صناعة الإعلان.. هجمةٌ على الوعي

كم إعلانًا تجاريًا مرَّ عليك اليوم؟

هل تستطيع التذكر؟

الحقيقة أن ما تحتفظ به ذاكرتنا من صور للدعايات والعلامات التجارية هو أكبر بكثير مما نستطيع تذكره، ولكننا رغم ذلك قد نميل لشراء منتجات معينة لكون اسمها مألوفًا ومتكررًا فقط. هذه الحقيقة أثبتتها دراسات علم النفس عبر تجارب عديدة تقيس التأثير اللاشعوري للإعلانات التجارية ودورها في صنع قرار الشراء لدى المستهلكين. لقد وظف التجار والمسوقون نتائج هذه الدراسات في حملاتهم الإعلانية عبر عرض الإعلان عدّة مرات وبعدّة أشكال على الناس حتى يتكرر صداه مليًا ويدخل في مستوى التفكير اللاواعي، المستوى الذي يتخذ الدماغ فيه قرارات تلقائية وسريعة دون إمعان الفحص والتساؤل عن جدوى المنتج أو جودته.

انتعشت صناعة الإعلان بعد دخول العصر الرقمي، وبنيت بعوائدها الضخمة امبراطوريات لشركات عملاقة. تحقق “جوجل” وحدها اليوم مبالغ أرباح خيالية معظمها من الإعلانات، حيث بلغت إيراداتها في عام 2018 ما يفوق 136 مليار دولار. هذا الرقم يعادل إيرادات دولة نفطية غنية لعام كامل (إيرادات المملكة العربية السعودية عام 2016 تساوي 137 مليار دولار).

تعتمد جوجل على تجاوب المستخدمين مع الإعلانات، فكل نقرة “click” على أحد الإعلانات المصاحبة لصفحاتها تدر عليها أموالاً طائلة من المعلنين. في السنوات الأخيرة، تضخم عملاق جوجل بعد أن استحوذت على عدة قنوات لوسائل التواصل الاجتماعي ومنها موقع اليوتيوب YouTube الذي اشترته عام 2006 وضمت إيراداته مقابل الإعلانات التي يتم وضعها داخل مقاطع الفيديو وقبلها أو بعدها، وكلما زاد عدد المشاهدين والمتفاعلين والمتابعين لقناة فيديو معينة زادت عوائدها. الطريف أن اليوتيوب وغيره من المواقع والتطبيقات تطلب منك كمستخدم لخدمات الموقع دفع مبلغ اشتراك ثابت إن كنت لا ترغب بمشاهدة الإعلانات، وكأن ظهور الإعلانات بشكل مُلحٍّ ومشاغب أصبح واقعًا مفروضًا لابد منه، ولا تحرّر من قيده إلا بقيدٍ آخر!

إن حجم سوق الإعلان والدعايات في موقع جوجل وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي ليس إلا شاهداً على حجم التكلفة المادية لصناعة الإعلان وما تستهلكه من الناتج الإنساني لعالمنا، ولنا أن نتصور التكلفة غير المباشرة لمحتوى هذه الإعلانات التي تلقي بظلالها على ثقافتنا وقيمنا ومعاييرنا وقد تشكل ومن غير وعي، نظرتنا للصواب والخطأ، للمشروع وغير المشروع. بل أن وجودنا في وسط هذا السباق المحموم تجارًا متنافسين أو زبائن مستهلكين قد يشغلنا عن التوقف لحظة للنظر والمراجعة وتقييم الخطاب الإعلاني اليوم بعد تضخمه وعولمته واتساع رقعته وقنواته وازدياد تأثيره وأدواته، دون وجود معايير لضبطه وتنظيمه ليكون وفق القانون الإنساني مستمدًا من عدالة القيم الإنسانية.

