حياة محمد (ص).. وأدواء أمة
أكثر ما يؤلم اليوم هو أن يتيه المسلمون في اختلافات فكرية وعقائدية وعاطفية وبين يديهم هدي سيرة أفضل خلق الله.. محمد (ص).
فبالرغم من أن كتب السيرة ومجامع الحديث تملأ المكتبة الإسلامية، وبالرغم من كثرة من كتب وحلّل في السيرة النبوية والشريفة، إلا أن تناول السيرة ظل سطحيا بعيدا عن واقعنا، وفي أحسن الأحوال باباً للوعظ وللتربية الفردية، أما أغلبها فحكايات تتلى على الأطفال والشبان في المدارس أو المساجد، عن بطولات الصحابة والفتوح، عن سجالات الرسول والمشركين، عن الهجرة والغزوات وغيرها.
لسنا هنا للتقليل من شأن تناول السيرة بهذا النمط، فهي بلا شك أهمُ أسباب ارتباط المسلمين بنبيّهم الخاتم عاطفيا بالدرجة الأولى، إلا أننا نحاول أن نشير في هذا العدد الخاصّ إلى زوايا مختلفة هامة في شخصية وسيرة خير خلق الله.
إنّ إشكالات فكرية وإجتماعية مزمنة في الأمة كالتشدّد الديني والطائفيّة، واختلال مفهوم الجهاد، ومعنى الشورى وتطبيقها، وأسس وحدود الدعوة، والتميــّز بين الكافر والمشرك، وحكم المرتدّ ومفهوم حرية العقيدة وحقوق المرأة وحدود حراكها في المجتمع والسياسة، ومفهوم الدولة وعلاقتها بالدين، والمقصد العام من الحكم الشرعي، وغيرها من المفاهيم، ما كان لكل تلك الإشكالات أن تستفحل في الفكر الإسلامي فتصبح أدواء مستعصية تشقّ صفوف المسلمين لو أننا نظرنا إلى السيرة النبوية بمنظار مختلف، نتجاوز به الإستلاب السياسي والتوظيفي والتحريفيّ لمفاهيمنا الدينية والروحيّة والأخلاقيّة.
اليوم كثير من الأحكام الشرعية المختلف عليها بين المسلمين إنّما كانت لغرض ما في حراك المسلمين اليومي وصراعهم في الجهادين الأكبر والأصغر، وكان لها مقصد خاصّ وظرف خاص، وكان (ص) يعمل بالمرونة ما يراه مناسباً في حركته التغييرية الشاملة وأولويات التحرّك في بناء شخصيّة الإنسان السويّ الحرّ أوّلاً، ثمّ صياغة الأمّة الوسط من جماعة الدعاة إلى الله، ثّم أخيراً – بما توّفر له- من بناء الدولة والمجتمع.
إلا أنّ ما يؤسف أن يقوم المسلمون بعد ذلك بالتخبـّط في أتون تفاصيل هذا الإرث العظيم فيتشبثون بقشور السيرة أو بجوانب منها مجتزأة وقوالب مجمّدة، وتغيب عنهم المقاصد الكبرى من وراءها.
إنّ الحياة المجتمعية في باكورة الدولة الإسلامية لم تكن من البساطة بحيث تكون التوجيهات النبوية الشريفة فيها سوداء أو بيضاء، وإنما كانت من التعقيد والتداخل ما يحتّم على النبيّ (ص) أن يتعامل معها بمّرونة تامة آخذا في الاعتبار أولويـّات عدّة، لقد كان (ص) يجسّد في كّل أفعاله مبادئ المحبــّة والسماحة، والتيسير، وحُسن المعشر، والحنكة، وبعد النظر، وكان هذا السلوك الشريف هو ما يعكس سماحة الإسلام ومرونته وتجدّده وتناسبه مع الأزمان والأمكنة، ولو تأمّل القارئ في بعض أخلاق السيرة لتبـّين له ذلك.. ولقد وصفه ربيبـُه عليّ (ع) أفضل وصف وأتــّمه (طبيب دوّار بطـبــّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يصنع ذلك حيث الحاجة إليه في قلوب عـُمي وآذانٍ صُم وألسنةٍ بُكم)، ما أحوجنا اليوم لاستدعاء هذا الطبيب الحاذق (ص)، والانتفاع بمراهم سيرته العجيبة حيث مواجعنا وأدوائنا وتخلـّفنا وتمـزّقنا ! وإننا في سبيل ذلك نقدم للقارئ الكريم هذا العدد الخاص المتزامن مع إطلاق “مشروع الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)” على أمل أن يضيف بعضا من عرى التوحد عبر الرجوع لسيرة هذا الإنسان العظيم الذي جمع بجميل خصاله وعظيم خلقه أناسي الشرق والغرب على مختلف ثقافاتهم ولغاتهم تحت راية واحدة هي الإسلام.
استجابات