عاد بجنوده من حملة بعيدة جهة الشام وقد امتلأت أحماله بالأموال المنهوبة، يسوق أمامه قطعانا من المواشي وما سباه من رجال ونساء وولدان وقد شدت أيديهم إلى الأعناق، مشدودين بحبل جامع، ورغم كثرة الغنائم إلا أن القلق لم يفارقه قط. لأنه يعلم أن سيده فرعون لا يملأ عينيه شيء، ولا يعطي للنسب القبلي الذي يشدهما ببني صعب أي اهتمام[1]، المال والسبي هو ما يفكر فيه سيده لا النسب، لا زالت كلمات تهديده ترن في أذنيه ؛ أريدك يا قارون أن تكثر من سبي الرجال والنساء والولدان ونهب كل ما تصل إليه يداك وإلا… هو يعرف شهواته التي لا توصف، ويعرف أن توفير المتعة الجنسية شرط لإشباع نزواته ونماء تجارته وتشجيع القوافل التجارية على المرور بمحلته بأرض جازان.
سمع في الطريق أخبارًا مقلقة لم تصدقها أذناه لهولها وغرابتها، فما سمع أقرب إلى الخيال، ولكنه كلما اقترب من “المحلة ” سمع ما يؤكد ما بلغ الديار لم يجد فيها دياراً، فلا زراعة ولا سقاية ولا تجارة ولا صناعة ولا رعي ولا صيد ولا تجفيف للأسماك واللحوم والحليب ولا جني ولا عصر للفواكه والثمار ولا عبيد ولا جنود ولا خدم ولا حشم كل شيء قد توقف.
علم حينئذ أن موسى استغل ضعف فرعون وهامان لما غاب هو بالجنود فخرج بيني إسرائيل، وما كان لفرعون أن يدعهم يفرون من قبضته وسطوته؛ لأن فرارهم يعني کساد تجارته وبوار بساتينه ، ورياضه، وعلم أيضًا أن موسى استدرجهم إلى مجمع البحرين”[2] فعبر مسرعًا فنجا وانطبق اليم على فرعون وجنوده فغرقوا أجمعين، وبعد أن فرغ من ترتيب المشهد في ذهنه التفت لمن حوله متسائلاً:
أيعقل أن يحدث كل هذا؟ أيعقل أن يهلك فرعون وهامان وجنودهما جميعا في اليم؟ يعبر موسى اليم آمنا بمن معه ثم ينطبق اليم على فرعون وجنوده؟
هذا ما حدث يا سيدي ولولا أننا تأخرنا عن اللحاق بهم لهلكنا كما هلكوا، ما حدث أقرب إلى الخيال ولكنه حدث. وهذه الديار كما ترى بلاقع.
تفاجأ يوما بموسى يطوقه ببني إسرائيل فأسقط في يد من معه من الجنود، فألقوا سلاحهم مرعوبين فقد اجتمعت عليهم مصيبتان هلاك فرعون وهامان وكمين موسى الذي داهمهم ، لم يقو قارون على المقاومة فأخذ أسيرا إلى موسى.
أراد موسى أن يعطيه فرصة للنجاة. ويستفيد من خبرته وأمواله، فلعل انسداد الأفق أمامه يهديه ويدفعه للإقلاع عن غيه وطغيانه فقال له لقد أهلك الله فرعون وهامان وجنودهما فما أنت صانع؟
- لا أدري
- أتتبعني؟
- بشرط
- وما هو؟
- “أن المال الذي بحوزتي لي أحمله معي أينما ذهبت”
- هو لك ولك عندي المزيد ولكن بشرط
- وما هو؟
- “أن تحسن التصرف في الأموال وتنفقها في الخير لا في الفساد”
- لك ذلك.
“أصبح قارون من معه جزءا من المجموع”. ولما اطمان به المقام، وأمن من الانتقام، حنث بيمينه، واخذ يخطط ويترقب الفرص للقضاء على موسى ليملك الكل ويكون له الأمر والنهي، فلا يطيق أن يكون فوق رأسه امیر ، ورأى أن السبيل لنيل مناه بيدا بإسقاط قدسية موسى في عيون اتباعه، فإذا اغتال سمعته وشرفه وعزته وكرامته تفرق عنه أتباعه، وحينئذ يخلو له الجو، وكيف لا والأموال بين يديه .
دعا امراة كانت مشهورة بالخنا وقبح اللسان، وقال لها:
- أريد أن أغنيك
- هذا جيد
- ولكن بثمن
- هذا جسدي لك
- لا اريد جسدك؟
- إذن ماذا تريد؟
- أريد لسانك
- تريد لساني قالتها بضحكة وتغنج
- نعم أريد لسانك
- وماذا تريد من لساني
- ترمین به موسى وتشيعين أنه يأتيك كسائر الناس.
- هذا سهل
- اتفقنا
أشاعت البغية في الناس أن موسى يطرق بابها إذا جن الليل، وما لبث الأفك ان تلقفته الألسن فشاع وذاع، وبلغ صيت الإشاعة أذن موسى فعلم أن أمرا ما قد بيت بليل، فنصب خيمة الاجتماع ودعا الناس إليها، فظن قارون أن ساعة الانتقام من موسى قد أزفت فأتى في أحلى هيئة بملابس فاخرة. ولما تم الجمع ابتدأ قارون بالكلام.
- يا موسى، ما قولك في من سرق؟
- تقطع يده.
- فإن كنت أنت؟
- قال نعم أنا كذلك!
- فما حد من زنا؟
- يرجم
- وان كنت أنت؟
- نعم أنا كذلك!!
- فما بال المرأة تشتكي وتقول بأنك فعلت كذا وكذا معها؟
- نادى موسى المرأة فمثلت أمامه، وسألها في محضر الجميع”
- ما تقولين فيما ادعى قارون؟
- قارون هو الذي حملني على ما قلت
“خاب كيد قارون وعاد إلى مخيمه يجر أذيال الخيبة” ودخل موسى الخيمة حزينا كئيبا باكيا وأخذ ينتحب ويناجي الله، وإذا بضوضاء وهرج ومرج قد عم المكان، فرمى ببصره نحو مخيم قارون فإذا بالأرض قد خسفت بما عليها!!”
٣- مجمع البحرين ملتقى ماني بين بحرين بإحدى المعاصر بجازان .
٤-( إن قارون كان من قوم موسى فبغي عليهم وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحة لتنوء بالعصبة أولي القوة إذْ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) (القصص ٧٦) (من اقوم موسى) أي من اتباع موسى لا أنه من بني عمران كما ذهب البعض.
ه – (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَمَا مِثْلِ مَا أُوتِي قَارُونَ إنه لذو حظ عظيم) (القصص (۷۹)
٦ – (فخسفنا به ويداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفتح الكافرون) (القصص (۸۱.٨٢)
- فرعون وقارون من قبيلة بني صعب في جازان بمنطقة أزد السراة بالجزيرة العربية ، وفرعون هو “قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح ” وآل صعب من العماليق، سيطروا على جازان وامتد سلطانهم على امتداد جبال السراة ” وحاليا تسمى جازان جیزان. ↑
- المحلة تقع في وادي بيش بمنطقة جيزان في أرض السراة وهي دار مملكة فرعون. ↑
استجابات