ربما يميل البعض لعدم التهويل والنظر للترويج للسلعة والإخبار عن معلوماتها كفنّ من فنون البيع، و”التجارة شطارة”! وأنّ امتداح منتج معيّن هو نوعٌ من الممارسات المكفولة تحت حق حرية التعبير والنشر، متناسين إشكالات عديدة لم تتحدث عنها القوانين والتشريعات الرقابية أولها أنّ المبالغة في الإقناع وتكثيف الإلحاح ومحاصرة الزبون هو نوع من الإرهاب الفكري. وثانيها أنّ استغلال الحاجة والعجز تجعل الطرف المحتاج في موقع الضعف، وثالثها أنّ تزييف الحقائق واستغلال الثقة للكسب غير المشروع وغير المساوي لقيمة التبادل التجاري الحقيقي هو في الحقيقة “احتيال” له أوجه وتسميات عديدة: نصب، تزوير، تدليس، اختلاس، غش، رشوة. والرابع أنّ صناعة الوهم وبيع الآمال الكاذبة لم يكن ليكون صواباً حتى لو أقرّته قوانين البيع. وأخيرا والأهم أنّ تأثير استثارة الشهوة هو تغييب الوعي الإنساني، وهذا المآل هو الأخطر!

في المحاور التالية سنعرض للقارئ الكريم هذه الإشكالات والتي تبرز بوضوح كخصائص لظاهرة الاحتيال في الخطاب الإعلاني اليوم:

المبالغة في الإقناع والإلحاح.. إرهاب فكري

يُقرُّ ديف لاكاني مؤلف كتاب (الإقناع.. فنّ الفوز بما تريد)[1] أنّ الإقناع كمفهوم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التلاعب لدرجة تجعل البعض لا يميّز بينهما، وعليه يطرح أنّ السمة الأساسية التي تفرّق بين المفهومين هي “نية الشخص الذي يحاول الإقناع”. ويسهب الكاتب لاحقاً في فصول كتابه في وصف مهارات الإقناع وفنّياته وأهمية أن تكون للفرد شخصية مقنعة تمتاز بمظهر وهيئة وصوت مؤثّر وأهمّية اختياره للأشخاص المحيطين به والمؤيّدين له بأن يكونوا من ذوي النفوذ والسلطة. إنّ طرحاً مثل هذا لتعريف الإقناع ليس إلا تأكيداً لما توحي به اللفظة نفسها من وضع أقنعة تحجب الحقيقة أو تظهر شيئا منها. كما أنّ إغفال سمة “النية” من الإقناع هي التي قد تجعلنا اليوم عرضة لإغفال “الهدف” من الإعلان، فعندما يكون الهدف والنية هو الربح ولا غير يتحوّل الخطاب الإعلاني أيضاً لاحتيال ولا غير.

من جهة أخرى فإنّ المبالغة في الإقناع أحياناً تصبح على شكل تكرار وإلحاح، ويعتقد البائع أنه كلما حاصرك بإلحاحه فإنك ستستجيب للعرض المغري. هذا الإلحاح يأخذ شكلا جديدا اليوم مع تنوع وسائل الإعلام الإلكتروني وتقنيات الاتصال، فقد جُنّدت جميعها من قبل شركات الإعلان والتسويق كمنصّات عرض رقمية للمنتجات إضافة للقنوات المطبوعة والمسموعة والمرئية المعروفة مسبقاً، وانتشرت الهواتف الذكية بعروض ترويجية ميسِّرة لكل متعسّر، لتسهّل وتعبّد طرق وصول التجار إلى عقر دار زبائنهم! لقد رصدت دراسة إحصائية حديثة[2] ارتفاعاً قياسياً لمعدّل تعرّض الفرد للإعلانات التجارية من 500 إعلان يومياً في سبعينات القرن العشرين إلى أكثر من 5000 إعلان يومياً في وقتنا الحاضر تمرّ بها في الشوارع والمحلات وتشاهدها عبر التلفاز وأثناء تصفح الانترنت في الحواسيب أو الهواتف، هذا إن لم يتّصل المسوِّقون بك هاتفياً أو يقاطعوا مشيك المطمئن أو يطرقوا باب منزلك في انتهاك واضح لأبسط حقّ الخصوصية!

المبالغة في الإقناع عبر الإلحاح والمحاصرة هو إرهاب فكري يشعر فيه الفرد بأن عليه أن يدفع أي ثمن ليتخلص مما يقيّده ويزعجه. وفي حال اقتنع الزبون بالعرض وفاز التاجر بكسبه فهو لا يعني بالضرورة أنّ الطرفين رابحان وأنها معادلة ربح-ربح Win-Win، بل قد تحمل المعادلة احتمالية أنّ الزبون قد اتّخذ قراراً يضرّ سلامته واقتصاده وأمانه المالي على المدى الطويل. ولكنه لن يعرف إلا بعد حين..

