جلس فضالة على جبل من جبال مكة مذهولاً، ماذا أسمع؟ أهذا أبو سفيان ينادي؟ وبم ينادي؟ قام من مجلسه واتجه نحو الصوت، أرهف سمعه، تناهى إليه الصوت واضحاً: “يا معشر قريش هذا محمّد جاءكم فيما لا قِبلً لكم به، فمن دخل دار ابي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، دنا منه أمسكه من ذراعيه هرّه هزاً عنيفاً وقال: أبو سفيان هذا؟
- نعم يا فُضالة، هذا هو أبو سفيان بلحمه ودمه.
- ماذا تقول؟
- هو ما سمعت لا أملك لكم إلا هذا؟
- وجيش قريش؟
- ذهب بددا؟
- وزعماء قريش؟
- منهم من فرّ ومنهم من أسلم، ومنهم من استجاب لندائي وسمع نصيحتي فدخل بيتي أو أغلق عليه بابه وكفّ عن المواجهة، ومنهم من اعتصم واستجار بالبيت.
- إذاً انهار كلً شيء.
- نعم انهار كلّ شيء، تفرقت الجموع، وأسقط ما في ايدي الناًس.
اسودت الدنيا في ناظريّ فُضالة، تساءل أهكذا سقط كبرياء قريش وتمرغ أنفها في الرغام؟ أهكذا انهارات منعتها؟ أين تعززها يوم أقسمت أن لا يدخلنّ محمّد عليها مكة عنوة؟ لقد ذهب قسمها أدراج الرياح وهكذا زعيمها أبو سفيان يدعوها للاستسلام، وما يملك خياراً غيره، مرّ شريط الذكريات سريعاً. وجد فيه أنساً وسلوة تنسيه مايرى ويسمع طافت صور الزعماء الذن وقفوا سداً منيعاً دون دعوة محمّد بمخيلته، استرجع كلامهم، وما لبث أن أفاق من غفوته، تجهم وجهه لقد قتلوا، وأتهم حينهم من حيث لم يحتسبوا.
أخذ يهتف في حالة هستيرية أين أنت يا أبا الحكم أين أنت يا أمية بن خلف، أين أنت يا عتبة، يا شيبة يا ابن أبي معيط هذه جيوش محمّد قد ملأت السهل والجبل. وأحاطت بمكة إحاطة السوار بالمعصم. لم يسمع إلا صدى صوته يتردد بين الشعاب، تذكر أنّهم دفنوا في قليب بدر بعيداً عن الأهل والأوطان، فترقرقت الدموع في عينيه، سالت على وجنتيه، انتبه: أتبكي يا فضالة كما تبكي الأمة السليبة؟ هكذا خاطب نفسه ، هل تحقق الدموع هدفاً أو تبني عزاً أو ترجع مجداً عجزت السيوف عن المحافظة عليه؟ كفكف دموعه بعجل ، استحى من نفسه ، يا للعار إن رآني أحداً ، تلفت يميناً وشمالاً مذعوراً، لم يجد أحداً ، سكن قلبُه شعر بأنس يتدفق على قلبه لّما علم أن سرًّه لم تسترقه عين ولا أذن ، عاهد نفسه أن يبقى رجلاً جلداً لئلا يشمت به شامت وتمسي دموعه أحدوثة النَاس في المجالس ، حاول أن يستنهض نفسه ويشحذ همته حتًّى لا يرتد إليه ضعفه من جديد نادى عقله الباطن: أين شجاعتك يا فَضالة؟ أين مواقفك البطوليَة؟ أين غدواتك وروحاتك ، إذا كنت تتأسى بالمضين فقد أدوا ما عليهم وعليك أن تؤدي ما عليك ، قف في وجه محمّد، ماذا؟ قف في وجه محمّد، انتبه مذعوراً، أؤدي ما عليَ؟ أقاتل محمّداً؟ لا ، لا ليس هناك عاقل يقول بهذا . أو بفكر فيه ، ولو كان لقريش أمل في النصر لكان يوم كانت قويةَ ومحمَد ضعيفاً ، أما وقد انقلب الزمان وتغير الميزان فانتصار قريش مستحيل، ومواجهة محمّد انتحار، نعم انتحار. أطرق برأسه إلى الأرض وتساءل إلى متى سأبقى منكفئاً هنا ، صاح مستنكراً: إنه الجبن بعينه يا فُضالة أن تبقى بعيداً ومحمّد يبسط جناحيه ويمدّ سلطانه على مكة بيتا بيتاً ، ، لم لا تذهب لترى مايحدث؟ محمّد يصول ويجول في مكة وأنت قابع هنا تمسح دموعك، قمّ وانظر ماذا يجري، وإذا كنت حانقاً على عجز أبي سفيان وعازفاً عن الذهاب لداره لتأمن ، فلم لا تذهب إلى الحرم ، أليس الحرم آمناً بضمان محمّد؟ قال من فوره ، اتخذ طريقه نحو الحرم، لاحت له طلائع جيش محمّد، دنا أكثر سمع النّاس يتحدثون عن عكرمة بن أبي الحكم وصفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو وحِماس بن قيس أعدوا العدة لمنازلة محمّد بالخندَمَةِ ، ولكنَّهم فروا يسابقون الريح مع أول مواجهة. واصل طريقه التقى برجلين استقصاهما الخبر؟
- لقد فرَّ صفوان وفرّ عكرمة على جناحي نعامة عندما واجهوا خالد بن الوليد.
- وما خبر حِماس، لقد سمعت أنّه جمع السلاح، وأعدّ العدة؟
ضحكا حتى بدت نواجذهما وقالا: خبر حِماس مضحك مبكي.
- بالله عليكما خبراني.
- كان حماس يمني زوجته أن يخدمها أحد أسرى المسلمين ، فلمّا فرّ صفوان وفرّ عِكرمة وأصيب من جمعهم اثني عشر رجلاً، قال: “انُج سعد، فقد هلك سُعيد” , واسرع إلى بيته وطلب من زوجته أن تحكم غلق الباب فذكرته بوعده، فقال:
إنك لو شهِدتِ يَومَ الخندَمه
إذ فَرّ صَفوانُ وفَرّ عِكرِمَه
واستقبَلَتنَا بِالسيُوفِ المسلِم
يَقطَعنَ كُلّ سَاعِدٍ وجُمجُمَه
ضَرباً فلا نَسمعُ إلا غَمغَمَه
لَهُم نَهِيت حَولَنَا وهَمهَمه
لم تنطِقِي في اللّومِ أدنَى كَلِمَه
- لقد ذهب عزّ قريش إذن.
- نعم ، ما لقريش عز بعد اليوم
استولى الخبر على عقله وقلبه، شغله آلمه أمضّه ولكنّه لم يثنه عن مواصلة المسير، دخل البيت الحرام، وجد الأصنام تجذ وتكسَّر لتجمع وترمى خارج الحرم ، والهتاف يعلو “جاءّ الحقٌّ وَزَهَق الباطلُ إن البَاطِلَ كان زَهُوقا”، شعر بقشعريرة وهزّة عنيفة وقال: أيصنع هكذا بالآلهة؟ لم يبق لك عزَّ يا قريش إلا وقد أريق.
رمى فضالة ببصره بعيداً نحو البيت ، ماذا أرى؟ محمّد؟!! محمّد يطوف بالبيت؟ نعم إنّه محمّد بعينه، هذه فرصتك يا فضالة قد سنحت، الفرص تمر مرّ السحاب، ماذا تنتطر خنجرك تحت أثوابك، ومحمّد بين يديك أعزلاً من السلاح، إنّها فرصتك يا فضالة لتثأر لقريش، انتقم لها من هذا الرجل الذي سفه دين الآباء والأجداد واجتث الأصنام وقتل الأشاوس والشجعان، هيا اغرس خنجرك في قلبه. توقف قليلاً ليستردّ أنفاسه ويختبر رباطة جأشه ، أأقتل محمّداً، إنه خطب جلل ولكن الفرصة أغرته، وما رأى نفسه إلا وهويدنو من محمّد خطوة خطوةً، حتى كان قاب قوسين منه أو أدنى، تفاجأ بمحمّد يلتفت إليه قائلاً أفضالة؟ ارتبك واضطرب وقال: نعم فُضالة يا رسول الله.
- ماذا كنت تحدث به نفسك؟
- لا شيء، لا شيء، كنت أذكر الله!
ضحك محمّد وقال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدر فضالة، شعرفضالة بالسكينة تسري في قلبه . خجل فضالة لأنَّه كذب على محمّد، وتيقن أنَّ محمّداً عرف نيته وسبر غوره وعرف كذبه، وإلا لِم سألني؟ وضحك من جوابي ، ووضع يده على صدري، أيريد ان يتحسس موضع خنجري؟ كيف خبر نيتي وعلم بما جال في خاطري وضميري؟ لا شكَّ أن الرجل ممنوع وأنَّه رسول الله حقاً. لمّ سميته رسول الله؟ ألأحمي نفسي أم أني دخلت في الإسلام دون أن أشعر؟
شعر فضالة بشعور غريب ، شعر ببرد السكينة والطمأنينة والأمن، تحسس مشاعره من جديد، رباه لقد ذهب القلق عني، لقد تغيرت، والله لقد تغيرت ، والله أني لأحب محمّداً الآن وما كنت أحبه من قبل، إنّه الآن أحبَّ إليَّ من النّاس أجمعين، لقد فارقتني تلك الخواطر الشيطانية ، لقد ولدت من جديد، نعم لقد ولدت من جديد، لم يتمالك نفسه أن هتف بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
لملم فضالة أثوابه وأسرع ليخرج من الحرم، تفاجأ بصوت امرأة تناديه: فَضالة فضالة.
التفت إليها عرفها فقالت: هلمَّ إلى الحديث يا فضالة، تصبب جبينه عرقاً، وتوجه لنفسه بالخطاب: إنَّها فتنتك يافضالة، أطرق براسه إلى الأرض وقال:
قالت هلُم إلى الحديثِ فقُلتُ لا
يأبَى عَلَيَك الله والإِسلاَمُ
لَو قَد رأَيتِ محمّداً وقَبِيلهُ
بالفَتحِ يَومَ تُكَسرُ الأصنَامُ
لرَأيِت دِيِنَ الله أضحَى بينا
وَالشركُ يَغَشَى وَجهَهُ الإِظلاَمُ
ثمّ قال: لقد ولدت يا هذه من جديد، وها أنا ذا اليوم خَلقٌ جديد بخُلقُ جديد، ودين جديد فتعالي إلى الإسلام لتولدين من جديد، وتكونين خلقا آخر؟
استجابات