أوى إلى فراشه بعد أن عدّ ما دخل خزائنه من أموال، ووزّع ما غنمه قارون في غارته من عبيد وإماء، فما كاد النوم يلامس أجفانه حتّى هب فزعًا مذعورًا وهو يصيح:
– ما هذا الحلم المزعج الذي أفسدّ علي نومي؟
لم تغفُ عيناه تلك الليلة، استعجل شمس الصباح، ولما أشرقت طلب حضور ملئه، فلما استقاموا بين يديه قال:
– أتدرون لم جمعتكم؟
– لا يا سيدنا.
-« أقضّ مضجعي البارحة حلم»، لقد سلب من عيني النوم فبت أرقًا قلقًا.
قص فرعون١ ما رأى، ثمّ قال:
– ما تأويل ما رأيت؟
أطرقوا مليًا، ثمّ قطع أحدهم السكون:
– أيأذن لي سيدي أن أفتيه في رؤياه؟
– ما أحضرتكم إلا لهذا؟
«الرؤيا تحذر من زوال ملك قريب، وأنّه سيكون على يد مولود من أهل بلدتك ».
قال هذا الكلام وهو ينظر إلى وجه فرعون فلمّا رآه قد تغير تحسس رقبته وخطر له خاطر أنّه استقبل الملك بما يكره، وأنّ عليه أن يتدارك أمره قبل أن يطير رأسه، أو يصبح نزيل سجن لا يخرج منه أبدًا فقال متداركًا:
– يؤسفني سيدي أن استقبلتك بما تكره، ولكنّي أردت أن أصدقك، وما هذا الرؤيا التي رأيتها إلا لتأخذ حذرك، وتبادر بتدبيرك؛ ليدوم ملكك وسلطانك.
لقد نغص هذا التأويل على فرعون حياته، مثلت أمام ناظريه جرائمه، وسطوته على القبائل القاصية والدانية، وسياطه التي تلهب أظهر من يتوانى أو يتمرد من العبيد، وأدرك أنّ لصبر هؤلاء حدوداً.
لم يعد يرى بعد هذه الرؤيا أمنًا ولا أمانًا في مجدله٢ المَشِيد، المحاط بالأسوار والحرّاس الشداد، صار يشكّ في كل شيء، زاد خوفه من الاغتيال، لا شكّ عنده أنّ من سيغتاله هو هذا المولود الموعود الذي سيدخل عليه إذا كبر من ثغرة أو غفلة، فما العمل إذن؟ الرؤيا حذرته فما هو فاعل ليمنع القدر المحتوم؟
قلّب خياراته، هل يزيد من الحرس والجند؟ لا؛ العدد كافٍ والحراسة لا تمنع منتهز فرصة. هل يزيد في علو الأسوار؟ لا؛ رفْعها لا يثني عزم من خطط وصمم للوصول إليّ . إذن ما العمل؟ تساءل وهو يمسح لحيته وشاربه بكفه، استلقى على أريكته، رفع رجليه على منضدة أمامه، وغاص في الأفكار، شرّق وغرّب وأخيرًا لمعت في مخيلته فكرة، انتفض من مكانه كأنّه عثر على كنز ثمين، اقترب من نافذة من نوافذ قصره مادًا ناظره إلى الخارج وقال:
– لا بدّ من منع القدر من تسديد رميته، لا بدّ من تجفيف المنابع، بأن أقتل كل مولود ذكر يولد في بلدتنا، «فلعل أحد هؤلاء من يكون زوال ملكي على يديه». لا حاجة لنا في الذكور فعندنا منهم ما يكفي، وفي النساء خير كثير، فإذا احتجت لعبيد ذكور أمرت بشن الغارات لأسر المزي.
ومع إسفار الصباح طلب اجتماعًا فوريًا بجلاوزته وقال:
- «تتبعوا الحمل من نساء العبيد، واقتلوا كل مولود «ذكر»3.
انتشرت العيون بين الأكواخ تستطلع خبر النساء، فمن وجدته منهن حاملاً دونوا اسمها وشهر ولادتها، فإذا ولدت كان أحد الزبانية على رأسها ينظر أذكراً كان المولود أم أنثى، فإن كان ذكرًا سقاه كأس المنون.
وشاء الله أن تلد في هذه الظروف القاسية بمحيط إحدى معاصر بني صعب4 امرأة من بني إسرائيل، كانت خائفة متحيرة تتساءل عمّا تصنع لو علم العسسُ بها، لقد أخفت حملها عن خاصتها، ولكن هل الولادة تستتر؟ وأنّى لها أن تمنع عينًا من أن تراه، أو أذنًا أن تسمع بكاءه، والعيون تحوم حول الأكواخ تتلقط الأخبار، وتسترق الخواطر؟!
توجهت لربها باكية مستغيثة: يا ربّي أنت دليلي في حيرتي، اللهم نجِ ولدي من كيد فرعون وملئه، أنت الذي حفظته في بطني فاحمه من كيد العدى. كانت تتخيل بريق السيف وصليله وهو يهوي على أوداج ولدها فتفزع، لمعت في ذهنها فكرةُ إلهام، جمعت عقلها تستنضجها، حدثت نفسها بها: ما دمت عاجزة عن حفظه، فلِم لا سلمه إلى ربه، فمن خلقه وحفظه في بطني قادر على نجاته.
استحسنت الفكرة، فقامت من فورها وجمعت أعودًا من شجر البوص، شدّتها إلى بعضها، ربطتها ربطًا محكمًا، صنعت منها مهدًا صغيرًا، بطّنته بما يمنع دخول الماء، فرشته بقطع قماش، وقبل أن تسلم ولدها لقدره أرضعته حتى ارتوى، أشبعته لثمًا وتقبيلًا، غسلته وجهه بدموعها، لم يفارق الأمل قلبها بأن ولدها سينجو، وسيكون له شأن، وضعته في مهده الجديد حملته إلى اليم وسلمت أمرها لباريه وقالت وهي تودعه: هو في أمانك يا ربّ، كما حفظته جنينًا احفظه حيًا.
عادت إلى كوخها مكسورة حزينة تذرف دموعها، وتخفي أنتها، وضعت رأسها بين ركبتيها تبكي وتدعو، رجعت إلى قلبها تستفتيه من جديد عن جدوى ما صنعت فأفتاها نداء خفيٌّ بأنّ الله سينجيه وسيجعله من المرسلين5، تذكرت غزال عنها القلق، ولكنه ما لبث أن عاودها من جديد، هي تريد الآن أن تعرف إلى أين ستجرف المياه هذا المهد فطلبت من ابنتها أن تقتص أثره 6.
تتبعت البنت الأثر ثم جاءت أمها بالخبر اليقين:
– لقد ألقاه اليم بساحل قصر فرعون، وحمله الخدم إلى الداخل.
طار لبّ الأمّ، شهقت شهقة، لقد ذهب إلى حيث كنت أخاف وأحذر،
كادت أن تذهب إلى القصر متضرعة مسترحمة ليعيدوه إليها،
ولكنّ الله ربط على قلبها وذكّرها بأنّه سينجو وسيكون من المرسلين 7.
لاح لخدم القصر من بعيد صندوق صغير تتقاذفه المياه، انتظروا حتّى دفعه اليم نحوهم، فلمّا اقترب وجدوا فيه غلامًا فنزلوا إلى اليم فانتشلوه وحملوه إلى فرعون وقالوا:
– سيدنا انظر ماذا وجدنا.
وضعوا الطفل بين يدي فرعون، نظر إليه متعجبًا!
– أين وجدتموه؟
في اليم، وقد قذفه التيار إلى الساحل 8.
قطب بحاجبيه وتيقن أنّ هذا ابن عبد من عبيده، وأنّ الفزع والخوف دفعا أهله إلى إرساله في اليم بغية التخلص منه، وهمّ بقتله؛ لأنّه هكذا قرّر من قبل، أن يقتل كلّ مولود ذكر من عبيده، لكنّه اصطدم بتمنع زوجته آسية بنت مزاحم :
- أرجوك يا سيدي أبقه ليكون قرة عين لنا، لنتخذه ولدًا عسى أن ينفعنا إذا كبر 9.
طأطأ فرعون رأسه مفكرًا، أخذ يحدث نفسه إذا كان خوفي من انتقام القبائل والعبيد حداني لأن أمتنع عن الإنجاب، فهذا ليس ولدي، فما الضرر من إبقائه.
والتفت إلى آسية وقال:
- وهبته لك، فماذا تريدين أن نسميه:
موسى ١٠.
بحث القصر عن مرضعة ترضعه، ولكنّ الرضيع لم يقبل أن يرضع من أحد، بلغ الخبر أمّه فأرسلت ابنتها لتعرض عليهم إرضاعه وكفالته:
«هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ؟
قبلوا العرض، فجاءت أمه فرضع منها 11 ، فصارت تزوره وتربيه ولكنّها لم تكشف سرّها له، ولم تعرّفه من يكون.
——————————————
- فرعون موسى (ع) هو: “قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ” ملك مملكة جازان بأرض السراة في جزيرة العرب.
- المجدل: القصر الكبير الذي له أسوار وعليه حراسة مشددة.
- (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (القصص: ٤)
- ميناء بحري، بنو صعب القبيلة التي ينحدر منها فرعون وهامان وقارون والتي تحكم مملكة جازان في أرض السراة بالجزيرة العربيّة.
- (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:٧)
- ( وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (القصص:11)
- (وأصبح فؤاد أمْ مُوسى فارغا إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من الْمُؤْمِنين) (القصص: ۱۰)
- (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) (طه:۳۹)
- (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (القصص: 9)
- موسى تعني المنتشل من الماء “وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ».” . سفر الخروج ١٠:٢
- (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص: 12-13)
استجابات