كلمة العدد

نفيق كل يوم والعالم يشهد الأزمات المتلاحقة والمتسارعة التي تعصف به؛ والأخبار التي تشغل عالمنا منذ أشهر تنبئ عن انهيار النظام المالي العالمي، وما يستتبعه من كوارث متوقعة قادمة، والمزيد من الفقر، والبطالة، وثورة جياع، وانتشار الأوبئة والأمراض، وتلاشي القيم وفقدانها، وانتهاك غير مسبوق لحقوق الإنسان، في شرق الأرض وغربها. فبعد تسلّم النظام الرأسمالي سدّة السيطرة والتحكم في مصائر الشعوب بهيمنته السياسية والعسكرية وبمنظوماته الاقتصادية والثقافية والإعلامية المتوحشة شهدنا مقدمات سقوطه ومليارات البشر الذين ذاقوا صنوف ظلمه وقهره قلقون وحائرون من غياب البديل الإنساني الذي يحافظ على بقية الإنسان في هذا الكوكب بالمحافظة على إنسانيته ونظام قيمه، كما يحافظ على بقيّة الفضاء الذي يعيش فيه من ماء وهواء وأرض وحيوان ونبات.

مفكّرو أمتنا ومثقفوها مدعوون اليوم أكثر من أيّ يوم سبق لاستباق باب الفرصة لبيان الطريق إلى الغد المشرق الذي تنشده الإنسانية جمعاء، وذلك بقراءة التراث المؤسس للحضارة الإسلامية وتنقيته مما علق به من علائق السنين التي أدت إلى تقهقرها إلى خارج دائرة التأثير اللهم إلا الإطار الاستهلاكي الذي أريد لها أن تربض فيه.

إنّ وجود عناصر القوة في ثقافة الأمة ووجود العقول المؤمنة بذلك وبقدرتها على استخراجها وتقديمها للحضارة الإنسانية وفوق ذلك إيمان السواد الأعظم من الأمة ببزوغ فجر الحضارة الإنسانية الفاضلة بين يدي هذا الدين العظيم لهو خير معين ومحفّز للعمل الدؤوب والسعي الحثيث لبلورة البديل. من هنا تظلّ الدعوة قائمة لإيجاد الأرضيّة الثقافية للتغيير وذلك عبر الحركة الواعية والمنظّمة وتوحيد الجهود في سبيل هذا التغيير.

مجلة التجديد هي مساهمة جادّة على الطريق، تهتمّ بما يهمّ الأمة، ويبذل كتّابها جهدهم ليصفوا الداء ويعالجوا بالدواء الذي هو كامن في مصادر ثقافتها وتاريخها. ولقد تم تصميم هذا العدد والأعداد القادمة ليحتوي على ملف العدد، وهو ملف يهتم بقضية مصيرية من قضايا الأمة ويقوم بمعالجتها ثقافيّاً من زوايا عدّة لمحاولة رسم صورة متكاملة ومعالجات متعددة وفتح الأفق أمام الباحثين والقرّاء للنظر والعمل كلّ من زاويته ومقامه. كما وتوجد مقالات متعددة تعالج قضايا الأمة بنظرة تجديدية ومنهاج إصلاحي جديد.

مقدمة ملف العدد

استهلّ الرسول الأعظم محمد ابن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم دعوته لعشيرته ولقريش بعرضه عليهم إسلاما يتوافق مع فطرتهم التي فطر الله الناس عليها، يثبت قيم الإنسانية أولاً وأخيراً، فأطاح بالشرك والوثنية، بالشهادة الأولى لله، وأعلن السير على منهاج قيم الأنبياء على مر التاريخ بالشهادة الثانية لرسوله والإيمان بأنبياء الله ورسله من قبله، فكانتا بوابة الدخول في الإسلام المحمّدي، ولا يخرج المرء من هذا الإسلام إلا إنكارهما مرة أخرى. بذلك التبسيط تعامل الرسول مع المؤمنين الذين جعلهم الله أخوة “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”، فرسم بذلك منهجا للتعامل يحفظ للمؤمن بشهادته لله ولرسله دمه وماله وعرضه، له حقوق الأخوة كاملة غير منقوصة.

