حبس رجل عصفوراً، وفي غفلة منه هرب ولكنه تفاجأ به بعد ثلاثة أيام واقفاً فوق القفص فتح الباب وأدخله، أراد أن يعاقبه حتّى لا يتجرأ على الهرب مرة أخرى، فقطف ريش جناحيه، فبكى العصفور بكاءً مراً، وأراد أن يكتب لأسره كتاباً يعرفه عظيم جنايته، فامتشق ريشة من ريشه المقطوع واتخذه يراعاً وغمسه في دموع عينيه وأنشأ هذا الكتاب:
إلى أسري وبعد…
بعد تجربتي معك استبدلت اسمك بغليظ، ما الذي حملك على إعادتي إلى الأسر ثانية، الأني جئتك طاوياً ثلاثاً فكان جزائي أن تعمد إلى أغلى ما عندي جناحي اللذين بهما أطير وأتجمل فتقطفهما؟ ماذا تقول لمن قطع يديك؟ أتحبه وتشكره وتسبح بحمده؟ أما كفاك الجوع والعطش والأسر عقاباً حتى ضممت إليهما عقاب الروح والبدن؟ أم أردت أن تجعلني عبرة لكل عصفور يتجرأ على قهر القيد؟ لم لم تطعمني قبل أن تعيدني إلى الأسر من جديد، الأنك لا تريد أن تطعم من قهر إرادتك وخرج عن تحكمك.
سبحان الله تشعر بالزهو أن عدت إليك!! فوالله ما عدت إليك مختاراً بل قهرا.. فأنا لم يربني في قضاء الحرية أبوان يعلماني أين أجد طعامي وشرابي، وأين آوي في ليلي ونهاري، لذا تعسر علي الطعام والشراب. والمأوى.. فما أصنع غير الرجوع إلى حيث كنت لأسد رمقي، وأبل حشاشة فؤادي وما ظننتك بهذه القسوة، تمنع طعاماً وماء عن مسكين جاءك ملتمساً قراك فما قريته. أتصبر عن الماء والطعام أياماً؟ فإذا كنت لا تقوى فأني بطائر ضعيف لا يعرف أحداً في هذا الوجود أن يقوى على ذلك؟ عدت إليك لأن جناحي لم يقويا على السباحة بي في القضاء بعيداً عن قفصك، وقلبي لم يطق بعد المغامرة في المجهول. كنت تبرر أسرك لنا ومصادرتك لحريتنا، بأنك تطعمنا وتسقينا وتؤوينا، وتتباهى بين أقرانك بفرسك شجرة تذكرنا بأشجار الأرض، لنحل عليها ونطير فما أكرمك إذ اختزلت الوجود كله في شجرة وقفص.
دعني أذكرك لأنسيك منتك علينا بالماء والطعام ألم تنس يوماً إخواناً لي بدون طعام وشراب فماتوا؟ فمن يضمن أن يضربك النسيان يوماً فتنسانا كما نسيتهم؟ وأين قفصك من أرض الله الواسعة؟ وأين شجرتك من ملايين الأشجار المختلفة الألوان والأشكال؟ وأين طعامك وماؤك النكد من ثمار الأشجار وحبوب الثمار ورحيق الأزهار. أين الطعام الذي يأكله الطير بكده وسعيه من طعام الأسر والعبودية؟ هل في قفصك ترى شروق الشمس الجميل وغروبها البديع هل في قفصك تحس يبرد الندي ونسيم الصبا، هل نجد في قفصك أوراقاً تظللنا من الشمس وتحمينا من المطر هل في قفصك نشم روائح الأشجار والأزهار والثمار؟
أيا أسري..
أين مدى طيراني في قفصك.. بضعة أقدام!! إذا طرت انتهى الدرب وإذا ارتفعت ضربني السقف.. أين قفصك من الدنيا الفسيحة كلما طرت وجدت المزيد في الفضاء وكلما أوغلت وجدت الطويل من الطرقات وهل خلق الطير للأسر…؟ لماذا تمتع ناظريك بأسري، وتشبع نشوتك بقهري؟ لقد خلقني الله لأن أكون حراً، أطير حيث أشاء وأكل ما أشاء، وأغدوا وأعود كما أشاء.. لما لا تتمتع بجمالي وبلحن صوتي وأنا طليق في الفضاء.
لا أدري أأنت المسكين أم نحن المساكين؟!! تطرب إذا سمعت الطيور تبكي، تحسب بكاءها تغريداً.. غافل أنت، بل جاهل أو هل يغرد المأسور المقهور.
كم كنت أغبط العصافير التي تحل على قفصنا، إذ أراها حرة طليقة فقلت لأحدها يوماً، لماذا يأسرني الإنسان ولا يأسرك؟ فقال: لأن لونك جميل وصوتك جميل وكعادته يريد أن يحوز كل شيء جميل، فحازك وجعلك من أملاكه ولما كان جاهلاً بلغتك تساوى عنده التغريد والبكاء، أما أنا فلوني لا يغريه وصوتي لا يطربه، وقد علم من أمري أني لا أرضى الأسر أبداً، ومتى ما وقعت فيه فضلت الانتحار فزهد في فلم يفكر في أسري، ولكي أبقى مستغنياً، عنه عائفا لدنياه آليت على نفسي أن أكل كل شيء لئلا يضربني الجوع بسوطه فيضطرني لأن القي بنفسي بين قدميه، أما أنت فلا تأكل إلا طعاماً خاصاً، فإن لم تجده مت جوماً فسهل عليه أسرك وراك تقبل الأسر وترتضيه فأسرك، فإذا أرت أن تكون حراً كل ما تجد واشرب ما تجد وقاوم أسرك ما استطعت وإذا تحررت من أسر بطنك ومن ذل نفسك فلن ترضى عن الحرية بدلاء.
الحرية ثمن نفيس يستحق العصفور أن يتحمل من أجله الجوع والظماء أنت لم تذق طعم الحرية يوماً. لو ذقت طعم الحرية لوجدت الطعام أشهى والشراب أعذب لأنه من كدك وتعبك تناله بغير منّ وسترى الهواء منعشاً متجدداً، ستبصر البحر والنهر والشجر والثمر. ستأكل المتنوع اللذيذ، فطعم ثمرة تجنيها من إحدى الأشجار أحلى من حبوب الأسر، ورشفة ماء تشربها من نهر أو مطر أو طل أعذب من مياه القهر. ثم اعلم أيها العصفور أن لهذا ثمناً، وثمنه الصبر إذا ما قل الطعام والشراب، وإذا أردت أن تكون حراً فعد منقارك ومخالبك للدفاع عن نفسك إذا ما اعتدى عليك معتدٍ. ولسانك الطيب الكلام، وقلبك للحب الشريف لتحبك وتألفك الطيور، ثم ودعني وطار.
وعيت كلامه، فأحببت الحرية وعشقتها. ولكني لم أتعود بعد على الصبر فعدت مضطراً مهزوماً بعد أن عضني الجوع والظمأ، ولكني سأحاول الفرار مرة أخرى. ولن أكف حتى أنال حريتي، وما سكوتي في قفصك إلا لأقيم تجربتي كي لا ترى إلا غباري في المرة الأخرى.
استجابات