استغلال العجز والحاجة

تقرّ الإحصائيات العالمية المنشورة في موقع الإحصاءات وأبحاث السوق Statista [3] بأنّ صناعة الإعلان تصرف ما لا يقل عن 4 مليارات دولار سنوياً لإنتاج ما يقارب 40 ألف إعلان تلفزيوني موجه لفئة الأطفال وذلك لتأثيرهم الكبير على قرارات الشراء التي يتخذها الكبار. فبالنسبة للمسوقين يعتبر إقناع الأطفال والمراهقين بخبراتهم الناشئة: المهمّة الأسهل، وكسر “خواطرهم الغالية”: النقطة الأضعف لدى كثير من آباء وأمهات اليوم! استهداف هذه الفئات دفع بعض الأصوات[4] أن تعلو وتنادي بوضع حدّ وضوابط للإعلانات التجارية المعروضة أمام أعين الأجيال الناشئة خصوصاً ما يحثّ منها على ممارسة أنشطة خطيرة أو غير أخلاقية أو المحرّضة على رفض القيم المجتمعية أو حتى المحفزة على عادات غير صحية كإعلانات مطاعم الوجبات السريعة والمشروبات والعصائر الصناعية والتي استثارت باحثين عدة ليقوموا بعرض دراسات أكّدت تأثير الإعلانات التجارية على ذائقة الأطفال واختياراتهم الصحية وما ينتج عنها من أمراض السمنة وسوء التغذية[5]، وهذا ليس إلا غيضاً من فيض..

ولكن السؤال المهم، هل الناشئة والأطفال هم “الحلقة الأضعف” الوحيدة في سلسلة المستهلكين المُستهدفين؟

ماذا عن المرضى والمعوزين والمحتاجين والمأزومين ماديًا أو نفسيًا أو عاطفيًا؟ ألا يمكن لحالة الضعف والحاجة أن تدفع للتغرير بهم وإيقاعهم فرائس سهلة في شباك الاصطياد الربحي غير المبالي بالقيم والمعايير الإنسانية؟ لا غرو أنّ الخطاب الإعلاني اليوم يستهدف هذه الفئات بالدرجة الأولى، أدوية التنحيف لمن يعاني من السمنة، عمليات التجميل لمن يخشى الشيخوخة، سفرات لمنتجعات الراحة للهاربين من صخب الحياة، سيارات راقية وملابس باذخة وأسماء تجارية مصطنعة لمن يشعر بالنقص الاجتماعي، وقروض عقارية بأضعاف مضاعفة للباحثين عن السكن المطمئن.. عشّ السعادة والهناء! وغير ذلك الكثير الكثير من خطابات وشعارات تستثير الحاجات وتخاطب النقص والمعاناة والضعف، وإن لم تجد حاجة جعلت من الكماليات “حاجات أساسية” لا غنى عنها ولا اكتمال للعيش الرغيد دونها.