مرت الأيام والرسول يجتهد في خلقِ جيلٍ يحملُ مبادئه من بعده، يعلّمهم ويزكّيهم، ويمحّص فهمهم لمبادئ الدين، فكان له ذلك، ثم رحل راضيا مرضيا إلى جوار ربه. اجتهد المسلمون من بعده كما علمهم رسولهم، وتعددت آراء الرجال، في فضاء علمي رحب يتسع لكل هذا التعدد، ويرتكز على التسامح، فكان اختلافا محمودا بين أبناء الدين الواحد، والقبلة الواحدة، لأنه يزيد الآراء كمّاً ونوعاً بتدافعها، ويفتح أبواباً للأمة، ويزيد في تنوع خياراتها في مواجهة استحقاقات قضاياها. تحول بعدها هذا التنوّع إلى مناهج تفكير ومبادئ قامت عليها مدارس فقهية جديدة، لكلٍ أتباعها ومريدوها، وهو أمر محمود إن انحصر في الفكر، وعُدّ من الاختلاف الإيجابي الذي يبني ولا يهدم، ويتحرك ولا يقف، ولكن وقع المحذور، وتصنّمت آراء الرجال، ليتوقّف نتاج العقول، وتجمد على آراء بعينها وتضخمها، فتصير الآراء مذاهب عقائدية، ينتمي إليها حصرا بعض المسلمين ويُحسبون عليها، فيُتَعّصبُ لها، ويُقتلُ المخالف من أجلها، ويعد الخوض في بعض مرتكزاتها تعدّيا على الدين وخروجا عليه، فيشيع التكفير بدل التفكير، ويقمع الناس من إعمال العقل والاجتهاد، وتتوقف مسيرة الإبداع الذي أطلق شرارته المفكرون الأوائل، ويشهر سيف حد الردّة و الابتداع ليحزّ رؤوس المخالفين لهذا المذهب أو ذاك.

في هذا الملف عزيزي القارئ، وضعنا بين يديك قراءة معمقة ومعالجات نجزم أنها ضرورية لا غنى عنها، وملحة لا يمكن تأجيلها، حاولنا من خلالها تمحيص عقيدة الفرقة الناجية بسبر أغوار نصوصها التاريخية وإعادة قراءتها، هذه العقيدة التي أسّست شرعية التناحر وحفرت عميقا لتأرق وجدان المسلمين ومشاعرهم. رسمنا بعدها محيط دائرة المقدّس الجامع بين المسلمين وحاولنا نفي كل الزيادات الطائفية والمذهبية التي وسعت دائرته فأخرجت الناس من دين الله أفواجا لأنه ضاق فلم يسع المخالف. عمدنا بعدها إلى رصد دور الإعلام وعموم دور السياسات والساسة وقدمنا نماذج منها في تأجيج الاختلافات وإيقاد نار حروبها. ثم أخذنا المبادرة بعد التشخيص لكي نخرج من فضاء صندوق تفكيرنا الطائفي والمذهبي علّنا نتنفس هواءً نقيّا يساعدنا في اجتراح معجزة لإيجاد حلول جذرية تساعد في إيجاد علاجات أمراض الأمة المزمنة بعد تشخيصها بدقة وعناية.

إليك عزيزي القارئ هذا الجهد ولك أن تأخذ منه أحسن ما قلناه أو ترفضه، كلّه أو بعضه، فإنما هو اجتهادنا في خدمة الملة، ورفعة الدين، ومساهمتنا الجادة لنعيد لهذه الأمة بعض بريقها، لتستعيد مكانها، أمة وسطاً، شاهدة على الناس بقيم دينها، وعمل أبنائها من أجل سيادة الإنسانية.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *