شكّلت دولة الإسلام التي وُلدت على يد مؤسسها الرسول الأعظم (ص) ركناً أساسياً من أركان البناء الاسلامي وأنموذجاً لحضارة إنسانية مستقبلية، واستطاعت أن تبني دولة حضارية بمفهومها الدقيق من حيث التعامل مع الإنسان والمحافظة على حقوقه المادية والاهتمام بحاجاته المعنوية.
هذه الدولة المدنية رغم قصر عمرها أحدثت نقلة نوعية في مفهوم الدولة آنذاك، فكان الرسول (ص) على رأس حكومة تحكم بعين على الدينا فهي دولة مدنية، وعين على الآخرة فهي دولة دينية بالمعنى الواسع للدين حيث تنتعش القيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية السامية.. فكانت دولة سلام واسعةٍ ورحبةٍ بسعة ورحابة صدر مؤسسها صلوات الله وسلامه عليه، كُبـّلت فيها أبواب المصالح الشخصية، وضُيـّق على المنافع الذاتية بوضع القوانين المنظمــّة للحياة المدنية لجميع المواطنين بحيث لا يعلو أحدٌ على القانون، وحيث نزاهة القضاء واستقلاليته، وشُرّعت أبواب المثل العليا والأخلاق والقيم كالعدالة والمساواة لجميع فئات المجتمع بغضّ النظر عن الدين والعرق، فنمى الإبداع وانتشر العلم وازدهرت التجارة، واتسعت دولته (ص) للجميع وأصبح فيها موطئ قدم للآخر المسالم والمختلف فكرياً وعقائدياً ودينياً، وكانت مأوى وملجأ للمظلوم والضعيف، وشعر الكلّ بالأمان في كنفها ثقة بحرمة قوانينها وعدالة حكمها، حتى أنّ مفكرين ممّن تناولوا دولة النبي (ص) بالدرس والتحليل، صـنـّفوها ذات منهج إداري مضبوط وواضح المعالم، هدفت لبناء أمـّة مترابطة، يتوفـّر لأفرادها العدل وحرية الرأي والنقد والتناصح، ويقع على إدارتها واجب تحقيق مصالح مواطنيها، وحراسة قيم المجتمع الفاضل المتكافل، بهذه الإجراءات أخذت دولة الرسول ترسي قواعها وتنمو وتتسع يوماً بعد يوم، لا بالطرق النظرية التجريدية المنفصلة عن الحياة بل بأسلوب يرتبط ارتباطا عضويا حيويا بالواقع الحركي والتجربة الحية المعاشة، وبالإنسان الذي آمن بها وسعى في بنائها، وقد تمثّل حينها في شخص رسول الله (ص) ومن آمن برسالته أسوة به (ص)، وإيماناً منّا بأن الإنسان هو محور البناء ومرتكز الوجود الحضاري، فلابد للأمة إذاً من العمل على بناء وصناعة الإنسان الحرّ، المفكـّر، الواعي، والقادر على فهم خصائص الدولة المدنية ومكوّناتها، وسبل تفعيل أدواتها المناسبة لزمانها، لينهض بمسؤوليّته تجاه الأمة.
لكتـّاب هذا العدد من مجلة التجديد مساهمة في بناء فكر الإنسان الحرّ والفاعل في دولة عصرية مدنية تمتزج فيها آليات الحكم الرشيد الحديثة بالقيم الإنسانية الأصيلة، وذلك من خلال الكشف عن أصول مفاهيم ومصطلحات الدولة المدنية، فموضوع “دولة الأديان.. دولة الإسلام” يكشف أن الإسلام الحق أرادها دولة الإنسان أي دولة الأديان، لا دولة دين واحد أو عقيدة واحدة، وموضوع “الدين والسياسة ومباضع الفصل بين التوأمين” يبيّن أن أُسّ وجود السياسة هو لحفظ الحقوق، وفي الفرق “بين المبادئ والمصالح السياسية” يتحدث الكاتب عن أمهات القيم الدينية الفاعلة في ميدان السياسة، ولم يُغفل الجدل القائم بين الحرّية والأمن فكانت هناك وقفة لإيجاد توافق بين خوف الشعوب على الحرية وخوف الأنظمة منها في موضوع “جدل الحرية والأمن”.
كما أُجيب على تساؤل عن “حق اللجوء السياسي” وهل شـرّعت الأديان لهذا الحقّ، أم هو مفهوم عصري حديث؟ ولم يُستبعد دور المرأة في الدولة بل وضعها موضوع “المرأة والسياسة” في دائرة التأثير، ثم بيّن موضوع “الحرية الشخصية المتاحة” حقيقة الضغوط التي يتعرض لها الناس في أحوالهم وحياتهم الشخصية، وأخيراً طُرح موضوع “أسس السلام في دين السلام” ليسأل أين ذهب السلام وما دعاماته؟
لتقدم مجلة التجديد في عددها هذا قراءة تفصيلية معمقة فيما له علاقة بمفاهيم الدولة والدين، وتبحث عن قضايا العصر داخل أحداث الدولة لتقترح علاجات للقضايا الماثلة أمام الناس والمجتمعات في ظل الدولة العصرية وبأدواتها.
استجابات