الشعور بالحاجة قد يدفع الإنسان للضعف وربما القبول بالاحتيال، على أن قبول الاحتيال والاستغلال لم يكن أبداً مخفِّفاً لذنب المحتال أو مبرِّراً لجريمته. ممارسات النَّصب والخداع في التعاملات المالية قديمة قِدَم الزمان، وممارسة الربا قد نشأت بفرض التجار سلطتهم على المحتاجين وإخضاع أعناقهم لتظل للأبد في أسر العبودية. وعليه فالنظام الربوي ومنذ القدم قائمٌ على الاستغلال ومعنيٌ بتحقيق الربحية كهدف أساسي وكغاية تبرّر كل ما يؤدّي إليها من وسائل. لقد بُني النظام المالي العالمي اليوم على أسسِ وأيديولوجياتِ النظام الربوي فهو غير مبرأ ٍمن الجشع الرأسمالي الذي يسعى لنفخ جيوب طبقة على حساب خلو جيبِ ومعدةِ طبقةٍ أخرى، وغير منزهٍ من الإغواء الهمجي الذي يتفنن في إثارة الغرائز وتغذية أوار التنافس المحموم لنيل المكاسب والتخفيضات والجوائز. والمحصلة النهائية لنظام كهذا هو إنسان كادح مهما امتلأت حياته بوسائل الإمتاع لا يصل لحدّ الإشباع ولا يجبُ أن يتحلّى بالرضا والاقتناع! لأنه وببساطة متى شبَع وقَنَع فسيُضعِف ضخّ الأموال إلى عجلة الأرباح المليارية العالمية. إنّ من مصلحة سوق التجارة العالمي اليوم أن يظل المستهلك في لُهاثٍ مستمرّ يجرّ عربات الطوب ليبني ويرمم هرم احتياجاته البشرية: مأكله ومشربه ومسكنه، أمنه وعلاقاته ومكانته الاجتماعية وحتى نظرته لنفسه وتحقيقه لذاته. ومن مصلحة التاجر الذي سيوفّر إحدى هذه الحاجات أن يبدو كجِنّي المصباح محقّق الأمنيات مختالاً بعضلات القوة والنفوذ، كي يظل علاء الدين محتاجًا أسير ولعه بجمع المال وحلمه بنيل الجاه.

تزييف الحقائق واستغلال الثقة

قبل عشرين سنة فقط كانت المجتمعات العربية ترفض ظهور أبنائها وبناتها في مشاهد الدعايات والإعلانات التجارية باعتبار هذا العمل امتهانًا لخصوصية الإنسان وكرامته بأن يكون وسيلة لتسويق السلع والمحال التجارية، بل نادرًا ما شهدنا ظهورًا لإعلامي أو فنان في مشهد دعائي. ولكن اليوم، ومع سهولة تحقيق الشهرة عبر الظهور في شاشات التواصل الاجتماعي وبدافع الرغبة في التظاهر والتفاخر، فقد برزت ظاهرة جديدة لشباب وشابات يمارسون التسويق طوعًا لا كرهًا: “نجوم وفاشنستات العروض الترويجية”، بل دخل بعض الأزواج بأسرهم وأطفالهم ليكونوا عارضين للبضائع والأزياء والمنتجات، موظفين حياتهم الشخصية ومعرّضين خصوصيّتهم وخصوصيّة أطفالهم لتعدّي الآخرين وتدخلاتهم ولقضايا الاستغلال والتنمّر والقرصنة الإلكترونية. فما الذي حدث؟ ولماذا تشوّق التجار للمسوّقين الجدد؟

إنها استراتيجية التسويق بالكلمة أو ما يعرف بـ Word of Mouth. هذه الاستراتيجية التي اعتبرتها أبحاث الإدارة والتسويق أكثر أنواع الإعلان مصداقية، مع التحفظ على المقصود بـ “المصداقية” هنا، فهي لا تعني الصدق بقدر ما تعني قابلية التصديق. فحين يقوم شخص نال ثقة الآخرين ومحبتهم ومتابعتهم و”لايكاتهم” بالتحدث والتسويق لمنتج معين والتوصية به، فإنّ كلمته غالبًا ستُصدق! وعليه تكافئ شركات الدعاية والإعلان المسوّقين الثقات بعروض مجزية.

الغريب أنه واستغلالاً لنفس المفهوم ظهرت في السنوات الأخيرة مشاريع الاحتيال المعروفة بالتسويق الهرمي أو الشبكي، ووقع العديد ضحايا شبكات احتيال عالمي، ما دفع بعض الدول في العالم ومنها مملكة البحرين [6]إلى وضع تشريعات وقوانين توقف هذا النوع من التعاملات التجارية لعدم قانونيتها، كونها قائمة على فكرة كسب الزبائن لشراء سلع بأثمان أكبر مما تستحق، ثم تجنيدهم كمسوّقين يسعون من جديد لكسب زبائن جدد مما يدخل عليهم وعلى كل من انضم قبلهم في شبكة النصب بعض الأرباح الصغيرة، التي لا تعد شيئاً أمام ما يجنيه رأس الهرم! هذا النوع من الاحتيال استشرى بشكل كبير بين المعارف والأهل والأصدقاء، وأصرّ مؤيّدوه حينها على أنه تعامل قانوني وفق قانون البيع والشراء واستجلب بعضهم فتاوى دينية تحلّل التعامل به. ولكن عدم مخالفة القانون المدني وعدم معارضة الفتاوى الفقهية لا يعفي مرتكب الخطأ من مسؤوليته أمام القانون الأعلى، قانون ربّ الحساب والجزاء. وعدمُ معاقبة جنايةٍ ما لا يعني أنها ستبقى بدون ردّ من قانون الطبيعة الأخلاقي والقيمي الذي يعتمد على تبادل القيم المتساوية بعدل وإنصاف وعدم استغلال الثقة الممنوحة من الآخرين.

صناعة الوهم وبيع الآمال

لعلنا نتذكّر القصة الشهيرة للخياط المحتال الذي أوهم الامبراطور بأنه سينسج له ثوبًا سحريًا لا مثيل له، وجلس خلف مغزل الخيوط يمسك بأصابعه خيوطًا وهمية مدعيًا أنه لا يراها إلا الأذكياء، ما حدا بحاشية البلاط والوزراء أن يبُدوا إعجابهم بالنسيج كي لا يُوصموا بالغباء. وتصف القصة اليوم الذي ألبس فيه الخياطُ الامبراطور ثوبه الموعود، فخرج في موكب يتمشى وسط الناس التي أصمتها الذهول والخوف، حتى صرخ طفل: الامبراطور عارٍ! فكانت تلك النهاية صرخة الصحوة التي أيقظت الجموع مِن وهْم مكيدة الاحتيال! هذا النوع من الدجل يُمارس اليوم عندما يُقدّم المسوّقون وعودًا وآمالاً ليست في يدهم بل مجرّد عصافير محلّقة في السماء ولم تحطّ حتى على غصن الشجرة!

هذا الوهم للأسف ينطلي على الحالمين والباحثين عن الكسب السريع، فعندما يشتري أحدهم ورقة لعبة الحظ الكاذبة (اليانصيب)، أو يستجيب لإعلانات تنادي (اتّصل بالرَّقم الفلاني لتربح بيت العمر) أو (أرسل كلمة المليونير لتربح الملايين) فإنه وباستجابة لاحتمالية ضعيفة للفوز يتدافع مأسورًا بخيالاته ليشتري ورقة الحظ أو يرسل رسالة نصية لا تكلّف إلا القليل بنظره. هذا التبرّع بأموال قد تبدو بسيطة من الفرد ولكن مجموعها وتراكمها من أعداد المغفلين والمستغفلين يصبّ فوق رأس المُتاجر بأحلام الناس ثرواتٍ طائلة، لا ينفق منها للوفاء بوعده إلا اللمم والفتات!

اليانصيب هو الصورة المطوّرة للميْسر والمقامرة والمراهنة، ومشكلة هذه التعاملات هو الفيروس الذي تزرعه في العقل: فيروس الحظ! فمن يحلم بضربة حظ تغيّر حياته يظلّ في حالة انتظار ولا يعاني كثيرًا للقيام بما تتطلّبه الحياة من مجهود لفتح سبلها وفهمها وإتقان مهارات عيشها بنجاح وانشراح. بل أنّ هذا الفيروس وكلما تم تغذيته بفوز غير متوقّع ينتعش ويكبر ليصبح ما يعرف بإدمان المقامرة[7] والذي يقف الأطباء النفسيّون أمامه في ذهول، ما الذي يجعل مدمن اليانصيب والمقامرة يواصل هدر أمواله رغم كل الخسائر الفادحة؟ بعض مدمني المقامرة يصلون لمرحلة الإفلاس والتفكك الأسري والتشرد والضياع بلا مأوى ولا سكن ولكن الرغبة والهوس بالفوز يظل جامحاً لديهم. الأثر الأخطر يظهر جلياً عندما تشيع الظاهرة ويصبح شعبٌ بأكمله يصارع الفقر ويلاحق وراء الديون بينما يعيش وهم المتعة واللذة والفوز. ‏في عام 2016 قامت مؤسسة بحثية بدراسة هي الأولى من نوعها لقياس أثر المقامرة على مجتمع مدينة فكتوريا الأسترالية [8]والتي تنتشر فيها ممارسة القمار، فكانت النتائج صادمة! وصلت الدراسة إلى خلاصة نصّت عليها خاتمة البحث كالتالي:

“تشير النتائج إلى أنّ المقامرة تمثل عبئًا كبيرًا على حياة المجتمع الفيكتوري وتسبّب الاكتئاب والإفراط في استهلاك الكحول. كما يُعدّ التأثير الكلي لمشاكل القمار أكبر من تأثير إدمان الحشيش وأمراض الفصام والصرع واضطرابات الأكل مجتمعة. إنها المرة الأولى التي يتم فيها تقييم التأثير الكلي لأضرار القمار بطريقة مجدية. وقد وصلنا إلى أنّ القمار مثل الكحول، يولِّد أضرارًا كبيرة للأفراد ويجب التوجيه نحو الحدّ منه، بدلاً من الاقتصار بالمعالجة عند الوصول لحالة الإدمان.”

استثارة الشهوة وتغييب الوعي

يعرف المعلنون والمسوقون أنه يمكن لفت انتباه الناس إذا استُثيرت حواسهم، فالصوت والضوء والألوان والحركة، كلها عناصر يحرص مصمّمو الإعلانات على تواجدها كخصائص للإعلان الجاذب، ولكن المشكلة التي تواجههم أنّ هذه العناصر أيضا تفقد فاعليتها مع الوقت بسبب الاعتياد، لذلك يحتاج مصمم الإعلان أن يدخل لطبقة أعمق من الحواس وهي المشاعر والانفعالات.[9] هذه النتيجة مبنية على عدّة اختبارات في علم الأعصاب والذاكرة والانتباه، ومنها اختبار ستروب الشهير Stroop test [10] الذي أجراه عالم النفس جون ستروب عام 1935 لأول مرة وطلب من المشاركين تسمية ألوان الكلمات دون قراءتها واحتساب الوقت اللازم لذلك (الصورة رقم2) وقد وجد أن معرفة اللون تكون أسهل إذا طابق لون الكلمة اسم اللون المكتوب. وفي النُّسَخ المطورة من هذا الاختبار قام علماء النفس بوضع كلمات لها إيحاء عاطفي مثل (القتل، الموت، الفقر، المرض) فكانت تسمية الألوان أصعب وتستغرق وقتًا أطول بالذات عندما يكون الشخص متأثرًا بنفس موضوعها مثل تسمية لون كلمة (ثعبان) لمن يعاني من فوبيا الثعابين.

الخطاب الإعلاني اليوم مبني على علمٍ وأبحاث، ولم يعُد ساذجًا يجرّب حظه في سوق مليء بالعمالقة. اختيار ألوان الإعلان له دلالاته، فمثلاً يسود اللون الأحمر كلون للتخفيضات وهو لون الطاقة والحرارة والخطورة والحبّ والغضب، فاللون نفسه يلهب حمّى الشراء ولا يوجد ما يحذر المشترين من مغبة الإسراف أو ينبّه لأهمية الاعتدال. كما أنّ الصور التي تختارها الشركات الدعائية اليوم تمتلئ بالعاطفة وإيحاءات الحب والسعادة وضحكات الأطفال وأشعة الشمس والزهور والطبيعة، هذا عدا عن استخدام الأنوثة والرجولة لإثارة الغرائز ووضع مقاييس وتعريفات جديدة للجمال المثالي والوجاهة والرفاهية. وأمام غريزة الجوع والنهم تتفنن بعض المطاعم ومصنعو الأغذية في تحريف الصور الحقيقية لأطباقها ومنتجاتها أو الإفصاح عن مكوناتها إلا بخط صغير لا يكاد يقرأ. كما يستخدم مصممو إعلانات الأطعمة موادًا صناعية كثيرة لتعديل الشكل النهائي للوجبة بما لا تبدو عليه في الواقع (صورة 3). ومن أجل تنافسهم للبقاء في ذاكرة الزبائن واستثارة غرائزهم وعواطفهم يتم اختيار عبارات رنانة تؤثر حتى على السلوك ونمط التفكير مثل (أنت مو أنت وأنت جوعان!) و(يعطيك جوانح!) و(عندما تعشق الشوكولاتة!) و (طعم السعادة!) ويظل صدى هذه الشعارات يتكرّر في ذاكرة العقل الجمعي للناس وذاكرة العقل اللاواعي للفرد لتفعل مفعولاً أكبر من شراء المنتج، وهو تغييب العقل وتسييد الشهوة.

