَفَقَّدَ الطَّيْر) وهم مبعوثوه للقرى المزمع التحرّك نحوها، فافتقد الهدهد «هدداً بن همّال» فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ )؟
وقوله «أم كان من الغائبين» تعني أنه يسأل عن عاقل يملك إرادة الفعل، وإن تأخّر متعمّداً دون عذر فهو متمرّد (كالفارّين من الجيش، أو المتآمرين مع العدوّ) مستحقّ للعقوبة، لذلك قال «لأعذّبنّه»، والتكليف والمحاسبة لا يكونان إلا للعاقل، ومحالٌ على نبيّ أن يعذّب طيرًا لا إرادة له، فالهدهد جندي يعمل ضمن أوامر ونظام صارم، مَن ينتهكه يُعاقَب، وقوله «لأذبحنّه» أيضا لفظ متشابه، فليس «الذبح» لغةً فقط النحر بسكّين، بل منه التضييق والخنق فيُقال «ذبحة صدريّة»، والحبس، والتسخير الشديد المُنهك، وتشقيق الأطراف بالشغل…
حضر «الهدهدُ» متأخّراً مدّعيًا أنه يحمل معلومة غايةً في الأهمية، فما الذي انطوتْ عليه بهرجةُ كلماته من مضامين فاسدة مطويّة:
أوّلاً: بدأ بقوله «أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» (النمل:٢٢)، فلنسجّل آثارها وصداها، لدى سليمان، وفي ذهن الملأ:
- ادّعاء «إحاطة» بحاجة لتمحيص.
- جاسوس مهمّته الاستطلاع، أيليق به أن يرجع بمعلومة مفتخراً بها على مسئوله أنّه سبَقه إلى معرفتها؟!
- ما أدراه أنّ سليمان لا يعرفها، لا وحياً كنبيّ، ولا سماعاً من مصادر أخرى كملكٍ يقف على هرَم قوًى كثيرة؟
- أمن الانتظام والأدب، أن يدخل جنديٌّ (متّهمٌ بالتخلّف) على مجلس ملكه بمحضر الأعيان والقيادات بمقدّمة بهلوانيّة كهذه، يُعلي نفسه على مليكه متعرَّضَاً لهيبته ومنتقصًا لعلمه؟!
- ما وقْع هذه الكلمة «أنّ سليمان لا يحيط بكلّ شيء» على مَن تُسوِّل له نفسُه التمرّد؟
- أساذجٌ هو ووقعت كلمته الرعناء بجهل؟ أم خبيثٌ يجب أن ينتمي لصنف الـ«مقرّنين في الأصفاد» لكنه طليق، فأخرج بكلمته هذه «الخبء » المكتوم في قلبه؟
- أليس مِن طبيعة المتَّهم أن يحاول التمويه عن خطئه بافتعال جلبة ومقدّمات بطولية؟
هذه أسئلة ستدور في خَلْد مَن له خبرةٌ بالنفوس وكيفيّة إدارتها لكبح شرورها، من له خبرة بـ (منطق الطير)، كلمات شاردة تطير بآثارها..
ثانياً: «إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ» (۲۳).
سيلٌ من الاستفزازات المطمورة لتطييش حكمة سليمان:
- استفزاز ذكوري: (إنيّ وجدتُ امرأةً تملكُهم)
- استفزاز إقطاعي مُلكي: (وأوتيتْ من كلّ شيء)
- استفزاز سلطاني سياسي: (ولها عرش عظيم)، كما يُضمر استفزازاً دينيا كون الله هو «رب العرش العظيم».
- استفزاز ديني: (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ)
الانسياق لأيٍّ مِن هذه الاستفزازات، وشنّ حرب بموجبها، كفيلٌ بإسقاط الملك الحكيم وإفشالِ نبوّته!
فيا ملك إنّك وأباك أوتيتما من كل شيء (وأوتينا من كلّ شيء)، فهذه «امرأة» «أوتيت من كلَّ شيء» على تُخم مملكتك، وأنت تعبد ربّ العرش العظيم، فها هي «لها عرشٌ عظيم» وتسجد للشمس، أفلا تُخدَش هيبة الملك بمحضر أعمدة سلطنته إذا صدق «الهدهد» (المُهوّلِ المُسوّل)، كاشفاً أن ثمّة قوّة على أطراف مملكته، فاته العلم بها؟! (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ، اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)
التفاسير تجعل هذه الآيات كلّها من كلام الهدهد، ويتفنّنون في التعليل والتخريج! لذا تشوّشت الصورة وزال المنطق، بينما المفروض أن ينتهي كلام الهدهد بقوله « وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ »، أمّا ما تلاه فهو من تعقيبات الوحي، فلا الهدهد حكيمٌ واعظٌ، ولا يصحّ أن يواجه الملك وأمراءه بقوله: « ويعلم ما تُخفون وما تُعلنون» فهذا استعلاء، ناهيك أنّ الآيات في باطنها تدحض الهدهد نفسه، كيف؟
إنّ الآية « وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ»، تنزيلُها في بلقيس وقومها، أمّا إيماؤها فإدانة الهدهد الذي زيّن له الشيطان نسج قصّته حائداً عن السبيل القويم في نقل النبأ.. (وسبق أن قُلنا أنّ اللفظ « هَدْهَد» تعني زيّن، سوّل، هوّل.. الخ).
«ألاَّ يَسْجُدُوا الله»، الشيطان زيّن لهم أنْ لا يسجدوا لله، إذ ما مِن فعل، سلوك، عقيدة، مذهب، أو طقس معوجّ إلا وهو مزيّنٌ لدى صاحبه، حتى المذاهب متى كانت ضدّ نقاء الدين وضدّ عبادة الله الحقّة ومع عبادة الرجال وتصنيمهم هي مزيّنةٌ إيمانيًّا مبرّرةٌ منطقيا في عقول وقلوب أتباعها، ولا يحسبون إلا أنّهم المهتدون، لذلك لا محالة « فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ»
« الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ». فيها تعريض للهدهد، إذ سلَيمان كممثَّل لله ومتلقّي وحيِه، يُهيمن على أرضه وسمائها، ويعلم المخفيّ في المُعلَن مِن كلمات الهدهد، بعلمه بمنطق الطير(يفهم ويطوِّق الإيحاءات المتطايرة)، فبادر على الفور «تطويق» هذه الكلمات الشاردة واحتواء أضرارها المحتملة، وما يمكن أن تخلّفه لزعزعة نظام وهدر لطاقات، وتشجيع لتمرّد وعصيان، «فأحاط» بالموقف وعكس التأثيرات السلبيّةً إلى حصانة، بإجراءات متلاحقة سيّالة، تعيد للعقول اتزانها، وللنفوس استواءها، وللنظام ثباته.
فالهدهد ارتكب مخالفات «معلنة» و «مخبوءة» ، تحتاج مضادّات من جنسها .. «لتطويق/ مَنْطَقة» ما «طار» منها:
١- نفخ الهدهد نفسه، فقزّمه سليمان بأن أعاد إرساله شخصيًا، وضبطَه بأوامر لا يحيد عنها .
٢- برّر تخلّفه بتهويلات، فأحال سليمان قضيّته للتحقيق، إن كان فعلاً مكثه في سبأ هو ذريعةَ تخلّفه .
٣- ادّعى إحاطته دون سليمان، فأراه عمليّاً معنى الإحاطة، وكيفية استيفاء التفاصيل.
٤- ادّعى وجود ثغرة لم يطلها سليمان، ربّما تُمنّي بالهرب مَن تسوّله نفسه، فأرسله إليها دون غيره، وسلّط أحد تلاميذه عندَه علمٌ مِن الكتِاب)، إنسيّا لا جنّيا، لينشر الثقة أنّ لا مفرّ مِن سلطانه.
٥- ادّعى وجود عظمة بإزاء عظمة سليمان، وعرشٍ بإزاء عرشه، فأراه وأمثالَه، كيف أرعب الممالك بمجرّد كتابٍ قليل الكلمات (لكن له منطق بليغ تذلّ به الملوك: منطق الطير) نزع به القداسة عنها، كسر سلطانها، هيمن على قرارها شلّ قدراتها، أخضعها للدعوة، ونسف تلك العظمة المدّعاة في لحظة، حين جاء بعرشها، ودحرجه أمام الملأ .
« قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ »، عالج الموقف مباشرة بإرسال «كتاب» إلى بلقيس، فالكتاب الملكي لا يُرسَل إلا بناء على حقيقة مؤكّدة، وهذا ما يفسّر عدم تكذيب سليمان لنبأ الهدهد، وإنما في عُذر تأخّره.
«اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ»، أرجعه حيث أتى، هو وليس غيره، تحمل «كتابي»، تلقيه، وتنتظر هناك، وترصد انعكاس ما يدور بدواخلهم، تسجّل وتتفرّس وقْعه عليهم: ماذا سيقولون؟ وكيف سيُستَفزّون؟ ثمّ كيف سينهارون ويتوسّلون السلامة، ليريه ويُعيّشه شخصيّاً معنى الإحاطة، فتُلجَم الأصوات الشبيهة المتحفّزة للخروج عن السيطرة.
بل إنّ أسطر الكتاب كدّست تلميحات يفهمها الهدهد وأشباهه مباشرة، «ألاّ تعْلوا عليّ » رسالةُ وجْهتُها الملكة وقومها، وصداها الهدهد وأشكالُه، ومثلها «وائتوني مسلمين»، فليس إلا الاستسلام لسلطان السلْم، وأنّ عرشاً معظماً (بتهويل الهدهد) سيتمّ إخضاعه ببضع كلمات دونما جيوش، بمنطق طير (الكتاب الكريم الذي سيطير ليفعل فعل الجيوش).
والملفت المؤسف، أنّ هذه الآية « وائتوني مسلمين» فهمها التفسير أنها حملةٌ دينية إكراهية، لا فرضًا لنظام السلم، وما أسلمتْ بلقيس « مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » إلا طوعاً واختياراً، وما كان أبداً لنبيٍّ أن يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.
أما بقايا رموز القصّة، بعيدًا عن الخرافات والجهالات، كيف جيء بالعرش؟ ما معنى «يرتدّ إليك طرفك » ؟ أيّهما أسرع «قبل أن تقوم من مقامك» أم «قبل أن يرتدّ إليك طرفك» ؟ لماذا رُفض عرضُ العفريت؟ ما معنى «الذي عنده علم من الكتاب» أيّ كتاب؟ لماذا جيء بالعرش أساسًا؟ ما معنى « نكّروا لها عرشها»؟ كيف أسلمت تحته بلقيس وقومها؟ لماذا استدعاها سليمان؟ لماذا صنع لها صرْحا زجاجيا يجري تحته ماء؟ هذه وغيرها لها صفحات أكثر في مقالةٍ أخرى.
ختاما..
يتخيّر القرآن من أحداث التاريخ لقطات وقضايا، تقتضي الحكمة قصّها على نبيّه (ص)، كدروسٍ يهتدي بهداها، ويقتبس منها قيمًا ومناهج وأساليب تيسّر مشواره الرسالي .
نموذج هدهد سليمان، جعل النبي (ص) منتبهًا يعي الكلمات والأنباء قبل أن تطير وتستفحل بآثارها السيئة، فيُسارع إلى تطويقها، وقد وجدنا في سيرته (ص) تجليات لهذا الوعي والخبرة، منها تطويق الوحي لكلمات الإفك على زوجة النبيّ التي تطايرت من لسان لآخر وغرضها المطمور إسقاط حرمته (ص)، ومنها ردّه (ص) في أحُد على فتي فارسي يُدعى رشيد، ضرب مقاتلاً مشركاً على عاتقه وهو يقول «خذها وأنا الغلام الفارسي » ، فعلّمه (ص): هلاّ قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري! فالنبيّ حريصٌ على مبادئه، ويضبط الكلمات المتطايرة، حتى في أحلك الظروف.
ومنها يوم فتح مكّة، حين صاح سعد بن عبادة قائد لواء الأنصار: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة، اليوم أذل الله قريشا ». فتناهى للنبي خطيرُ ندائه، وأدرك أنّها دعوة انتقام، فَعَمَدَ إلى تطويق هذا النداء قبل أن يتطاير ويثير الأضغان والحميّات من الجهتين، فيُفسد خطته دخول مكة بسلام، فأفشى (ص) نداءً مضادًا: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحفظ الحُرمة، اليوم أعزّ الله قريشا»، وأرسل إلى سعد وعزله ودفع الراية لابنه قيس.
وفي عصرنا، فإنّ الكلمات الشاردة تشتغل على موجات أكثر تنميقا وخداعا واتّساعاً، وتتربّع وسائل الإعلام وبرامج التواصل على القائمة، أنباء ربّما حقيقية لكن تحمل معها فيروسات التدمير للعقل والضمير والمجتمع والأخلاق، تجعل الأفراد والإخوان والطوائف والأمم قابلةً للتحكّم والتجييش والفساد والتقاتل والانتحار، وقلّ مَن له حكمه يعي خطورة تلك الكلمات أو يكشفها لكفّ شرّورها، قلّ مَن يعلم منطق الطير.
استجابات