من العجيب أن يُعتبر الاحتيال وبالخصائص المذكورة أعلاه في هذا الزَّمن قانونيًا ولا يُصرّح به بوضوح في التشريعات والنصوص واللوائح القانونية، مع أنَّ هذه الممارسات هي باختصار هجوم دنيء وعنيف على ‏العقل الإنساني، واستغفال وتغييب للوعي الأخلاقي ووقوف إلى جانب التجار أكثر من المستهلكين‏. إننا أحوج ما نكون اليوم لوضع حدود لسيطرة قيم الاستهلاك على ثقافتنا والتحكّم بمصائرنا واستغلال حاجاتنا عبر قوانين تهدف إلى صلاح الإنسان أوّلاً وأخيرًا، كما أننا بأمسّ الحاجة لحملات توعية ولمناهج تربية تزيد من حصانة الفرد أمام عروض الإغواء والإغراء، وتنبّه لاستراتيجيات الاحتيال والنصب وبيع الأوهام والأحلام.

فهل بيدنا القرار والاختيار، أم تركناه بيد المسوّقين والتجار؟!

  1. كتاب الإقناع.. فن الفوز بما تريد- الطبعة الأولى 2016 – ديف لاكاني
  2. . كتاب رؤى تسويقية لإشراك جماهير الفنون المسرحية- الطبعة الثانية 2014 – جون بيرنشتاين

    J. Bernstein (2014) Standing Room Only: Marketing Insights for Engaging Performing Arts Audiences

  3. . المصروفات العالمية لإعلانات الأطفال – موقع الإحصائيات العالمي

    https://www.statista.com/statistics/750865/kids-advertising-spending-worldwide

  4. دعوة إلى حماية الأطفال من الإعلانات – موقع جمعية علم النفس الأمريكية:

    Consumerism-MELISSA DITTMANN-Protecting children from advertising. ‎‎(2019). https://www.apa.org. from https://www.apa.org/monitor/jun04/protecting‎

  5. دراسة حول الارتباطات بين تعرض الأطفال للإعلانات وأنماط استهلاكهم للأغذية:

    Buijzen, M., Schuurman, J., & Bomhof, E. (2008). Associations between children›s television advertising exposure and their food consumption patterns: survey study. doi:10.1016/j.appet.2007.07.006

  6. . قرار رقم (2) لسنة 2015 بشأن حظر الإعلان عن المنتجات عبر التسويق الهرمي أو الشبكي – موقع وزارة التجارة والصناعة والسياحة-مملكة البحرين

    https://www.moic.gov.bh/ar/Announcements/Pages/Announcement4.aspx

  7. . القمار القهري – الأعراض والأسباب

    Mayoclinic.org. Retrieved from https://www.mayoclinic.org/ar/diseases-conditions/compulsive-gambling

  8. دراسة حول الآثار السلبية للمقامرة في مدينة فكتوريا الاسترالية:

    Browne, M., Langham, E., Rawat, V.P., Greer, N., Li, E., Rose, J., Rockloff, M.J., Donaldson, P., Thorne, H.B., Goodwin, B.C., Bryden, G.M., & Best, T. (2016). Assessing gambling-related harm in Victoria: a public health perspective.

  9. . كتاب أسرار الذاكرة الإنسانية وإمكانات العقل البشري- عزيزة محمد السيد
  10. دراسة حول تنشيط الدماغ مع الصور الإعلانية:

    Cook, I. A., Warren, C., Pajot, S. K., Schairer, D., & Leuchter, A. F. (2011). Regional brain activation with advertising images. Journal of Neuroscience, Psychology, and Economics, 4(3), 147–160. https://doi.org/10.1037/a0024809

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *